تخيّل معي، كيف سيكون الحال لو أن الرئيس الأميركي قرر إقامة حفل صاخب في حديقة البيت الأبيض، ثم سمح بإقامة عرض، يشارك فيه مثليون بممارسة جنسية جماعية، وسط حضور واسع من ضبّاط الجيش، برفقة الراقصين والراقصات؟
لن يجرؤ الرئيس الأميركي أبدا على فعل ذلك، حتى لو كان مثليا أو مناصرا لـ”مجتمع الميم عين”، ومع ذلك، فقد حدث ذلك المشهد المفترض فعلا في ظرف تاريخي آخر، وللمفارقة كان السياق شرقيا لا غربيا، وفي قصر سلطان المسلمين نفسه.
في إحدى صفحات مخطوطة “تحفة المُلك” العثمانية، نرى المُنَمْنَمَة التالية، التي تجسّد عرضا لعدد من الرجال، وهم في اتصال جنسي فعلي، جَمع ما بين الاحتفال والشبق، وكانت تلك العروض الماجنة شائعة في قصر السلطان العثماني وبيوت الأمراء، كما سنوضح لاحقا.
الأمر الذي يتبادر إلى الذهن الآن هو عرض افتتاح أولمبياد باريس منذ أيام، وما صاحبه من ردود الفعل في الوسط العربي، فقد انقسمت ردود الفعل العربية المستهجنة للحدث إلى شقين: رأت الأغلبية في الحدث حالة من الانحلال الأخلاقي والانفلات الجنسي الكبير، الذي وصلت له الثقافة الغربية، مقارنةً بالثقافة الشرقية (عربية أو إسلامية)، فنحن متأخرون على المستوى العلمي والاقتصادي، لكن مازلنا نحتفظ بقيم وعادات الشرق الراقية؛ ومن جهة أخرى، ربط البعض المشهد بمنظور تاريخي شائع: الاحتفاء بالمجون علامة واضحة على اقتراب سقوط التفوّق الغربي حضاريا.
وعندما تتأمل ردود الفعل على حفل افتتاح الأولمبياد، ثم تعاود النظر في تلك المنمنة العثمانية الصغيرة بالغة الفجاجة، لا يمكننا إلا أن نتساءل: ما تلك العادات والقيم الشرقية العتيقة المهددة؟ وهل فعلا شيوع المجون علامة سقوط حضاري؟
الشاب الأمرد: أين نبحث عن أخلاقيات الشرق الإسلامي؟
“يا أمّاه إن استًا في العراق خير من طاحونة بحمص”
رسالة صبي إلى أمه في العصر العباسي من كتاب “روض الأخيار”
أثناء حكم الخليفة العباسي هارون الرشيد، وهو العصر الذهبي للخلافة الإسلامية، قال أبو نواس، معبرا عن غضبه من كلام سمعه:
قالَ الوُشاةُ بَدَت في الخَدِّ لِحيَتُهُ فَقُلتُ لا تُكثِروا ما ذاكَ عائِبُهُ
الحُسنُ مِنهُ عَلى ما كُنتُ أَعهَدُهُ وَالشَعرُ حِرزٌ لَهُ مِمَّن يُطالِبُهُ
أَبهى وَأَكثَرُ ما كانَت مَحاسِنُهُ أَن زالَ عارِضُهُ وَاِخضَرَّ شارِبُهُ
تعجّب الشاعر في الأبيات من استهجان الناس لاستمرار علاقته الجنسية مع غلامٍ قد بَلغ ونبتت لحيته، ولذلك سَخر منهم، قائلا إن لحية الغلام زادته جمالا، وحفظته من شهوات بقية الرجال.
إذن، تشير كلمات أبي نواس إلى ما هو شائع في بغداد: معاشرة غلام أملس الوجه، أي لم يبلغ بعد. وتكمن غرابة الشاعر فقط، بالنسبة لمعاصريه، في عشقه لغلامه البالغ، في ظل وجود عديد من الغلمان الصغار.
لم تكن معاشرة الغلمان ممارسة سرية، كشفها أبو نواس في شعره، بل كانت جزءا من ثقافة بغداد في القرن الثاني الهجري، فقد شاعت عادة حب الغلمان في الخلافة العباسية، إلى درجة تفوّق سوق الغلمان على سوق الجواري في وَضَح النهار، مما دفع النساء للتشبّه بالغلمان في الملبس والهيئة لجذب الرجال، وأصبحن يعرفن بلقب خاص هو “الغُلاميات”.
