في بدايات شهر حزيران/يونيو 2024 ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي، وبعض القنوات الإعلامية الناطقة بالعربية، بأخبار الهجمات والحوادث العنصرية ضد اللاجئين السوريين في تركيا، الأمر الذي طالما سُكت عنه، وعُمل على التعتيم عليه نوعا ما، أو عدم إعطائه مقدارا مناسبا من التغطية والمعالجة، لأسباب سياسية، وغيرها. هذه الظواهر العنصرية ليست محصورة في تركيا، فهناك كثير من الأخبار المتصلة بالقضية ذاتها، حدثت في البلاد المجاورة، التي لجأ إليها السوريون لسنوات، هربا من الحرب في بلادهم، ولكنّ عنصرية تركيا لم يجد الهاربون لها مثيلا، من جهة الحجم والشدة والجهر بالكراهية، ما قد يصحّ تسميته بـ”بوغروم” (مذبحة مدبّرة وسط أعمال شغب) حقيقي تجاه هذه المجموعة من البشر.
تزامنا مع ذلك، انتشر سيل من التبريرات والتعليلات، تؤكد أن ظاهرة العنصرية مصدرها علمانيو تركيا، ومعارضة الحكومة التركية التي يرأسها حزب العدالة والتنمية الإسلامي؛ أو أن العنصرية في تركيا أصلها “الغرب”، وعلاقة الترك معه في الفترة العثمانية، وتزامنها مع عصر الاستشراق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. بمعنى أن بعض الترك العثمانيين حاولوا تصوير أنفسهم على أسس فوقية حضارية، وهوية متمايزة عن العرب، لكي يكسبوا احترام وصداقة الأوروبيين.
محور تلك التبريرات أو الحجة السياسية في كلتا الحالتين، مبنية على لوم “الغرب”، واعتبار أن الضحية الحقيقية هو “الشرق” عموما. بل ربما يكون العنصريون الترك أنفسهم، وفق هذه الحجة، ضحايا “الغرب” الذي علّمهم العنصرية. بكلمات أخرى: نحن في الشرق والبلاد العربية والإسلامية ليس لنا علاقة بالعنصرية ولا “الاستشراق”، بحسب تعريفه الأيديولوجي، لا من قريب ولا من بعيد, لا بل نحن ضحيته التاريخية، فنحن وتاريخنا أسمى وأرقى من هكذا ظواهر سلبية ولا إنسانية. هل هذا صحيح فعلا؟ وهل كان علينا أن ننتظر الكولنيالية والرحالة الغربيين لكي ننتتج معرفة استعلائية تجاه الآخرين؟
مشكلة الآخرين: لماذا يظل نقد الاستشراق “غربيا”؟
لطالما عُرّف “الاستشراق” في منطقتنا وثقافتها بدلالة بعض جوانبه السلبية، كالعنصرية والشعور بالتفوّق الحضاري، وعُزي ذلك لكونه جاء ضمن المهمة الاستعمارية الغربية. في حين ظلّت مناهجه، بوصفه ميدانا بحثيا متنوعا، وأغراضه الأساسية، منسية أو مُتجاهلة، لدواع أيديولوجية وتعبوية. اكتملَ الأمر من ناحية اعتبار الجوانب السلبية في “الاستشراق” ظواهر دخيلة على البلاد العربية والإسلامية، مركزها ومنطلقها “الغرب”، ومجتمعاته التي لها تاريخ في الحداثة والتنوير، وما رافقهما من ظواهر اجتماعية وسياسية سيئة.
الدور الأكبر في هذه النظرة يرجع إلى أن المجتمعات “الغربية” تعاملت مع المشكلة، التي رافقت عملية الإنتاج الفكري والبحثي، وما رافق اكتشاف “الشرق” اجتماعيا، وثقافيا، وسياسيا، من مآس وجرائم؛ واعترفت بها علانيةً، من خلال الإعلام، الثقافة، والأكاديميات، من خلال تسليط الضوء عليها، ومراجعتها في في مراكز الدراسات والجامعات وغيرها. ويمكننا هنا بالطبع ذكر المفكّر المعروف إدوارد سعيد، وإرثه الفكري عن “الاستشراق”، وما تبعه من دراسات مدرسة “ما بعد الاستعمار”، لإدراك أمرين: “غربيّة” التعريف السلبي لـ”الاستشراق”؛ والمعالجة النقدية التي حظي بها في الغرب نفسه، كون سعيد، رغم أصوله الفلسطينية، أكاديميا أميركيا أيضا.
ولو سلمنا جدلا بالتعريف النقدي المذكور أعلاه، الذي بات بالتدريج تعبويا، وأخذنا بجوانب وظواهر، مثل نزعة العنصرية والتفوّق الحضاري في “الاستشراق”، تاركين المنهج نفسه، فسندرك أنها غير مقتصرة على “الغرب” ومجتمعاته، أي أنها ليست ظاهرة غربية محض، وعيب حضاري اجتماعي، أنتجه “الآخر”، وهو المناط الأول والوحيد بمعالجته ومكاشفته ومراجعته. فهو يحتاج منّا أيضا نظرة مختلفة، ونقدا جذريا لمنطق السببية والمحاججة المؤَسَس على الأخر، والذي يفضي لتحميله كل المسؤولية، الأمر الذي نرصده في كثير من أدبياتنا وتعليلاتنا المعاصرة.
