“ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺼﻔﺤﺎﺕ ﻣﻬﺪﺍﺓ ﺇﻟﻰ أﻭﻟﺌﻚ ﺍﻷﻃﻔﺎﻝ، ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺍﻟﺘﻘﻴﺖ ﺑﻬﻢ ﺫﺍﺕ ﻣﺮﺓ، ﻗﺒﻞ ﺳﻨﻮﺍﺕ ﻋﺪﻳﺪﺓ ﻓﻲ ﻛﺎﻟﻴﺎ ﺩﻱ ﻻﻛﻮﺳﺘﺎ، ﻛﺎﻧﻮﺍ ﻋﺎﺋﺪﻳﻦ ﻣﻦ ﻟﻌﺐ كرﺓ ﺍﻟﻘﺪﻡ، ﻳﻐﻨّﻮﻥ: ﺭﺑﺤﻨﺎ ﺃﻭ ﺧﺴﺮﻧﺎ.. ﻟﻦ ﺗﺘﺒﺪّﻝ ﻣﺘﻌﺘﻨﺎ. ﻣﺘﻌﺘﻨﺎ ﺗﺒﻘﻰ ﻛﻤﺎ ﻫﻲ.. ﺳﻮﺍﺀ ﺧﺴﺮﻧﺎ أﻡ ﺭﺑﺤﻨﺎ“.

هكذا افتتح الأديب الأورغوياني إدواردو غاليانو كتاب كرة القدم الأشهر على الإطلاق “كرة القدم بين الشمس والظل”، والذي أكد فيه أن أي أديب جيد لا بُد له أن يكون قد وقع في أسر كرة القدم، في فترةٍ ما من حياته، بل ويرى أن الرواية وكرة القدم وجهان لعملة واحدة، كلاهما يحمل في متنه ذاك الصراع، الذي يشكّل حبكة الأحداث.

إدواردو غاليانو

لكن على عكس غاليانو، رأى عديد من الأدباء أن كرة القدم، والرياضة عموما، لا تصلح للتناول في الأدب، وهو الرأي الذي تبنّاه الأديب المكسيكي خوان رولفو، الذي يرى الرياضة ضمن عددٍ من الأنشطة البشرية التي لا تحتاج إلى تأويل، ولا يمكن سردها في الرواية، وإن جاز تناولها فيكون ذلك في القصة القصيرة.

خوان رولفو

يتفق مع رولفو أدباء آخرون، بينما يرى فريق غاليانو أن هذه النظرة الاستعلائية للرياضة وكرة القدم من المثقفين والأدباء لم تعد تُجدي، والسبب هو تقاطع الرياضة مع كافة مناحي حياة البشر. فكيف لا تُكتب؟

والسؤال الآن: هل تصلح الرياضة وكرة القدم فعلا للأدب؟ وما  أدب الرياضة ذاك؟

أدبنة الرياضة: هل تستحق “ثقافة الجموع” الاهتمام؟

يحاول غاليانو أن يفنّد أسباب توتر العلاقة بين كرة القدم والأدب، ويُرجع ذلك إلى الساسة والسياسة في المقام الأول، فيرى أن استغلال كرة القدم وجمهورها من قبل الأنظمة الحاكمة، جعلها اللعبة التي تُناسب الغوغاء في نظر البعض، وتمنع الجماهير من إدراك واقعهم، وتقتل فيهم الحث على الثورة والتغيير.

نظر المثقفون لكرة القدم بنظراتٍ فوقية، باعتبارها نشاطا لا يناسب إلا الغوغاء، إذ تمارس الغريزة البهيمية، المتعلّقة بالشد والجذب والركض والصراخ؛ كما كان كثيرون ينظرون لانتشار كرة القدم حول العالم بوصفه “مؤامرة إمبريالية”، للإبقاء على الشعوب المقهورة مغلوب على أمرها للأبد، ولذلك كرهها المثقفون.

حين نستحضر مصطلح “ثقافة الجموع”، يحضر معه مصطلح “الثقافة الرفيعة”، كما تُطرح ثنائية مركز/هامش، التي لازمت كثيرا من الأنواع الأدبية والفنية، وهي ثنائية بات كثيرون اليوم يرون أنها تفتعل خلافا فنيا وموضوعيا غير مبرر بين أنواع من التعبير، تم الفصل بينها على خلفية التقسيمات الاجتماعية، طبقية كانت أو عرقية أو ثقافية. فاتسعت رقعة كثير من الكتابات التي يباركها الذوق والاهتمام الاجتماعيين، وانحسرت أمامها أنواع، لم تخرج عن اهتمام المجتمع، لكنها خصّت فئة أو فئات محدودة منه، فباتت “هامشا”، وأنزلها الهامش الذي قبعت فيه من على قمة التناول والتداول.