تشبه حالة “الغلاميات” ما يُعرف حاليا في الثقافة الشعبية الغربية خصوصا بـtomboy، إلا أن الفارق في العصر العباسي اقتصار الغلاميات على الغواية الجنسية فقط، وولم تتحوّل إلى هوية جنسية كما في الغرب حاليا.
ومن علامات شيوع الأمر، ما نقله لنا الجاحظ والأماسي وغيرهما، من مناقشات كلامية حول تفضيل الغلمان على النساء، أو العكس، إذ يحاول كل طرف إقناع الآخر بميوله الجنسية عن طريق الحجة.
“إن من فضل الغلام على الجارية أن الجارية، إذا وُصفت بكمال الحسن، قيل: كأنَّها غلام ووصيفةٌ غلامية” (رسائل الجاحظ)
“فالصغار ألذ طعما، وأحلى إن أردت بهم فعالا” (الشاعر ابن أبي البغل – من كتاب الدواوين العباسية)
“قيل لبعضهم: لمَ اخترت الغلام؟ فقال: لأنه لا يحبل ولا يحيض” (روض الأخبار – الأماسي)
وذكر آخرون أسبابا معنوية: “قيل لأبي مسلم صاحب الدعوة: لم قدّمت الغلام على الجارية؟ قال: لأنه في الطريق رفيق، وفي الإخوان نديم، وفي الخلوة أهل“.
قد يخّيل إليك في البداية أن العادة مقتصرة فقط على فئة غير ملتزمة دينيا من شعوب الخلافة، لكن الخبر التالي في كتاب روض الأخبار، يوضح طبيعة سوق الغلمان: “قيل لمؤاجر في رمضان: هذا شهر كساد، قال: أبقى الله اليهود والنصارى” (المؤاجر: من يمارس الجنس المثلي بأجر).
يوضح الخبر أن سوق الغلمان، كان يمرّ عادة بفترة كساد في شهر رمضان، لتفرّغ أغلب المسلمين للعبادة، فلا يبقى من زبائنه إلا المسيحيون واليهود. مما يعني أن العدد الأكبر من مريدي سوق الغلمان، في بقية شهور السنة، هم مسلمون يمارسون الشعائر الدينية.
العجيب هنا، أننا نتحدث عن ظاهرة أكثر تطرفا بكثير من المثلية الجنسية الحديثة، التي تثير الرعب في العقلية العربية، فقد أطاحت ظاهرة حب الغلمان الإسلامية بثلاثة محرمات معاصرة، سواء كانت شرقية أو غربية، لأنها مزجت، بدرجات متفاوتة، ما بين المثلية الجنسية، المستهجنة بشدة في الثقافة العربية الحالية؛ والبيدوفيليا، المرفوضة في الثقافة العربية والغربية معا؛ إضافة إلى العبودية، التي تجاوزها العالم أجمع.
ولم تكن المنظومة الفقهية الدينية بعيدة عن التأثّر بتلك الحالة، فرغم هجوم أغلب الفقهاء على “فعل قوم لوط”، إلا أنهم تمسّكوا بآراء فقهية عديدة تبيح البيدوفيليا تجاه الإناث، تحت عنوان شرعي مقنن: “نكاح الصغيرة”.
ومن ذلك مثلا قول ابن بطال: “يجوز تزويج الصغيرة بالكبير إجماعا ولو كانت في المهد“. وقول الحنابلة: “إذا بلغتِ الصغيرة تِسْعَ سنين، دُفِعَتْ إلى الزوج، وليس لهم أن يَحبسوها بعد التِّسع، ولو كانت مهزولةَ الجسم، وقد نصَّ الإمامُ أحمد على ذلك”.
الأدهى في الأمر، تسلل الولع الشعبي بحب الغلام الأملس إلى سقف العقيدة نفسه، عند السلفيين والحنابلة خصوصا، وذلك في تمسّكهم برواية الحديث النبوي التالي، عن وصف الذات الإلهية: “رأيتُ ربِّي في أحسنِ صورةِ شابٍّ أمردٍ (أملس) عليهِ حلَّةٌ خضراءُ“.
إن المسألة هنا ليست عقائدية في جوهرها، لأنها تعبّر في الأساس عن الكمال الجسدي في نظر الثقافة الشائعة وقتها، إذ يربط الحديث النبوي (بعيدا عن صحته أو ضعفه) التفضيل الجسدي لهيئة الشاب الأملس، بكمال الذات الإلهية نفسها، أي أنه يكشف لنا عن الصورة المثالية للهيئة والجسد في ذهنية ذلك العصر.
لذلك، لا نجد أي معنى لما يسمى “بالأخلاقيات الشرقية الإسلامية”، كلما توغلنا تاريخيا إلى الوراء. فقد انتشرت كثير من المحرمات المعاصرة، الأخلاقية (البيدوفيليا) والاجتماعية (المثلية)، بين النخبة والعوام، بدون أدنى حرج. ومن ناحية أخرى، انشغل الفقه بشرعية ذلك من حيث النصوص الشرعية، أكثر من انشغاله بطرح السؤال الأخلاقي المجرّد، مثل التساؤل مثلا عن مشروعية العبودية أخلاقيا، أو تحويل الأطفال لألعاب جنسية.
كانت النتيجة النهائية لذلك التناقض ما بين الممارسات الشعبية في الواقع، والجمود الفقهي في النص، حالة من النفاق الاجتماعي، في كل ما يخصّ الأفعال والأدوار الجنسية خصوصا، وهو ما سخر منه الشاعر الإيراني عبيد الله الزّاكاني، في القرن الرابع عشر الهجري، من خلال روايته للقصة التالية، بعدما زار عددا من مدن العالم الإسلامي: “في مدينة قُم، كان هناك شيخان تعوّدا على ممارسة اللواط معا منذ الطفولة. في إحدى المرات، صعدا إلى قمة منارة المسجد، وقاما بفعلتهما المعتادة. وبعد الانتهاء من الأمر، قال أحدهما للآخر: “لقد فسدت مدينتنا لشيوع الفاحشة فيها”، فأومأ الآخر برأسه وقال: “نحن شيوخ المدينة وكبارها الموقرون، فما الذي نتوقعه من الآخرين؟“. (رسالة دلگشا – عبيدالله الزاكاني)
يقودنا ذلك التناقض إلى تساؤل جوهري: ما موقف السلطة في عصور الخلافة المختلفة من ذلك؟ أو بعبارة أخرى: هل هناك رابط ما بين شيوع ممارسات جنسية معيّنة، وبين تفوّق المجتمع سياسيا وحضاريا؟
رجوع الشيخ إلى صباه: كيف استمد الخلفاء القوة من عبادة الجنس الوثنية؟
“لا يرتفعُ في المناصبِ إلّا مَن كان مَلوطا به”
مثل عثماني مبكر
إن السرد التقليدي عن دورة الحضارة الإسلامية، يدور في أغلب الكتابات بالشكل التالي:
قامت الأسر الحاكمة (الأمويين، العباسيين، العثمانيين) بتأسيس دول قوية على يد عدد من الخلفاء والقادة الأقوياء، واتسعت رقعة الإمبراطورية الإسلامية عسكريا، وهيمنت على باقي الثقافات لقرون عديدة، ثم دبّ الضعف فيها في مراحل متأخرة، نتيجة لشيوع الانحلال الأخلاقي، وعادات الترف والمجون الغريبة عن روح المؤسسين الأوائل.
إن تلك الرواية الشهيرة، على تعدد أشكالها، تقوم على فكرة ثابتة: كان الأوائل محققين للمثال الذكوري المستقيم (صلابة وتطهّر وقوة)، أما خطيئة المتأخرين فهي السقوط في الانحلال، والحياد عن الاستقامة الأخلاقية أو الذكورية على الأقل.
لكن: هل ذلك الربط ما بين السلوك الأخلاقي التقليدي والتفوّق السياسي حقيقي فعلا؟
دعنا نستعرض نموذجا تاريخيا محققا للتفوّق السياسي والهيمنة العسكرية، وفقا للمخيّلة التقليدية: بطل الإسلام وفاتح الهند ومحطّم الأصنام، السلطان محمود الغزنوي
لقد استطاع الغزنوي، في القرن الحادي عشر الميلادي، استعادة الحالة الأولى للحاكم الإسلامي: التفوّق العسكري، القائم على الغزو، الممزوج بالرغبة الدينية في نشر الإسلام.
تحكي الروايات، كيف كان الغزنوي يتلو الآيات القرآنية عند تدميره لتماثيل الهندوسية الكبرى، فقد خاض حوالي سبع عشرة معركة ضد الشعوب الهندية، وغزا مدينة “زان ور” المقدسة خصوصا، لهدم تمثال شمال الهند الأشهر: “شكراص فامي”.
