السلطة المؤمنة: كيف تطوّر “ازدراء الأديان” مع “دين الدولة”؟

السلطة المؤمنة: كيف تطوّر “ازدراء الأديان” مع “دين الدولة”؟

في أيار/مايو 1926، أمسى طه حسين، المُلقب بـ”عميد الأدب العربي”، مُتهمًا بـ”ازدراء الدين الإسلامي”، بناءً على بلاغ من طالب أزهري، أغضبه كتابه “في الشعر الجاهلي”. الكتاب جعل حسين هدفا لخصومات أخرى، سواء من شيخ الأزهر، أو عضو بمجلس النواب، اعتبراه “طاعنا في الإسلام، الدين الرسمي للدولة، وفي نبيه، ومُكذّبا للقرآن“. ليخضع لتحقيقات، انتهت بمفاجأة، هي حفظ البلاغات، فلا حبس كما حدث مع غيره ممن اتهموا بـ”ازدراء الأديان”، ولا اتهام بـ”الرّدة والكفر”، أعقبه محاولة اغتيال، مثل التي نجا منها نجيب محفوظ، وقتلت فرج فودة.

مرّت قضية “عميد الأدب”، كما مرّت  مصر نفسها بتغييرات سياسية وثقافية وتشريعية. لكن هذه الخصومات استمرت، وبنجاح، في التكيّف مع التغيّرات، بين عصر مطابع وكتب، وعصر تكنولوجيا وإنترنت، بل وأحسنت استغلال الوسائل الحديثة، بما تحققه من انتشار وإلغاء حدود، في تصيّد خصومها، وآخرهم اليوتيوبر المصري شريف جابر، الذي صدر بحقه حكم، في أيار/مايو 2024، بالسجن خمس سنوات، بعد إدانته باتهامات راسخة منذ أكثر من قرن، وتعززت قيودها في فترات لاحقة.

بالتزامن مع قضية جابر، تعرّض مركز “تكوين” لبلاغ للسبب نفسه، وقبلهما واجه المُلحّن المصري أحمد حجازي دعوى، انتهت بتأييد حبسه ستة أشهر مع إيقاف التنفيذ، بوصفه مدانا بالاتهامات نفسها، التي واجهها آخرون على مدار الأعوام الماضية، مثل ألبير صابر عام 2013، وكيرلس شوقي عام 2014، والباحث إسلام بحيري، الذي حُكم عليه بالسجن خمس سنوات، ثم تم تخفيف الحكم إلى سنة واحدة، قبل أن يخرج بعفو رئاسي.

هذه الدعاوى، وتهمة “ازدراء الأديان”، مثلما اختُصم بها كُتّاب بسبب منتجهم الفكري، ومنهم يوسف زيدان عام 2008، بسبب رواية “عزازيل”، وعام 2013 بسبب كتابه “اللاهوت العربي وأصول العنف الديني”، حدث وأن استهدفت أطفالا عام 2016، بسبب فيديو قلّدوا فيه عناصر تنظيم “داعش”.

وأمام الأحكام، كتب شريف جابر أنه “يشعر بالوحدة والضياع“. أما أحمد حجازي فتقدّم بالاعتذار للهيئات الدينية؛ فيما اعتبر إسلام البحيري، الذي بلغ الأمر حدّ وصفه بـ”المرتد”، العفو الرئاسي عنه “اعتذارا عن حكم ظالم“؛ بينما الأطفال، وبعد الحكم عليهم بالسجن، لجأوا إلى سويسرا.

هكذا، تتعدد القضايا وأطرافها، مثلما تختلف نهاياتها، لكن منشأها واحد، هو أن أحدهم تعكّر صفوه بسبب أمر رآه “إساءة للدين”، فبادر بالسعى لمُعاقبة فاعله، وفقا لتشريعات يعود بعضها إلى القرن التاسع عشر، ورسّخت للسلطة الدينية، سواء بدستور أو قوانين وقرارات. فما تاريخ “ازدراء الأديان” في مصر، البلد الذي كان نموذجا تشريعيا لكثير من البلدان الأخرى؟ وما اللغة القانونية، التي حكّمته على ضمائر وتعبيرات البشر؟

:المصدر الرئيسي للتشريع”: كيف ستتفق الحريات مع دين الدولة؟

حين وضعت اللائحة الدستورية لمصر عام 1882، لم تذكر أي أمور دينية. الدستور التالي عليها، الصادر عام 1923، ذكر الدين بالنص التالي “الإسلام هو دين الدولة“، دون أي ربط بينه وبين التشريعات. بل ونصّ على عدم التمييز، وكفالة حقوق وحريات، منها “الحرُيّة المُطلقة في الاعتقاد، وحرية الفكر والتعبير“، ليتكرر التعامل بالمنطق نفسه في دستور 1930.

