تجريف التنوير: كيف اختفى صوت الشيخ محمد عبد الله دراز؟

“كنت في الرابعة عشرة عندما بدأت رحلتي الروحية للبحث عن الله، وقتذاك، تابعت تفسيرا للشيخ الشعراوي، حول بعض المسائل التي تخصّ المرأة، لم أستطع هضم تلك التفسيرات أو التجاوب معها، لأنها بالنسبة لي، كانت تتعارض مع القيم الأساسية للقرآن، وهي العدل والإحسان، ثم تعرّفت من زميلة لي على كتابات د. دراز، لأجد ضالتي ويطمئن قلبي”.
د. ملكي الشرماني، أستاذة مشاركة للدراسات الإسلامية ودراسات الشرق الأوسط في جامعة هلسنكي الفلندية، في شهادتها ضمن مشهد من فيلم” رسائل الشيخ دراز”.
في المشهد الأول في الفيلم، يجلس أربعة أفراد من عائلة الدكتور محمد عبد الله دراز، وعلى الطاولة أمامهم كثير من الأوراق، وصورة، تظهر في زاوية الطاولة نفسها، للفنان الراحل نور الشريف، في إحدى المشاهد السينمائية الشهيرة له، أثناء تجسيده شخصية ابن رشد في فيلم “المصير”، للمخرج يوسف شاهين، وهي الشخصية التي تمثّل في الفيلم حكاية التنوير في وجه الظلامية الفكرية والتشدد. في فيلم “رسائل الشيخ دراز”، للمخرجة ماجي مرجان، هناك أيضا حكاية أخرى عن الفكر التنويري في النصف الأول من القرن العشرين، حاولت طرحها بسلاسة وذاتية سردية، بعيدة عن المباشرة والتوجيه.
الكلمة الأولى في عنوان الفيلم هي “رسائل”، يقترن بها اسم الشيخ دراز، ورغم بساطة العنوان ووضوحه، إلا أنه يمكن قراءته على مستويين: الأول الواضح والمعلن، أي المراسلات التي تعدّ محور السرد في الفيلم، والتي كانت وسيلة التواصل بين دراز وأسرته، وأيضا مذكراته اليومية فيما بعد، والتي اهتم بها أبناؤه، وجمعوها بصورة مؤرشفة ومنظّمة؛ والمستوى الثاني مُتضمن في السياق السردي للفيلم، والذي طرحته مرجان بين السطور، وهو أن رسائل هذا الرجل ما زالت بيننا حتى الآن، وتنعكس على كثير من الأمور والأفراد، سواء بالنسبة لمن تأثّروا بالشيخ دراز، مثل الدكتورة ملكي الشرماني، أو الشاب أحمد الفقي، الذي تحوّل من الفكر المتطرف إلى التدبّر والتفكير؛ أو المدافعون عنه، مثل الدكتورة أميمة أبو بكر، أستاذ الأدب الإنجليزي المقارن، والكاتب الصحفي الشهير إبراهيم عيسى، أو حتى شاب ريفي بسيط ظهر في الفيلم، وكان قد فقد بصره منذ الطفولة، لكن بصيرته أهدته إلى صوت الشيخ دراز، في تسجيلات إذاعية، مما دفعه إلى تسجيل أغلبها، ونشرها على قناة خاصة باسم الشيخ الراحل على يوتيوب.
وانطلاقا من اسم الفيلم، ثم المشهد الأول، يقدّم صٌنّاع العمل، وهم إضافة إلى المخرجة، السيناريست المشاركة في الفيلم والمستشار الفني له تغريد العصفوري، ومديري التصوير أمجد رياض وعماد نبيل، ومؤلّف الموسيقى خالد الكمار، رؤية ذاتية عن الدكتور محمد عبد الله دراز، عبر عيون أسرته، انطلاقا من خط سردي رئيسي، وهو النصوص المكتوبة بخط يده، وبصحبة حفيدته نهى الخولي (المنتج الفني للفيلم).
حاول الفيلم على المستوى الفني خلق توازن بين شقين أساسيين: الأول الحياة العملية للدكتور دراز؛ والآخر الحياة الشخصية، والتي تتجسّد في علاقته بأبنائه، وعلى امتداد خطين دراميين متقاطعين، ترسم نقاط التلاقي شخصية الرجل، الذي وُلد في إحدى قرى محافظة كفر الشيخ بريف مصر، في عام 1894، ودَرَس فلسفة الأديان في جامعة السوربون، ونال منها شهادة الدكتوراه، بعد أن مكث في فرنسا اثنتي عشرة سنة، عاصر خلالها الحرب العالمية الثانية، وأنهى رسالة الدكتوراة الخاصة به، بعنوان “الأخلاق في القرآن”، باللغة الفرنسيّة. لذلك ينتقل الفيلم بين الأجواء العائلية شديدة الحميمية لأبناء دراز، الذين مازالوا على قيد الحياة، وأحفاده؛ وبين المتأثرين به، والأكاديميين الذين درسوا مؤلفاته جيدا، سواء داخل مصر أو خارجها؛ وبين أوراقه وكتبه ومراسلاته.
السؤال الذي يمكن أن يطرأ في ذهن المشاهد: أين ذهب شيخ بأهمية الدكتور دراز من الوعي الجمعي المصري، الذي يصل إلى درجة تقديس من يطلقون على أنفسهم لقب دُعاة أو رجال دين؟ لماذا لا نرى صوره في المحلات أو وسائل النقل، كما تطلّ علينا صورة الشيخ محمد متولي الشعراوي مثلا من كل حدب وصوب؟
الإجابة يمكن العثور عليها بين ثنيات العمل السردي، الذي قدمته ماجي مرجان، ففي جزء مهم من الحكاية، تتعرّض إلى علاقة الدكتور دراز بالسلطة في مصر بعد عام 1952، عندما سيطر قادة الجيش على الحكم، وأزاحوا الملك، وطٌلب حينها من الشيخ، بشكل مباشر، وأكثر من مرة، أن يتولّى مشيخة الأزهر، لكنه رفض، بعد أن طلب استقلالية كاملة لتلك المؤسسة.
ومن ضمن المراسلات التي احتفظ بها أبناؤه، الخطابات المتبادلة بينه وبين الإذاعة المصرية، والتي كشفت عن رفض دراز المتكرر لبعض المواضيع التي طرحتها عليه الإذاعة، واقتراحه أخرى. وأيضا طلب الإذاعة منه حذف بعض العبارات من أحاديثه، مما أدى في النهاية إلى اعتذاره عن تقديم فقرته الإذاعية، نتيجة شعوره بالتضييق، وقوله: “لن أساهم في إخفاء الحقيقة“.
وبدون الغوص في كثير من التفاصيل، نبّه صٌنّاع العمل إلى أمر في غاية الأهمية، وهو تلاعب السلطة بالخطاب الديني، عبر إبراز أو إخفاء أصوات بعينها، لتحقيق مكاسب تخدم مصالحها الخاصة؛ ووضّحوا مدى قلقها من الشخصيات التي تطالب باستقلالية المؤسسات، وحرية المعتقد والخطاب في الحيز العام، ولذلك تقوم بإقصاء تلك الشخصيات تماما، والبحث عن أخرى، لا تضع الشروط نفسها.
يحاول الفيلم الإشارة إلى الأشياء، لا الإفصاح عنها، والدخول في معركة من المقارنات بين الدكتور دراز وغيره، ولكن يطرح أفكاره من خلال توظيف أدوات اللغة السينمائية، لخدمة تلك الأفكار، لذلك هناك خط سردي كامل، يركز على أن النساء في حياة هذا الرجل لم يكنّ محجبات، بداية من زوجته وبناته، ثم زوجات أبنائه، وفيما بعد زوجات أحفاده. وفي إحدى الجمل التلقائية، لإحدى شخصيات الفيلم من عائلة دراز، تقول وهي تضحك: “إحنا مفروض عيلة أزهرية، لكن شكلنا مش أزهريين خالص“. هذه الجملة الوحيدة الحوارية، التي تُلقى في هذا السياق، أما الباقي فاعتمد كليا على الصور الأرشيفية، بوصفها مادة بصرية، تشرح وتوضح كيف كانت تحيا أسرة الرجل، في كل مناسبات حياتها، في المدارس والجامعات، وأيضا المصايف والحفلات ومناسبات الزفاف. ويعرض الفيلم صورا نادرة، لمشاركة إحدى بنات الشيخ في مسرحية باللغة الفرنسية، أثناء تواجد العائلة في فرنسا. كما أن المخرجة قدمت مشاهد كاملة أخرى للبيانو في المنزل، سواء في خلفية الحديث، أو خلال قيام أحد الأبناء بالعزف عليه، في مشهد من مشاهد الفيلم. وحكاية هذا البيانو يرويها الأبناء، إذ أتى دراز به بغرض تعليم الفتيات العزف، حتى لا يبقين في حالة فراغ داخل المنزل.
نحن أمام شيخ، رجل أزهري، لم يفرض الحجاب على أسرته بالكامل، ولم يورث هذه الفكرة لها، ولم يمانع التنزّه على البحر، وارتداء ملابس خاصة به، وأيضا سمح لابنته أن تكون ممثلة في جزء من حياتها، ولم يُحرّم الموسيقى، بل كان لديه آلة موسيقية في المنزل، واحتفظ بها الأبناء مع مرور الزمن، تقديرا منهم لذكرى والدهم. وإذا فكّكنا هذه التصرفات، وأعدنا طرحها حاليا، من منطق أغلب من يتصدّرون المشهد الديني، سوف يكون الشيخ دراز رجلا غير متديّن، ولا يستحق مكانته في الأزهر، لأنه لا ينخرط مطلقا في ظاهرة التديّن الشكلي، التي كانت بمثابة “غزوة” كُبرى، اقتحمت الحياة المصرية مع “عصر الانفتاح” في زمن الرئيس أنور السادات، وتضخّمت حتى ابتلعت أشياء كثيرة في حياة المصريين، وحوّلتها إلى “فاترينه” لعرض السلعة الدينية، مثل علامة الصلاة والحجاب والنقاب، وعزلتها عن المفاهيم الأشمل والأعم في التجربة الدينية.
ولكن يبقى السؤال، هل يمكن مقارنة مشايخ “الصحوة” أولئك، بمن فيهم الشعرواي نفسه، بالشيخ دراز؟ وذلك من ناحية المعرفة بالعلم الديني والدنيوي، والتأهيل الأكاديمي، والملكات الفكرية، بل حتى الاحترام المكتسب في المؤسسات التقليدية مثل الأزهر.
يقول الشيخ دراز في كتابه “الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان”: “أما كيف تتحرر العقول من هذا الأسر الاجتماعي القاهر، فإن القرآن يعلن أنه ليس لذلك إلا وسيلة واحدة، وهي التفكير الفردي الهادئ، المتحرر من كل القيود، إلا قيود البداهة والمنطق السليم (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا). تأمّل هذه الوصية الحكيمة، ترى فيها وصفا للداء والدواء جميعا، فهي قبل كل شيء تقرير ضمني للحقيقة الواقعة، وهي أن العقل الجمعي يطبع عقول أعضائه بطابعه المشترك، ويجعلهم يفكرون عند اجتماعهم بأسلوب مخالف لتفكيرهم عند الانفراد؛ ولذلك تدعو الآية الكريمة كل فرد من الجماعة أن يخلو بنفسه أو برفيق واحد، ليكون في بعض اللحظات بعيدا عن تأثير البيئة وتيارها الجارف، وإلى جانب هذا الاعتراف بسلطان العقل الجمعي ونفوذه الفعلي في الأفراد، تشير الآية إلى أن ما تقرره هذه العقلية المشتركة ليس هو دائما أقرب المقررات للصواب، ولذلك تخوّل كل فرد حقه في الحرية الفكرية والنقد“.
يظهر في هذا المقتطف توجّه مهم من توجهات الشيخ، فهو ويرى أن التفكير الفردي أهم من التفكير الجمعي، ويؤسّس لذلك دينيّا، من خلال المرجع الأول في الدين الإسلامي وهو القرآن، ما يجعله أقرب للفلاسفة رواد التنوير، الذين أوصوا بالشجاعة في استخدام العقل، مثل كانط واسبينوزا. وإذا عدت لقراءة هذه السطور مرة أخرى، ربما ستتذكّر مشاهد كثيرة، تعبّر عن العقل الجمعي الذي أصبح مسيطرا على الحياة حاليا، إذ أصبح المشهد، منذ صعود “تيار الدُعاة”، بداية من الشيخ عبد الحميد كشك، مرورا بـ”مشايخ الكاسيت”، ثم الدعاة الجدد، وصولا إلى ظواهر مثل عبد الله رشدي وغيره، ممن يسيطرون على الساحة حاليا، مرتبطا بجموع من البشر، تجلس أمام فرد واحد، يحرّكون رؤوسهم في طاعة وانصياع شديدين،وأصواتهم تردد “الله.. قول كمان يا شيخ”؛ أو يتابعون حسابات على منصات التواصل الاجتماعي، تدافع باستماتة عن أصحاب فكر ما، دون فلترته أو التدّبر فيه، وهنا تتكشّف الصورة كاملة للفرق بين الدكتور دراز، الذي عاصر النصف الأول من القرن العشرين، وشكل الحياة في النصف الثاني من ذلك القرن، وحتى الآن.
حياة الشيخ دراز ممتلئة بالتفاصيل، سواء على مستوى أفكاره وكتبه، ونضاله في مرحلة الاحتلال الإنجليزي، وعلاقته بالتنوير وأفكار الشيخ محمد عبده، ولكن صُنّاع العمل اختاروا منطقة أكثر حميمية في التعرّض لحياته، من خلال خط يده، وصوت يروي ما كُتب بأسلوب تجسيدي (أداء صوتي لصدقي صخر)، يحاول نقل المشاعر، لا تقليد الصوت، حتى يقترب المشاهد أكثر من هذا الإنسان، على مستوى حياته وتعاملاته، التي تعكس فكره، والذي لم يكن حبيس الكُتب، بل طبّقه على عائلته، لكي يتحوّل إلى تجسيد فعلي، وليس مجرد نظريات أكاديمية. ويمكن اعتبار استعادة صوت الرجل من جديد، بأداء يحمل الكثير من الحيوية، إشارة يبعثها الفيلم حول أهمية استعادة تجارب ذلك العصر، الذي جُرّفت كثير من أصواته. فهل نصير يوما من عائلة الشيخ دراز؟
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.