لكن الثورات الاجتماعية المتتابعة أعادت رسم حدود كثير من المجالات، إذ مكَّنت الهامش من أن ألا يصبح هامشا بعد اليوم.

ثقافة الهامش تساوي في نظر المركزيين، من السياسيين والمثقفين وغيرهم، “ثقافة الجموع”، تلك الثقافة التي تصنع الطعام، ثم لا يكتب عنه أحد بوصفها ثقافة؛ وتتفنن في صنع الملابس والأزياء والحلي، ولا يرقى كل هذا، في نظر المكرّسين، إلى قصة حب في رواية أديب شهير.

لكن كرة القدم والرياضة أخضعت الأدب مع الزمن إلى سلطانها، وإغراءاتها المتلونة. تماما مثلما فرضت “ثقافة الهامش” نفسها على المتن الاجتماعي المكرّس. وتعتبر دراسات غوستاف لوبون من أهم الجهود التي رصدت تلك الظاهرة وشخّصتها، في كتابه “سيكولوجية الجماهير”.

ركز لوبون على الضغط الذي صارت تمارسه الجماهير، وقدرتها على تحريك الأحداث، فصار صوتها راجحا عند صناع القرار والحكام. ويرى أن الجماهير مهيّأة لاحترام النزعة الأخلاقية وعناصرها، مثل التفاني والإخلاص والنزاهة والتضحية بالذات وحس العدالة. وهذا ما يتماشى تماما مع أخلاقيات الجماهير الرياضية، وتحديدا جماهير “الساحرة المستديرة”. ولعل هذا التفاني هو ما رسَّخها ثقافة عامة، نابعة من كونها رياضة مرتبطة بقوانين وأوقات ومواسم، من عمق وجدان الشعوب التي اعتنقتها، وهو ما جعل أدبنة الرياضة وكرة القدم، أي جعلها أدبا، أمرا جائزا، على عكس الفهم السائد سابقا.

غوستاف لوبون

يرى الكاتب إدواردو غاليانو أن الملاعب الرياضية مصدر للقصص والحكايات والمشاعر والانفعالات، ومنها يستوحي حكاياته، تماما مقل المقاهي العامة والشوارع بالنسبة للروائي أو القاص، بل إنه يشبّه ذهابه إلى الملعب بالموعد الغرامي.

والسؤال الآن، هل يمكن لمن يحبون الأدب، ولا يهتمون بكرة القدم، أن يتذوّقوا ذلك النوع من الأعمال الأدبية؟ بعبارة أخرى: هل يغني أدب كرة القدم عن اللعبة ذاتها؟

الحرفة الأرجنتينية: كيف نشأ أدب كرة القدم؟

استشرى أدب كرة القدم في أميركا اللاتينية، وتحديدا في الأرجنتين. وفي الواقع فإن الكرة جزء متجذّر من الهوية الأرجنتينيّة، وكان لا بدّ لها من أن تدخل عالم الأدب بطبيعة الحال. فالأدب مرآة تعكس التسلسلات والتطوّرات والمظاهر الثقافيّة والاجتماعية والسياسيّة للبلدان المختلفة. وبناءً عليه، فإن أبرز الكتّاب والأدباء في الأرجنتين تناولوا مسألة الهَوَس والشغف بالكرة، من خلال أعمالهم الأدبية، لينتج عن ذلك جنس أدبي خاصّ، فرض نفسه في الساحة الأدبيّة اللاتينيّة، يُعرَف باسم “أدب كرة القدم”.

ويمكن تعريف أدب كرة القدم بأنه نوع أدبي، يجعل من الكرة نافذة على الحياة، اجتماعيا وثقافيا؛ وعلى العلاقات الإنسانية في المدن وضواحيها والحارات الفقيرة. وعلى الرغم من أن الكرة تمثّل المدخل الرئيس لتلك العوالم، فإنّها ليست العنصر الوحيد الثابت في القصّة، ولعلّ الفضاء المشترك لهذه الأعمال الأدبية هو المستطيل الأخضر. فداخل الملاعب تدور أهم الأحداث وتبلغ ذروتها. ويشمل هذا الصنف الأدبي أيضاً هتافات المشجّعين وأصولها، كما يستعمل كتاب هذا الصنف أسلوب “المراوغة” بالكلمات، تماما كما يراوغ اللاعب خصمه بالكرة، ويجعلونك تشعر أنك فعلا تجلس في أحد المدرّجات، وتشاهد مباراة ما.

قد يكون من الصعب تحديد أول عمل أدبي يندرج ضمن خانة “أدب كرة القدم”، إلّا أنه يمكننا اليوم قراءة كثير من نماذج هذا الأدب، والولوج إلى عوالم بأكملها، عبر قامات أدبية أرجنتينيّة بارزة، أنتجت أعمالا تثري ذلك الصنف، أمثال أوزفالدو سوريانو، وروبرتو فونتاناروسا، وإدواردو ساتشيري، وخوان ساستوريان. ومن الأرجنتين انتقل هذا النوع الأدبي إلى كافة أنحاء العالم.

أوزفالدو سوريانو

تحوّلت النظرة من كرة القدم كونها لعبة للغوغاء إلى لغة عالمية، يتحدث بها أناس تختلف لغاتهم، كما أنها تعمل جسرا بين مختلف الأجيال، والأجمل أنها عمياء عن المكانة الاجتماعية، وفي الوقت نفسه آلية هروب، ووسيلة إلهاء إذا لزم الأمر.

الأكيد أن قراءة أدب كرة القدم لا يعني أن تشاهد المباريات دائما بالمنظور الأدبي والفلسفي والشاعري لكتّابه. وكذلك فإن الاستمتاع بذلك الأدب لن يضطرك إلى متابعة اللعبة. يمكنك أن تكون فقط مشاهدا متحمّسا لمباريات، تُكتب عنها ملاحم أدبية، لا تعرف عنها شيئا، ولكنها تزيد من عمق اللعبة والاهتمام بها عالميا؛ كما يمكنك أن تكتفي بقراءة تلك الملاحم، التي تتكلم عن مباريات لم ترها، ولن تراها، فتقدّر تلك الرياضة، التي كنت تظنها سابقا مجرد نشاط للغوغاء. فما بالك إن جمعت بين الأمرين!

هكذا يتكامل الأدب مع الرياضة، لينتجا مزيجا، أنت حر في متابعته بالطريقة التي تناسبك، ولكنه مزيج مليء بالسحر والجماليات ورصد العلاقات الإنسانية.

لكن لماذا لا يزال هذا النوع من الأدب محل شك في العالم العربي؟

أدب “واقعي”: هل حضرت الكرة في “قضايا” الأدباء العرب؟

طبقا للدكتورة هاجر مدقن، أستاذة اللسانيات النصية وتحليل الخطاب، في جامعة “قاصدي مرباح” في الجزائر، لا يُعني الكتّاب العربي بأغلب الأمور الشعبية، مثل الطعام والرياضة والملابس وما شابهها. مبررةً ذلك بأن الواقع السياسي، الذي يعيشه الكُتاب، يصوّر لهم أن على كتاباتهم أن تتبنّى القضايا الكبرى، فتنفصل القضايا في نظرهم إلى عليا وسفلى، ويُربط الأدب الراقي بالقضايا الكبرى.

من جهته يرى الروائي الأردني عمر خليفة أن الأدب العربي يخسر، بسبب تجنّب الكُتّاب سبر أغوار تلك الأمور الشعبية في أعمالهم، وهذا من الأسباب التي دعته للكتابة عن الكرة والكنافة والمنسف. ويضيف أنه يتعامل مع كرة القدم باعتبارها مسألة جمالية، كأنما هي رواية محكمة أو نص شعري جميل. فكما يبحث في النصوص الأدبية عن الصوت الخاص، فهو يبحث في الكرة أيضا عن الموهبة الخاصة الفردية، مثل موهبة مارادونا وميسي.

عمر خليفة

لكن كرة القدم كانت حاضرة في كتابات بعض الأدباء والشعراء، مثل نجيب محفوظ ومحمود درويش. ومن قرأ كتابات درويش عن كرة القدم وأساطيرها، وخاصة الاسطورة الخالدة مارادونا، سيدرك تماما أن التزامه بأهم القضايا الكبرى، لم يمنعه من تحويل نصوصه إلى ملاعب، تشبه ملاعب الكرة.

طرَّز درويش في ثمانينات القرن الماضي غزلية خالدة في مارادونا، وتحديدا في مونديال عام 1986، بعنوان “لن يجدوا دما في عروقه بل وقود الصواريخ”. يقول:

مارادونا هو النجم الذي لا تزاحمه النجوم. دانت له بقدر ما دان، هو، لكرة القدم، التي صارت كرة قدمه. النجوم تبتعد عن منطقة جاذبيته لتفتتن بما تراه، لتراه من الجهات كلها، لتبهر في معجزة التكوين، لتصلي للخالق والمخلوق، لتحتفي بحرمانها المتحقق في غيرها، لتنشد نشيد المدائح لمن جعلها تُهزم بهذا الامتنان: فما أسعد من هزمته قدم مارادونا!

إلا أن نصوصا كهذه تبقى محدودة في الأدب العربي المعاصر، ولا يزال أمام أدب كرة القدم طريق طويل، حتى ينال اعترافا من نخبة المثقفين. لكن يبقى أنه من الصعب إنكار أن كرة القدم، والرياضة عموما، مادة للأدب، إذا حرمناه منها، بحجة “الغوغائية”، فسيخسر كثيرا من “رفعته”، فما الأدب إن لم يكن قادرا على الخوض في هذه المناطق الغنية للوجود والمجتمع الإنساني؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
تقييم المقالة
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات