أوليفيمي تايوو: هل يساعدنا “نزع الاستعمار” في أخذ أنفسنا على محمل الجد؟

نشرت هذه المقالة باللغة الألمانية في جريدة Neue Zürcher Zeitung (NZZ) السويسرية، وتٌنشر ترجمتها العربية في “حيّز” بالتنسيق مع الكاتب والجريدة.
“لا تكترثوا بلون بشرتي ولا تأخذوه بعين الاعتبار!“، بهذه الكلمات، يشجّع أوليفيمي تايوو Olúfẹ́mi Táíwò، أستاذ الفكر السياسي النيجيري بجامعة كورنيل الأميركية المرموقة، طلابه على الانخراط في نقاش حر. ويضيف: ”لا تخافوا من طرح الأسئلة، ولا ترتدوا قفازات وأنتم في محاضراتي“.
في محاضراته، يسود مناخ من الحرية الفكرية، التي لا تعرف المحظورات. يقول تايوو، شارحا فلسفته: ”في فصولي الدراسية، يمكنك أن تقول أي شيء، حتى الأشياء التي يمكن أن يُنظر إليها على أنها عنصرية، طالما أنك مستعد لتبرير وجهة نظرك لزملائك الطلاب، بطريقة محترمة“. غالبا ما يثير نهجه هذا حفيظة زملائه بالجامعة، لكن بالنسبة له حرية التعبير هي أساس كل تفكير فلسفي.
تايوو رجل مشغول. بعد عدة محاولات، تمكّنا أخيرا من إجراء محادثة معه عبر تطبيق “زووم”. فقد عاد لتوه من جولة محاضرات، قدّم خلالها كتابه الجديد ”ضد نزع الاستعمار: أخذ الوكالة الأفريقية على محمل الجد“، في قسم العلوم السياسية في “كينغز كوليج لندن”، وفي جامعة يورك. والرحلة القادمة مبرمجة مسبقا: في آب/أغسطس من العام الحالي 2024، سيلقي تايوو محاضرة عن أفريقيا وإرث التنوير، في “منتدى آينشتاين” في مدينة بوتسدام الألمانية، بمناسبة الذكرى السنوية الثلاثمئة لفيلسوف التنوير الشهير إيمانويل كانط.
تتجسّد أحد الاهتمامات المركزية لتايوو في إظهار بدايات الحداثة في أفريقيا، قبل الحقبة الاستعمارية. ففي كتابه ”كيف أجهض الاستعمار الحداثة في أفريقيا“، يجادل بأن الاستعمار عرقل عملية التحديث، التي كانت قد بدأت بالفعل في أفريقيا. كان رواد هذه الحداثة المبكّرة في المقام الأول المبشّرون المسيحيون الأفارقة، الذين نشروا التعليم الغربي وأفكار التنوير في جميع أنحاء القارة. إلا أن هذا الأفق التحرري خُنق بسبب عنصرية الحُكّام الاستعماريين، الذين حرموا الأفارقة من القدرة على حكم أنفسهم بأنفسهم.
في كتابه الحديث ”ضد نزع الاستعمار: أخذ الوكالة الأفريقية على محمل الجد“، يهاجم تايوو تيار “نزع الاستعمار” المتفشّي في الأكاديميات الغربية، بطريقة ذكية، بقدر ما هي مثيرة للجدل. فبالنسبة له، تحوّل المصطلح إلى كلمة طنانة لا معنى لها، تتجلّى في شعارات مثل ”نزع استعمار الجامعة“ أو ”نزع استعمار الجغرافيا“ أو حتى ”نزع استعمار الطعام“، بدون تقديم أية مساهمة جادة في النقاش الفكري. تحدد هذه الشعارات الطنانة ما يسمى بـ”منعطف إنهاء الاستعمار” decolonial turn، وهو ما يتناوله تايوو بشكل نقدي في كتابه.
يميّز تايوو بين شكلين من نزع الاستعمار: الشكل الأول يعني الاستقلال السياسي للمستعمرات السابقة عن القوى الاستعمارية، وقد تحقق ذلك إلى حد كبير في أفريقيا؛ أما الشكل الثاني، وهو الأكثر إشكالية، فيطالب المستعمرات السابقة بـ”تطهير“ نفسها من جميع التأثيرات الثقافية والفكرية واللغوية المنسوبة للحقبة الاستعمارية. وهنا يأتي نقد تايوو الحاد.
