أجيال الصحوة: هل أسّس البعث العراقي “المقاومة الإسلامية”؟

أجيال الصحوة: هل أسّس البعث العراقي “المقاومة الإسلامية”؟

استولى تنظيم داعش على مدينة الموصل، ثاني أكبر مدن العراق، مساء يوم التاسع من حزيران/يونيو 2014، وهو الأمر الذي سبب كثيرا من الارتباك وتضارب الآراء والتحليلات. فمن هؤلاء؟ وماذا يريدون؟ وكيف حدث ذلك؟ ونتيجة لذلك الفراغ المعلوماتي ظهرت كثير من الروايات المؤامراتية الأسطورية عن الحدث، وليس فقط بين من تابعوا المشهد من خارج العراق، فالوضع داخله لم يختلف كثيرا، وإن كان متباينا، ففي بغداد ودوائرها الحكومية سادت حالة من الدهشة والفزع، أما في الموصل والمنطقة الغربية، فقد قوبل التنظيم إما بالفرح أو القبول المتردد، نتيجة الحرب الطائفية المريرة، التي شهدها البلد، وجعلت أهالي المنطقة الغربية ينتظرون أي “مخلّص”.

ومع توالي المعارك، وسقوط المدن واحدة تلو الأخرى، إما بالتسليم أو الإنسحاب (الفلوجة والرمادي وهيت وعانة وتكريت) على امتداد خط الفرات، وصولا إلى حزام بغداد، وعلى بعد كيلومتر واحد عن المدينة، أخذت التحليلات الجدية في التبلور. ولعل أكثرها تفصيلا، هي تلك التي تعتبر تنظيم داعش امتدادا لتنظيم “القاعدة في بلاد الرافدين”، الذي أسسه أبو مصعب الزرقاوي، بعد مبايعته لأسامة بن لادن. لتعيد تلك التحليلات المعضلة الأساسية للاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وما سببه من فراغ في السلطة.

ولكن هل تتبّع أصول داعش توصلنا فقط إلى تنظيم القاعدة والاحتلال الأميركي؟  ألا توجد جذور أقدم للتنظيم داخل الدولة والمجتمع العراقي؟ ومن أين أتت فعلا فكرة “المقاومة”، التي يجب تحرق كل شيء، في سبيل أذية عدوها؟

رؤساء مؤمنون: كيف تلقّف بعث العراق “الصحوة الإسلامية؟

كان لهزيمة 1967 وقع مدوي على أيديولوجيا وخطاب القومية العربية، فما كان من الرئيس المصري الأسبق أنور السادت إلا التخلي تماما عنها، بدون أي نقد لفرضيات هذة الأيدولوجيا، التي شارك في صناعتها، أو حتى الاعتبار من نتائجها. ومنذ عام 1974 أخذ في التخلّص من الحرس الناصري القديم، وإخلاء الفضاء العمومي، سياسيا واجتماعيا، أمام الإسلاميين الخارجين من المعتقلات، فالتحمت الجماعة الإسلامية مع جماعة الإخوان المسلمين القديمة، لتنتج جيلا جديدا من “الصحوة الإسلامية”، ويصبح لقب أنور السادات “رجل العلم والإيمان”.

هذا الجيل، جيل “الصحوة”، هو الذي سوف يطارد الحركات اليسارية، الرافضة لمشروع “الانفتاح الاقتصادي” الساداتي، وهو الجيل الذي سوف يرسل المجاهدين إلى أفغانستان لمحاربة المد الشيوعي، وينتج قيادات تنظيم القاعدة في المستقبل، وهو كذلك الجيل الذي أنتج زعماء الحركات الإسلامية في مصر جميعهم، من السلفية العلمية السكندرية، إلى السلفية الجهادية في الصعيد، وحتى الجيل الجديد من قيادات الإخوان المسلمين. لتصبح الثيمة الرئيسية في هذه الفترة الزمنية هي “الرئيس المؤمن”، والتي بدأت أغلب الأنظمة العربية المأزومة، أيديولوجيا وسياسيا، في اتباعها، فانتقلت إلى السودان، حيث بحث الرئيس جعفر النميري عن أيديولوجيا جديدة لمواجهة خصومه القدامى من الشيوعيين، فلجأ إلى الإسلاميين، وأعلن الحكم بالشريعة، ثم أخذ في فرض هذا النمط على المجتمع السوداني؛ تبعه الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، عقب وفاة الرئيس هواري بومدين.