بانقضاء العهد الملكي، صدر دستور عام 1956، محتفظا بمادة الهوية الدينية للدولة، ومواد الحقوق والحريات. لكن اللافت للنظر أن دستوري 1923 و1930، فصلا بين “الحُرية المُطلقة للاعتقاد” وبين “حماية الدولة لممارسة الشعائر”، إذ وردت كل واحدة منهما في مادة منفردة، هما 12 و13 على الترتيب، بينما دستور 1956 دمج المادتين.

هذا الدمج قد يوحي بأن الحرية في الاعتقاد ربما صارت مرتبطة بضرورة الإيمان بدين. وإلّا لِمَ لمْ تبقيا في مادتين منفصلتين؟ أي مادة لحرية الاعتقاد المُطلقة، سواء إيمان أو إلحاد، ومادة أخرى لحرية ممارسة الشعائر للمؤمنين بديانات؟

في الدساتير السابقة كان “الإسلام دين الدولة”، لكن دستور 1971، الموضوع في عهد أنور السادات، “الرئيس المؤمن”، قرر في مادته الثانية جعل “مبادئ الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع“، ليتطوّر الأمر عام 1980، بتعديل حوّل صيغة المادة إلى “المصدر الرئيسي للتشريع“، فتصبح الأساس لينال أي قانون الموافقة.

لهذا؛ صارت لـ”الـ” التعريف أثر، امتدّ حتى بعد رحيل السادات، كما بدا في الخلافات الفقهية، التي سبقت إصدار قانون زرع الأعضاء، ثم تدخّل مؤسسات دينية لوضع ضوابطه، كما خلق أزمات بخصوص أمور مصيريّة، مثل “التبني“، بل وكان له تأثيره على توزيع الإرث عند المسيحيين، ليضطر بعضهم إلى اللجوء للقضاء، لتطبيق أحكام لائحتهم الدينية الخاصة.

بقيت المادة الثانية بدون أن تطولها يد التعديلات عامي 2005  و2007، كما استمرت بالطبع في عهد محمد مرسي، الرئيس المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، التي كان الدستور الموضوع خلال حكمها أكثر ميلا لحضور الشريعة، إلى حد أنه، وحين كفّل حُرية الفكر والرأي والتعبير عنه، حظر الإساءة أو التعريض بالرسل والأنبياء كافة.

أمّا الدستور المصري الحالي، الصادر عام 2014، فقد حافظ على المادة الثانية، رغم تكرار النداءات لإلغائها، واستمر ذلك مع التعديلات الدستورية عام 2019، مثلما أبقى على ما منحه الدستور من سلطات للأزهر كما هي، وهو المؤسسة التي لجأت لها سلطات التحقيق، أثناء نظرها في بلاغ ضد صُناع فيلم “شيخ جاكسون” في 2017، يتهمهم بـ”ازدراء الأديان”، ليتسع بعد ذلك نطاق اشتراك الأزهر ودار الإفتاء في مثل هذه الأمور، بموجب توجيه رئاسي عام 2022.

الإساءة للأديان: هل “حفظ السلام الاجتماعي” هو المسألة؟

عقوبة الإساءة للأديان قديمة في مصر، إذ شملها قانون العقوبات لسنة 1883، الصادر في عهد الخديوي توفيق، باعتبارها “جُنحة” عقوبتها “الحبس من 8 أيام إلى 3 شهور، لمن شوّش على إقامة شعائر دين، أو على إظهار احتفالاته، أو عارض ضد هذا بضرب أو تهديد؛ والحبس من شهر إلى سنة، ودفع غرامة من مائة قرش ديواني، وقرش إلى ألف قرش، لكل من انتهك حرمة أحد الأديان أو المذاهب، التي يجوز إقامة شعائرها علنا“.

أمّا الخديوي عباس حلمي، فشهد عهده وضع  قانون العقوبات الأهلي عام 1904، والذي وحّد عقوبة انتهاك حرمة الأديان، أو الإساءة لها، لتكون “الحبس مدة لا تزيد عن سنة، أو بغرامة لا تتجاوز خمسين جنيها مصريا“، وذلك على اختلاف الحالات، بين “العنف أو الإتلاف أو التدنيس، أو تحريف نصّ وطبع ونشر كتاب مقدس، أو تقليد احتفال ديني في مكان عمومي أو مجتمع عمومي، بقصد السخرية“.

وحين صار الحكم في يد الملك فاروق، صدر القانون رقم 58 لسنة 1937، المعمول به حتى اليوم، ليُخصص بابا كاملا للعقوبات المتعلّقة بالأديان، وبقيت فيه المادتان نفسيهما، الواردتان دون اختلاف في الحالات أو العقوبات عمّا كان في القانون الأهلي.

جميع تلك المواد السابقة يمكن النظر لها باعتبار غايتها الحفاظ على قدسية الأديان، وعدم وقوع انتهاك أو تمييز، لكنّ النصّ الذي تشدّد، وربما تحوّل معه الأمر من “حماية” إلى مصادرة آراء في بعض الحالات، هو الوارد في المادة (98 و)، المُضافة للقانون بعد “أحداث الزاوية الحمراء”، التي شهدت عُنفا طائفيا، وَلّد مُصطلح “ازدراء الأديان”.

هذه الفقرة أطالت فترة الحبس وقيمة الغرامة، لتصبحا “مُدّة لا تقل عن ستة أشهر ولا تجاوز خمس سنوات، أو بغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تجاوز ألف جنيه“، بوصف ذلك عقوبة على “استغلال الدين في الترويج أو التحبيذ لأفكار متطرّفة، بقصد إثارة الفتنة أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية، أو الطوائف المنتمية إليها“.

ورغم تعديل وإلغاء مواد كثيرة من القانون على مدار السنوات الماضية، إلّا أن هذه المادة مازالت موجودة حتى اليوم، بل صارت الأساس في اختصام مَنْ يعبّرون عن آرائهم ولو بصورة سلمّية، قد يراها البعض “ازدراءً”، وهذا رغم دعوات حقوقية متكرّرة لإلغائها، لاسيما وأنها تتسم بغموض مفردات، يفتح الباب لتأويلات مختلفة أثناء تطبيقها.

لكن، وحتى حين تم تعديلها، ومادة أخرى متعلّقة بها، هي (171) الخاصة بوسائل “الازدراء” عام 2006، ألغيت فقط عبارة “أو التحبيذ” وعبارة “أو السلام الاجتماعى”، مثلما عوّضت كلمة “حرّض” بكلمة “أغرى”. وكل هذا بحجة أنها وسيلة حماية، رغم وجود مادة دستورية تنصّ بالفعل على إنشاء مفوضية للمساواة ومكافحة التمييز.

“أصول التلاوة”: كيف مُنح المشايخ سلطة الضبط القضائي؟

رغم تلك المادة في قانون العقوبات، إلّا أنه تم إصدار قوانين وقرارات أخرى، تضمّنت من المواد ما يُمكن من خلاله التربّص بمن يراه المجتمع أو بعض مؤسساته وأفراده “ازدراءً”، بل حدث أن طالب وزير الأوقاف المصري عام 2015 بإصدار قانون دولي بهذا الشأن.

أحد هذه التشريعات المحلية كان قانون الصحافة رقم 96 لسنة 1996، فحين ألزم الصحفي باحترام الأديان، تضمّن مصطلحات فضفاضة، مثل “الامتهان، والتحيّز”، وهو أمر نسبي، قد يجعل الصحفي عُرضة للخصومات وفقا لرأي كل شخص، وهي المعضلة التي استمرت حتى بعد إلغائه، وصدور قانون آخر، هو رقم 180 لسنة 2018، بشأن تنظيم الصحافة والإعلام، إذ احتوى مفردات، حين تحدّث عن الأديان، من قبيل “تكدير السلم العام”.

وأحد أبرز أمثلة المفردات الفضفاضة فيما يتعلق بالأديان، ظهرت منذ عقود، وبصورة جليّة في قرار  قديم صدر عام 1976، خاص بالقواعد الأساسية للرقابة على المصنّفات، إذ حظر ترخيص عرض أو إنتاج أو إعلان أي مصنّف فني، إذا تضمّن أمورا منها “أداء الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وجميع ما تتضمنه الكتب السماوية، أداءً غير سليم، أو عدم مراعاة أصول التلاوة، أو تقديم الشعائر الدينية على وجهها الصحيح“. فما الحاكم أو المعايير الواضحة للبت في هذه الأمور؟

لكن على ما يبدو أن هذه التساؤلات لا ينتج عنها تغيير. فبعد ذلك القرار بما يُقارب عقدين، صدرت لائحة تتعلّق بالأمر نفسه، وبها مادة تستخدم المصطلحات الفضفاضة، مثل “قيم المجتمع الدينية والروحية والخُلقية، والآداب العامة والنظام العام“، كما قرر وزير العدل عام 2004، ورغم اعتراضات حقوقية، منح رجال الأزهر صفة الضبطية القضائية، وبالتبعية سلطة مصادرة كتب وأشرطة مسموعة وفيديوهات، “إذا لم تحصل على موافقته المسبقة، وكان فيها ما يراه مخالفا للشريعة والمعتقدات“، ليكون من أبرز ما تم التوصية بحظره فيلم “الرسالة” للمخرج مصطفى العقاد، ورواية “سقوط الإمام” للدكتورة نوال السعداوي، والتي تعددت مرات اتهامها بـ”ازدراء الأديان”.

لهذا، وسواء من قضية شريف جابر، أو ما سبقها من قضايا، يبدو أن تمتّع المواطن بحقوق وحريات ممنوحة له بقوة الدستور لا يعني حريته في ممارستها، طالما وُجِدَت قوانين وقرارات، تتضمّن ما يُقيّدها، دون النظر لدعوات التعديل، وهو الأمر الذي يُشكّل جزءا من الانتقادات التي توجه لحالة الحقوق والحريات في بلد مثل مصر، أعلن، وفقا لمواثيق دولية، التزامه بالحفاظ على ممارسة حرية التعبير والفكر والاعتقاد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 3 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات