أثار مقترح تعديل قانون الأحوال الشخصية في العراق جدلا واسع النطاق، بين مؤيدين له، ومعارضين متنوعين، من التيارات العلمانية والمدنية والنسوية. حالة الجدل والسخط العام أدت لتأجيل قراءته المقررة، في جلسة البرلمان العراقي بتاريخ الرابع والعشرين من شهر تموز/يوليو 2024، ورفعه من جدول الأعمال.
انشغل كثير من المعترضين ببيان مخاطر المقترح، فهو يعزز بحسبهم التفرقة الطائفية في البلد، في وقت هو في أمسّ الحاجة فيه إلى إعادة توحيد المواطنين على هوية وطنية، خاصةً ونحن لم نتجاوز بعد تبعات الحروب الطائفية الماضية؛ وكذلك يساهم بإقحام المؤسسات الدينية، وخاصة الوقفين الشيعي والسني، في القضاء؛ وأخيرا/ يشرعن كثيرا من انتهاكات حقوق النساء والأطفال، ويعطيها غطاء قانونيا.
فيما كان المدافعون عن مقترح القانون يقولون إنه تنظيم لحريات العراقيين، الذين يريد كثير منهم تحديد انتماءاته الدينية. إضافة لأنه سيكون ضامنا قانونيا للزيجات التي تجري خارج مؤسسة القضاء، خاصة عندما تكون المتزوجة قاصرا. إذ غالبا ما تحدث مثل هذه الزيجات، ولا يتم تسجيلها بالمحاكم، لعدم وصول الزوجة للسن القانوني. فيما سيسمح المقترح، الذي يستمدّ أحكامه من الفقه الشيعي، بذلك، ويضمن “حقوق” أطراف الزواج.
مقترح القانون هذا ليس جديدا، فغالبا ما قُدّمت نظائر له في السنين الماضية، ولكن دائما يتم تأجيلها. هذه المرة بدت المحاولة أقوى من كل سابقاتها، وأقرب للتحقّق، وذلك لأن الأحزاب الإسلامية، وقوى الإطار التنسيقي الموالي لإيران، سيطرت على رئاسة البرلمان، بعد إسقاط محمد الحلبوسي، الرئيس السابق له، فاعتقدت أن الفرصة قد سنحت لها بإقرار القانون أخيرا. ولكن ظلت هناك بعض المعوقات، فقبل قراءة القانون، صرّح النائب رائد المالكي، عضو اللجنة القانونية في البرلمان العراقي، وصاحب المشروع المقدّم، أنه ما يزال في مرحلة المساومات بين الأحزاب، وليس هناك توافق تام على تمريره وإقراره.
وبعد ضغط بعض النواب، واستجابة لآراء التيارات المعارضة، وظهور امتعاض كبير بين المواطنين، خاصة بعد إدراكهم أن القانون يسمح بتزويج الأطفال، استطاعت النائب نور نافع جمع تواقيع عدد من النواب الآخرين، لرفع قراءة مقترح القانون من جلسة البرلمان.
يبدو أن “الإطار التنسيقي” اعتقد أنه ضمن سيطرته على البلد، بعد حملات الملاحقة والاعتقال، التي استطاع فيها تنحية مخاطر الاحتجاجات على حكمه، وهو يحاول الآن تنفيذ مشروعه، عبر ترسيخ التوجهات الإسلامية، والمناهضة لأساسيات الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، بدرجة غير مسبوقة في تاريخ العراق.
فإلى أين يسير بنا “الإطار التنسيقي”؟ وهل يمكن منعه من السيطرة على كل شيء، من المفاصل الأساسية للدولة وحتى أبسط الشؤون الشخصية للمواطنين؟ بعبارة أخرى: هل يمكن إيقاف “الثورة الإسلامية في العراق” على النمط الإيراني؟
تاريخ التعديل: ما المشكلة مع القوانين الجمهورية؟
تعرّض قانون 1959 للأحوال الشخصية في العراق، الصادر في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم، لمحاولات عديدة لتغييره، وهو القانون الذي يؤكد عديد من المتخصصين بالشأن العراقي على طبيعته التقدمية. على سبيل المثال، تسلّط الباحثة العراقية نادية العلي، في كتابها “نساء عراقيات: قصص لم تُروَ من عام 1948 حتى الوقت الحاضر”، الضوء على الكيف التي كان القانون يهدف بها إلى تطوير حقوق النساء، ومكانتهن داخل الأسرة. وتزعم العلي أن أحكام القانون، المتعلّقة بالزواج والطلاق والميراث، كانت رائدة في ذلك الزمن، ومثّلت خطوة مهمة نحو المساواة بين الجنسين في العراق.
كانت مهمة تصديق عقود الزواج، وتحديد مستحقي الميراث في الفترة العثمانية، متعلّقة بكل طائفة دينية على حدة، وفقا لنظام الملة، الذي سمح للطوائف بإدارة شؤونها الخاصة، وفقا لقوانينها الدينية. حافظ هذا النظام على استقلال وتعددية الطوائف المختلفة، ولكنه عزّز أيضا الانقسامات الدينية داخل المجتمع، الأمر الذي لم يتغير كثيرا في الفترة الملكية في العراق. في العصر الجمهوري جاء قانون 1959، ليقدّم منظورا جديدا، محاولا صياغة توجّه موحّد يشمل كل العراقيين، وإن لم يقطع على الإطلاق مع الشريعة الإسلامية.
ظهرت أول محاولة جديّة لتغير القانون الجمهوري مع الاحتلال الأميركي للعراق، إذ حاول بول بريمر، الحاكم المدني الأميركي، وبالتعاون مع بعض الشخصيات الدينية، إلغاءه من خلال القرار 137 لسنة 2003.
كانت الرغبة الأميركية بإلغاء القانون، مدفوعة بضرورة إرضاء الحلفاء من التيارات الدينية الشيعيّة، الذين غالبا ما اعتبروا ذلك القانون مخالفا لشرائعهم، ومشتقا من المذاهب المخالفة، أكثر من مذهبهم.
هدد ذلك الإجراء بجعل الدين والمذهب، ورجال الدين الممثلين لهما، المرجع الاول للأفراد في أحوالهم الشخصية، ومحو ملامح الدولة المدنية، الضعيفة جدا أصلا، فيما يتعلّق بالمساواة بين الرجل والمرأة أمام القانون. وكان من الممكن أن يصبح عنصرا تأسيسيا في عراق ما بعد 2003، خاصة أن تلك كانت فترة انتقالية، سوف يُستَمد منها كثير من الأعراف السياسية والقانونية. ولكن تحت ضغط التيارات النسوية والمدنية حينها، أُلغي القرار.
أما المحاولة الثانية فكانت في عام 2014، حين ناقش مجلس الوزراء العراقي حينها مشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفري، الذي اقترحته وزارة العدل. وكان الهدف من ذلك المشروع تنظيم أحوال أتباع المذهب الشيعي، بحيث لا يتقيّدون بالقوانين المدنية، وانما يكتفون بالقوانين الدينية. وتضمّن ذلك القانون 253 مادة، أبرز ما جاء فيها مخالفا للقانون الجمهوري لسنة 1959، هو المادة 50 حول زواج الأطفال، والتي تنصّ على أن: “للأب المسلم العاقل، والجد من جهة الأب وحدهما الحق في تزويج الصغير أو الصغيرة أو المريض العقلي، الذي اقترن جنونه بالبلوغ“. ولم تحدد المادة حدّا أدنى للزواج، وتركت الأمر لأولياء الأمور. ولو اطلعنا قليلا على أحكام الفقه الجعفري، سنجد جواز تزويج التي لم تبلغ، بشرط عدم الدخول بها إلا حين البلوغ.
أيضا المادة 62 من مشروع عام 2014 كانت تقلّل القيود على تعدد الزوجات. ولكن تم إيقاف ذلك المشروع، بضغوط من تيارات عديدة حينها.
أما المحاولة الأخيرة، التي نشهدها حاليا، فهي تفوّض قوانين الأحوال الشخصية للوقفين الشيعي والسني، اللذين عليهما كتابة مدوّنة، يعود إليها القضاة لإتمام عقود الزواج. وعلى الزوجيين تحديد المذهب الذي ينتميان إليه، وفي حال الخلاف على تحديد المذهب، يكون المذهب المُعتمد هو مذهب الزوج. ويمكننا توقّع ما سيكون عليه شكل المدوّنة التي سيضعها الوقفان، من القوانين السابقة التي طرحت.
“إزالة آثار الاحتلال”: إلى أين ستصل بنا “ثورة” الإطار التنسيقي؟
يبدو أننا الآن نقترب من فصل جديد في مسيرة تدمير ملامح الدولة المدنية في العراق، فقد وصل الأمر إلى عقود الزواج، وبقية الأحوال الشخصية للمواطنين، التي سيتم تسليمها لفقهاء طائفيين، يُسيّرون القضاة على هواهم.
لم تكتف الأحزاب الحاكمة بالعراق بالسيطرة على كل مفاصل الدولة، وإنما تحاول زرع تصوراتها الدينية في بنية النظام أكثر فأكثر، وفي صميم هذه التصورات انتزاع كل مكتسب أو حق، اكتسبته النساء خلال تاريخ الجمهورية العراقية. كما تحاول الحكومة الحالية، وبكل الطرق، تثبيت الصبغة الطائفية، وخاصة الشيعية، من خلال مجموعة من القوانين، إضافة طبعا إلى لإمساك بالأرض، من خلال ميليشيات “الحشد الشعبي”.
فبعد تجميد محاولات تشريع قانون العنف الأسري، الذي يحاول ضمان الحد الأدنى من حماية الأطفال والنساء من العنف المنزلي، نجحت قوى “الإطار التنسيقي” بتشريع قانون “البغاء والشذوذ الجنسي”، الذي يقوّض اي نقاش حول مسائل مثل النوع الاجتماعي او الميول الجنسية أو الحريات الشخصية، بسبب مواده الفضفاضة، والتي يمكن ان تؤوّل بسهولة أي اعتراض على أنه دعوة للشذوذ والبغاء.
يبدوا أن كل هذا ما هو إلا البداية، فبحسب إعلام بعض الميليشيات المتحالفة مع الإطار، فإن هناك خططا لـ”عراق ما بعد إخراج القوات الأميركية”، يشمل “ثورة شاملة في العراق”، و”إزالة آثار الاحتلال”. مع العلم أنه لولا الاحتلال لما كنا تعرّفنا على تلك الميليشيات والقوى أصلا، وربما لـ”إزالة آثار الاحتلال” عليها أن تبدأ بنفسها.
تحوي تلك “الخطة” كثيرا من تصورات القوى الإسلامية حول مستقبل العراق، وبطبيعة الحال فيمكننا توقّع أن وضع النساء، والحريات الشخصية عموما، ستكون أسوأ مما هي عليه الآن، فالمعاهدات الدولية، والاتفاقيات مع الولايات المتحدة، تُعدّ من “آثار الاحتلال”، التي يجب إزالتها. بالمقابل يمكننا، من النظر في واقع النساء في إيران، معرفة تصورات الميليشيات العراقية الموالية لها عن “المستقبل”.
ثورة مضادة: هل من أمل في الحفاظ على “الوضع الراهن”؟
وسط هذا الجنوح، الذي يقوده “الإطار” نحو دولة أكثر إسلامية، وأكثر “أخلاقية”، تقرّ فيها النساء في البيوت، طائعات لأزواجهن وأولياء أمورهن؛ ويسجن فيها البشر بتهمة “التخنّث” و”الشذوذ”، لا يسع القوى المعارضة إلا محاولة كبح جماح “الثورة الإسلامية في العراق”، أي وقف تصدير النموذج الإيراني إلى البلد.
دفعت سيطرة الميليشيات الإسلامية، وقواها السياسية، كثيرا من المعارضين إلى الرضا بالواقع الاجتماعي والسياسي، بأمل عدم زيادته سوءا. فبعد ما كان المعارضون ينظرون إلى كثير من الامور بعين النقد، ويتطلّعون إلى قوانين تقدميّة، باتوا يأملون فقط أن لا يتحوّل بلدهم إلى نسخة من إيران أو أفغانستان، وبوادر التحوّل باتت واضحة بالفعل، لدرجة لم يعد السكوت عليها ممكنا. ولكن السؤال المهم هنا: كيف يمكن للتيارات المعارضة، التي تصف نفسها بـ”المدنية” (أي علمانية متصالحة مع الدين في السياق العراقي، في مقابل العلمانية المُقصية للدين) أن تقف بوجه “الثورة الإسلامية”؟
الذي أوقف قراءة المشروع الحالي في البرلمان هو استجابة بعض النواب لحراك المعارضين، ويمكن أن يكون هذا درسا للقوى المدنية، بعدم الاكتفاء بالحراك الإعلامي والافتراضي، أو حتى السعي لتنظيم احتجاجات في الشوارع. فقد بات من الضروري زيادة زخم المشاركة السياسية الفعّالة، على الأقل لوقف مثل تلك القوانين، والحفاظ على الوضع الراهن، على مساوئه.
إن وجود معارضة حقيقة داخل مجلس النواب هو ضامن كبير للوقوف أمام خطط “الثورة الإسلامية”، و”إزالة آثار الاحتلال”، فمرحلة حكم “الإطار” المطلقة هذه أظهرت مدى كارثية الاتجاه الذي تسير فيه الاحزاب الإسلامية، لدى استفرادها بالسلطة.
نجا العراقيون هذه المرة أيضا من ذلك القانون، ولكن يبدوا أن المساعي لإقراره لن تتوقف، فالقوى التي تحمله تمتلك السلاح والأيديولوجيا والمال والدعم الخارجي. وربما تكوين أوسع جبهة ممكنة في وجه “الثورة الإسلامية” هو الحل الإسعافي الوحيد الممكن.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.