تايوو يقول إن أنصار “نزع الاستعمار” يقبلون تماما بإخضاع الوعي لمنطق العرق، على سبيل المثال، من خلال ترميز الحداثة على أنها بيضاء، وبالتالي بوصفها شيئا معاديا للسود في جوهره، فيحكم على الأفارقة بكونهم مجرد ”مقاومين أو ضحايا للحداثة“، بدلا من التبنّي النقدي للحداثة. إن ”جعل الإستعمار هو المحدد الجوهري لما هو أفريقي، يحوّل الأفارقة إلى تابعين subaltern أبديين في تاريخهم“.
بالنسبة لتايوو ينطوي خطاب نزع “الاستعمار“ على نزعة رجعية، فالاستدعاء غير النقدي لتقاليد ما قبل الاستعمار، بوصفها ملجأ للأصالة الأفريقية، غالبا ما يؤدي إلى ”نزعة وطنية”، تريد الحفاظ على كل ما هو “أصلي”، وبالتالي “نظيف” من التأثيرات الأجنبية. مثالا على ذلك يناقش طرح الفيلسوف الغاني كواسي وايردو، الذي يريد ”تطهير“ الفكر الأفريقي من الفكر الغربي الملوّث استعماريا كما يزعم. يرى تايوو في ذلك اختزالا أنطولوجيا لأفريقيا. لأن فكرة أفريقيا ما قبل الاستعمار، التي كانت خالية من أي تأثيرات أجنبية، مجرّد فكرة خيالية. في الواقع، كانت هناك دائما مؤثرات وأفكار خارجية، اعتنقها الأفارقة، سواء كان ذلك طواعية أو بالإكراه. أحد الأمثلة على ذلك هو الإسلام نفسه، الذي أصبح الآن من الثقافات الأصليّة، وكان له تأثير دائم على التطوّر الثقافي لأفريقيا ككل. إن استيعاب وتبنّي عناصر ثقافية خارجية وتدجينها، هو عملية طبيعية للتطوّر الثقافي، والتمجيد الرومانسي لحالة ما قبل الاستعمار ”النقية“ يتجاهل هذه الحقائق التاريخية.
كان المفكرون الكبار المناهضون للاستعمار، من فرانتز فانون إلى أميلكار كابرال وسيكو توريه، يضعون هذا الأفق الإنساني التاريخي في الاعتبار. لقد قدّروا جميعا إنجازات الحداثة، وثمّنوا جميعا دورها التحرري، ثم وظّفوها بشكل نقدي، ليس في خدمة تفوّق البيض، بل من أجل تحويل وعود الحداثة الكونية ضد الغرب الإمبريالي نفسه. ومع ذلك، فإن التوجّه الإنساني لفكر فانون ورفاقه هو بالضبط ما يتجاهله دعاة “نزع الاستعمار” اليوم، هذا التجاهل المركّب، يتناسى أيضا حقيقة أن عديدا من الأفكار، التي يُزعم أنها أفريقية أصيلة، هو في الواقع من أصل أوروبي، سواء في استدعاء مفهوم “الجماعة العضوية”، أو “نقد الحضارة الغربية”، على نهج الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر.
يقول تايوو إن مقاربة نزع الاستعمار تحجب رؤية مصادر القمع الأخرى. لا يمكن إرجاع ممارسات مثل زواج الأطفال، أو نظام التمييز العرقي، أو الظلامية الدينية إلى الإرث الاستعماري وحده، بل يجب أن تُطرح بشكل مستقل. إن الهوس بـ”نزع الاستعمار”، وتطهير الثقافة المحلية من التأثيرات الغربية، يُحصّن مثل هذه التقاليد الرجعية من النقد، بل ويمنع تقدّم أفريقيا.
يمكن ملاحظة هذه المشكلة أيضا في سياقات “دول ما بعد الاستعمار” الأخرى. ففي الهند على سبيل المثال، تتبنّى القوى العرقية القومية خطاب “نزع الاستعمار” من أجل العودة إلى هوية أصلية نقيّة مفترضة. وتحت راية “نزع الاستعمار”، تُحارب القيم الديمقراطية، ويتعرّض المسلمون للتهميش والتهديد بشكل متزايد، بعد أن أعيد تفسيرهم، وفق سردية “نزع الاستعمار”، بوصفهم مستعمرين.
كما يتهم تايوو الأكاديميين، الذين يركبون موجة “نزع الاستعمار”، بالانتهازية، فهم في النهاية يستفيدون من التمويل الوفير، المقدّم من الغرب ذاته، الذي يدّعون أنهم يريدون نزع استعماره.
يذكّرنا هذا النقد بنقد المفكر الهندي إعجاز أحمد لإدوارد سعيد، وأطروحته عن الاستشراق. في قراءته لكتاب سعيد، بعد أربعة عشر عاما من نشره، تساءل أحمد: لماذا وكيف يمكن لعمل، به الكثير من نقاط الضعف الواضحة، أن يصبح كتابا معبودا بين الأكاديميين؟ وقد وجد أن تركيز سعيد على التمثيلات الفكرية، بدلا من الوقائع المادية، إضافة إلى إعطائه الأولوية للعنصرية على حساب عدم المساواة الطبقية والجنسانية، أثبت فائدته بشكل خاص للباحثين الصاعديين من البلدان النامية، الذين قدموا إلى الجامعات الأميركية. وغالبا ما أتى هؤلاء المهاجرون، الذين كان معظمهم من الذكور، من الطبقات الحاكمة في بلدانهم الأصلية، حتى أن بعضهم كان قد ازدهر ماديا خلال الحقبة الاستعمارية. ومع ذلك، وفقا لأحمد، فقد زوّدهم كتاب سعيد بـ”سرديات الاضطهاد“، التي مكّنتهم من الحصول على ”معاملة تفضيلية، ووظائف محجوزة، ورواتب أعلى“. أما بالنسبة لفئة أكثر رقيا من “الرعايا الشرقيين”، فقد أصبح التنديد بالغرب الإستشراقي وسيلة للحصول على وظيفة دائمة فيه. وعلى نحوٍ مماثل، يمكن القول إن أطروحة “إنهاء الاستعمار” اليوم تمكّن الأكاديميين غير الموهوبين من الحصول على امتيازات أكاديمية ومادية. فالدافع الأخلاقي، والشحنة السياسية الهوياتية لأبحاثهم، تحصّنهم ضد النقد، حتى لو كان طرحهم ضعيف المضمون.
باختصار، إن أولئك الذين يؤمنون بإفريقيا المختلفة أنطولوجيا عن الغرب، وبالتالي يجب تحريرها من التأثيرات والمخلّفات الأجنبية، هم في الواقع يستخدمون قراءة غير تاريخية، صنعها المستعمرون أنفسهم، لإضفاء الشرعية على استعمار إفريقيا. إن إنهاء الاستعمار الحقيقي يعني الوقوف ضد تغريب إفريقيا عن السياق العالمي، وإدماج القارة في الدائرة الفكرية العالمية، من خلال تسليط الضوء على مساهمتها في التقدّم الإنساني، وليس من خلال عزلها، وجعلها فضاءا غرائبيا.
لدى تايوو إجابة واضحة على السؤال الفاصل حول ما تحتاجه إفريقيا في الواقع: ”لا تحتاج أفريقيا إلى خطابات إنهاء الاستعمار، بل يجب أن تؤخذ على محمل الجد في فلسفتها وتاريخها“. ويوضح ذلك بمثال أولودا إكويانو، وهو كاتب أفريقي من القرن الثامن عشر، كان معاصرا لتوماس جيفرسون. فكلاهما نشر حول موضوع الحرية. طُبع كتاب إكويانو ثماني طبعات جديدة، مما جعله من أكثر الكتب مبيعا، بينما لم يحقق جيفرسون هذه المكانة أبدا، رغم هذا فقد أُدرج الأخير ضمن أهم كتّاب التنوير، فيما لم يُدرج إكويانو. يرى تايوو أن هذا يدلّ على محو المفكرين الأفارقة من تاريخ الأفكار.
يرى تايوو أن بعض التيارات في الدراسات الأفريقية، التي تحدد أفريقيا وتؤرّخها بشكل حصري من خلال التاريخ الاستعماري، كما لو لم يكن هناك شيء آخر في أفريقيا باستثناء التجارب الاستعمارية، هي المسؤولة عن هذا الوضع.
”لقد حان الوقت“، يقول تايوو بصوت ملح، “أن نتجاوز الخصوصية الهوياتية والغرائبية، ونتعامل بجديّة مع المفكرين الأفارقة، بوصفهم جزءا من الفكر العالمي“
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.