وفقا للروايات الإسلامية، قتل الغزنوي في حملته على بلاد الهندوس مئات الآلاف من الشعب الهندي، في أقل من ثلاث عشرة سنة فقط (بعض الأرقام تصل لأكثر من مليون ضحية). ووفقا للمؤرّخ الشهير وول ديورنت: “الغزو الإسلامي للهند، على الأرجح، هو الأكثر دموية في التاريخ. حتى المؤرخين المسلمين، وثّقوا، بكثير من الاعتزاز، تفاصيل مجازر ذبح الهندوس الجماعية، وكذلك طقوس الاعتناق الجماعي للإسلام، وكيفية سوق النساء والأطفال إلى السبي، وقوافل العبيد السائرة الى أسواق النخاسة، وتفاصيل تدمير المعابد من قبل جنود الجيش“. (ميراثنا الشرقي – The Story of Civilisation: Our Oriental arv 1935 – ص 459).
وقد اعترف الخليفة العباسي القادر بالله بالغزنوي سلطانا للمسلمين، لجهوده في نشر الإسلام، خالعا عليه كل الألقاب السابق ذكرها. لكن، هل كان الغزنوي محققا لشرط الاستقامة الذكورية والأخلاقية، وفقا للفهم التقليدي، مع كل تلك الهيمنة العسكرية والسياسية والدينية أيضا؟
يحكي لنا البيهقي والبيروني، وغيرهم من المعاصرين لحياة السلطان الغزنوي، عن عبد من أصول جورجية، اسمه “مالك أياز”، في حاشية السلطان، والذي أصبح مع الوقت واحدا من غلمانه، ثم حاز على المكانة الأقرب بلا منازع، بل جعله السلطان أميرا، واجلسه على عرش مقاطعة لاهور.
وفي رسالة “چهار مقاله المقالات الأربع”، يشرح لنا الأديب الفارسي النظامي العروضي، أن سر مكانة مالك عند السلطان تعود لحالة عشق كبيرة، ملكت قلب الغزنوي، إلى حد أنه أمر مالك بقص شعره، لكي تهدأ رغبته فيه أثناء تأدية المهام في الديوان. أما في الروايات الشعبية، فقد نقلت لنا الأشعار الفارسية عديدا من قصص الغرام، التي جمعت السلطان بالغلام، حتى أصبح السلطان عبدا لعبده.
ولكن هل كان السلطان الغزنوي وعشيقه الجورجي مجرد استثناء؟
لم يكن سلوك الغزنوي في القرن الخامس الهجري جديدا، فقد صرّح الأمير الأموي سليمان بن يزيد، في القرن الأول الهجري، عن سلوك أخيه المثلي (الخليفة الوليد بن يزيد)، وتعدّى ذلك قائلا: “لقد راودني عن نفسي“.
وقد وصف الجاحظ مرافقة الغلمان لقادة وجنود الجيش العباسي، الذي أطاح بالحكم الأموي، وقام بتأسيس الخلافة الأشهر في التاريخ الإسلامي؛ ونقل لنا الطبري ذروة السلوك المثلي عند الخلفاء العباسيين، أثناء حديثه عن حكم الخليفة الأمين: “اشترى الغلمان وصيّرهم لخلوته في ليله ونهاره، ورفض النساء الحرائر والجواري“. وقد كان اغتيال “الكوثر”، وهو الغلام المفضّل للخليفة الأمين، سببا في ترك الأمين للقتال، أثناء صراعه على العرش ضد أخيه المأمون.
لم يختلف الحال حتى مع الخليفة المُتَوكِّل عَلى الله، أكثر الخلفاء العباسيين تشددا من الناحية الدينية، والذي فرض المذهب السني، وقضى على مذهب المعتزلة، حتى لُقّب بـ”الخليفة مُحيي السُنَّة”، فقد اشتهر المتوكل بحبه الشديد للغلمان، الأتراك خصوصا، وكان حريصا على جمعهم في حاشيته، إلى درجة شرائهم من أيدي مواليهم، حتى وصل عدد غلمانه الأتراك إلى أربعة آلاف، وشاعت علاقة عشقه الشهيرة مع الغلام التركي “المملوك شاهك”.
المثير للانتباه حقا، ما حدث بعد سقوط الخلافة العباسية بحوالي 300 عام، وهي لحظة تأسيس الخلافة العثمانية، وهنا نلاحظ أمرا مدهشا: بعدما فرغ السلطان سليم الأول من بسط نفوذه على مراكز العالم الإسلامي، كلّف الفقيه الشهير “كمال باشا أوغلو” بتجميع وترجمة مجموعة من النصوص العربية القديمة إلى اللغة التركية، عُرفت تلك النصوص باسم “رجوع الشيخ إلى صباه” (في الفارسية: الباهنامه)، ومن خلال ترجمتها على يد السلاطين والأمراء العثمانيين لسنوات عديدة، تطوّرت تلك النصوص وصولا إلى مخطوطة “نظام الملك”، المرفقة بلوحات، منها التي عرضناها في مقدمة المقالة.
ومن خلال نسخة المخطوطة المصوّرة، نرى لأول مرة تنوّع المشاهد الجنسية العديدة، التي احتجبت لقرون طويلة خلف الأشعار وروايات الإخباريين، بداية من الجنس الاعتيادي مع النساء، مرورا بالجنس المثلي، ووصولا إلى مشاهد حفلات الجنس الجماعي.
ومن خلال تحليل المخطوطة، نجد حضورا قويا للنخبة العسكرية العثمانية خصوصا، إضافة إلى ظهور السلطان المعاصر لفترة كتابتها في الصفحة 201 (السلطان العثماني محمود الثاني).
إن سر الكامن وراء حرص السلطان سليم الأول على نقل ذلك التراث الإيروتيكي في عصره العاصف بالحروب والغزوات، يعود إلى اعتقاد شرقي قديم، يربط بين العربدة الجنسية وتجديد قوة وطاقة الملوك، وهو ما يظهر بوضوح في عنوان النصوص نفسها: شيخ يستعيد شبابه من خلال قوة الجنس.
لم تكن الممارسات الجنسية في قصور الخلافة مقصورة فقط على تحقيق المتعة وإشباع اللذة، لكنها ارتبطت أيضا بالتراث الوثني القديم للشرق الأدنى، الذي ورثته الخلافة الإسلامية، فذلك الربط بين تجديد القوة واكتساب الهيمنة، وبين الطاقة الجنسية، يعود في جذوره القديمة إلى طقوس الخصب الوثنية. فمن المعروف مثلا، ارتباط وفرة النيل وزهرة اللوتس المصرية تحديدا بذلك الدور الجنسي المجدّد للقوة، ومن العجيب أن واحدة من أقدم الآثار الإسلامية المكتشفة، تُعبّر عن ذلك الرابط بشكل بصري مباشر: في داخل بقايا قصر عميرة بالأردن، والذي يعود تاريخه إلى خلفاء الدولة الأموية (نسل عبد الملك بن مروان – تقريبا ما بين 723 إلى 740 ميلادي) نرى هذه الجدارية العجيبة للمرأة العارية
وقد لفت انتباه الأثريين وجود زهرة اللوتس في اللوحة، وهي زهرة مرتبطة بالنيل المصري تحديدا (وفقا لتحليل خبراء الفن القديم: Aleksey Lidov وDr. Beatrice Leal)
لكن الأكثر أهمية أن موقع الجدارية بالقصر يقع في مقابلة الجدارية الأهم: الخليفة جالسا على العرش، وهذا التقابل ما بين الجدارية الكبيرة للخليفة وعرشه، وبين جدارية المرأة العارية في مياه النيل واللوتس، تشير إلى الخليفة، بصفته مجدد الحياة والوفرة والخصوبة، وهي تيمة وثنية شهيرة، تعود لعلاقة الملك بآلهة الخصوبة: الآلهة تموز وعشتار في العراق مثلا؛ الإله مين وأوزوريس في مصر القديمة؛ الإله بعل في سوريا، ومن المفارقات المثيرة للسخرية، أن الوريث الخجول لكل هؤلاء في الحضارة الغربية هو الإله اليوناني ديونيسوس.
نعم، ذلك المُقدّم باللون الأزرق في حفل افتتاحية أولمبياد باريس، جَسَد صورة محتشمة من المجون الشرقي القديم.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
مجهود رائع
مقالة ممتازة
مقالة ناشرة للمعرفة ونور الثقافة التاريخية امام جحافل الجهل وظلام الادعاء والتشدد. مجهود عظيم ونتيجة مشوقة
مجهود بحثى محترم جدا.وان لم يوفق الكاتب للبحث فى ما هو أحدث من التاريخ. فالمذكور عن التاريخ العباسى والأموى والعثمانى هو بمعايير علم السلوكيات بعيد التأثير فلو كان البحث أشار الى تاريخ أقرب )والأمثلة موجودة من عهود أقرب) لكان الموضوع أكثر وقعا. و