الطامة الكبرى في هذه الأدبيات السياسية التاريخية، تبريرية الطابع، أن منطقها عنصري للغاية، قائم على فوقية حضارية وأخلاقية وثقافية، يجنح مستلهمها للقول إن حضارته وثقافته بلا عيب ولا دنس، وقد تكون ولدت من عذراء أيضا، فيما شرور العالم المعاصر كلها “غربية”؛ وتكمن المشكلة أيضا في تجاهل المعطيات المعاكسة لتلك الحجة، فمحاولات “الاستشراق”، بتعريفه الأيديولوجي، أي محاولة إنتاج معرفة “استعمارية” بالآخرين، ولو كانت معرفة قاصرة، لها تاريخ طويل وواضح في المشرق العربي والإسلامي، ودوّنها رحالة “دار الإسلام” على مدى قرون حكم الخلافة، ويمكن للقارئ العادي للتاريخ أن يخرج بأدلة دامغة على “أصالة” تلك المحاولات، وعيوب العنصرية المرافقة لها، في قلب منطقتنا وتاريخنا وثقافتنا.
رجل أبيض قديم: ماذا سرد المكتشفون المسلمون عن “دار الحرب”؟
بحسب ريتشارد ڤولتز، أستاذ ديانات الشرق والدراسات الإيرانية في جامعة “كونكورديا-مونتريال” الكندية، في دراسته “الاستشراق الإسلامي” 2008 ، فإن روايات الرحالة المسلمين إلى الهند والصين، ما بين القرن الرابع عشر وحتى السابع عشر، تحوي قدرا كافيا من المنقولات والتوصيفات عن تلك المجتمعات وثقافتها، لرصد محاولة “استشراق” قاصرة، ولكن فاضحة، إذا أخذنا “الاستشراق” بمعناه السلبي فقط. وتلك المحاولة لا تبيّن أكثر من نظرة “رجل أبيض قديم”.
إبن بطوطة مثلا، في رحلته إلى الهند في القرن الرابع عشر، لم يكن يرى في تلك البلاد أي شيء يستحق العيش، عدا مجتمعات المسلمين النخب، العاملين مع حُكّام وسلاطين الهند المسلمين. أما “الكُفار”، بحسب وصفه، فكانوا أشبه بوحوش برية تعيش في الأدغال والجبال والمناطق الوعرة، ومن الصعب “ترويضهم وإخضاعهم”، ولكن رغم ذلك، المسلمون فعلوها، عندما أمعنوا بالسيف فيهم. لم يكن رأي الرحالة المغربي أفضل في الصين وثقافتها ومجتمعها أيضا، بعد أن زارها لفترة قصيرة.
أما ظهير الدين بابر، سليل تيمور وجنكيز خان، ومؤسس الإمبراطورية المغولية في شبه القارة الهندية في القرن السادس عشر، فلم يجد، في فتوحاته ورحلاته الاستكشافية، شيئا في الهند جديرا بالتقدير والاحترام، لا المكان ولا الناس، الذين رآهم بشعين، ولا العلاقات الاجتماعية أو الفنون والمهن.، لم يجد نبلا ولا رجولة، ولا حتى طعاما جيدا أو خبزُا يؤكل، لكنه وجد ذهبا كثيرا، وسوقا للعبيد والقوة العاملة، الأمر الذي جعله يؤسس سلالته الامبراطورية هناك. لاحقا دعا بابر “أشقاءه” في الإمبراطورية العثمانية لزيارة الهند، فبعث برحّالة وبحار تركي آخر، اسمه سيدي علي ريّس، والذي نقل ودوّن ما هو قريب مما ما دوّنه بابر، فما يخصّ “الكفار” تحديدا.
تتعدد الأمثلة كثيرا في التاريخ الإسلامي، فهناك المنشد السمرقندي، ومحمود البلخي، في القرن السابع عشر، اللذين لم يختلفا عن من سبقهم كثيرا، إلا بأن الأخير أحاط النساء والجنس بعنايته الخاصة.
وطبقا لبرنارد لويس، في كتابه “ما الخطأ الذي حدث”، فإن الإمبراطورية العثمانية نفسها لم تكن ترى في بداياتها ما يستحق المعرفة أو الاكتشاف في “دار الحرب” أو الكفر، ولم تنشغل ببعث الرحالة، ولا حتى فكّرت بالسفارات، إلا في نهايات حكمها، وللضرورة القاهرة بطبيعة الحال، فالعالم بالنسبة لها يُختصر ويُفهم من خلال مفهوم واحد: “دار الإسلام” في مقابل “دار الحرب”.
وفيما هذا المفهوم بدوره قائم على نظرة “استشراقية” قاصرة و خاصة، و متبجّحة أيضا، فقد كان مؤذيا للغاية في آخر قرنين من حكم العثمانيين، فقد وجدوا عالما لم يتصوره بتاتا، ولم يتصوروا أن الدور (دور إسلام، كفر، معاهدين) لم تعد دورا أبدا، فقد بدأت وقتها ملامح عالم جديد بالظهور، لم يستطع أصحاب ذلك المفهوم مجاراته كثيرا .
لعله من المفيد اليوم، في زمن انتكاس الثورات و”الطوفانات”، أن نعيد النظر في منطق السببية والتبريرية الخاص بنا، لأنها من الأدلة أيضا على فشل حضاري وثقافي وسياسي دامغ وواضح، من غير الممكن ردّه كله إلى الأخر. وفي حالة تبرير العنصرية، ولوم الغير عليها، لم تعد تلك الرواية ولا الحُجة صالحة للاستعمال، ولا التعريفات المؤدلجة، كما لم يعد وصم معارضي هذا المنطق وشيطنتهم بالأمر الناجع ولا المستحسن. وكما هم البشر بطبيعتهم، فلم توجد حضارة أو ثقافة أو إمبراطورية صافية بلا عيب أو ظواهر سلبية.
نعم، ليس “الغرب” أو “الحداثة”، من علّم الترك، وغيرهم من المسلمين، العنصرية والاستعلاء، وبحث هذه السلبيات قد يحتاج تواضعا أكثر، وتظلّما أقل.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.