لكن الحالة العراقية، التي سنستعرّضها هنا، هي الأكثر تطرفا واستثنائية، وهي حالة كاشفة، فكما أن الاستثناء يُبرز القاعدة، والاختلاف يكشف التكرار، فالحالة العراقية لم تتوقف فقط عند كشف تبعات ثيمة “الرئيس المؤمن” ونتائجها المدمرة، لكنها سوف تتجاوز كل التجارب السابقة في الأثر، وتُشكّل مصائر الشعوب العربية، حتى صعود موجات الربيع العربي وهزيمتها، في مزج حديث وقديم لأسوأ ما أنتجته السياسة العربية المعاصرة: التوتاليتارية والعنف الديني.

نحن نتحدث هنا عن حزب البعث العراقي، وهو الفرع القطري للحزب القومي الكبير، الذي أسسه ميشيل عفلق عام 1947، بصفة حزب علماني قومي، يسعى لتوحيد الدول العربية في دولة واحدة، ومجابهة الاستعمار، اعتمادا على الإرث العربي والإشتراكية، ليصل الفرع العراقي من الحزب إلى سُدة الحكم، عقب الإنقلاب على الرئيس عبد الكريم قاسم عام 1963. ثم عرف الحزب مرحلة جديدة مع وصول صدام حسين إلى رئاسة الجمهورية عام 1979، بعد إعفاء الرئيس أحمد حسن البكر من مهامه. وخلال الفترة التي تلتها أخذت صورة الحاكم الأوحد في التشكُّل، ليصبح صدام حسين رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس قيادة الثورة، والأمين العام للحزب؛ ويصبح “الرفيق القائد”، مصدر السلطات، فتُقام له التماثيل، وتُنشد له الأشعار والأغنيات، مُعتمداً في حكمه على حزب فيه 1800000 عضو، من جميع الطبقات والفئات المجتمعية، باتوا صُلب جهاز الدولة البيروقراطي؛ وعلى جهاز عسكري ضخم، شديد الولاء لعقيدة البعث ولصدام نفسه؛ وعلى اقتصاد ريعي، يعتمد بشكل أساسي على البترول ومشتقاته. ولكي يستقر حكمه، أخذ نظام البعث في إقصاء الجميع، ابتداءً من الإسلاموية، في صورتها الشيعية مع باقر الصدر، وصولا إلى القوميين الكرد، والمنظمات اليسارية المختلفة مع البعث، ليُحاول صدام بهذا أن يُقدم صورة مُتخيلة من “الوطنية العراقية”، التي تتطابق فيها الدولة/الحزب مع الأمة، من خلال تكييف وإعادة تشكيل الأمة العراقية، متعددة الإثنيات والطوائف والطبقات، بل وحتى الأيدولوجيات، لتُناسب قالِب الحزب الواحد، الذي تختفي فيه هذة التعددية.

ونتيجة لتلك الثقة المفرطة، والصورة المتوهّمة عن “واحدية” الأمة، خاض العراق حربه الأولى مع إيران عام 1980، التي انتصرت فيها للتو الثورة الإسلامية بقيادة الخميني. ظن صدام حسين أن الصعود الإسلامي في إيران سوف يؤثّر على وحدة الأمة العراقية، فأعلن شن حرب خاطفة على إيران، التي ما يزال النظام الجديد فيها مُتعثرا، دفاعا عن الوطنية العراقية، وباعتبار العراق خط ردع أساسي، ودرع العرب الشرقي. لكن النتيجة هي استمرار الحرب لمدة ثماني سنوات، فقدت الدولة العراقية فيها مواردها المالية، وتسببت في شق داخل الأمة نفسها، وخصوصا في مُكونها الشيعي.

خرجت العراق من هذه الحرب إلى حرب أخرى، هذة المرة كانت من نصيب الجارة العربية الكويت، في اعتداء صارخ على أيديولوجيا القومية العربية، التي تبناها البعث ودولته. كانت الحرب هذة المرة طمعا في الموارد، ورأبا للصدع الذي سببته الحرب الأولى، لكنها انتهت بهزيمة مدوية لدولة الحزب الواحد وعقيدته، فاندلعت انتفاضة الجنوب، على أيدي الجنود المنسحبين من الكويت، ليقوم الحزب الحاكم بقمعها، اعتمادا على خطاب طائفي، ينذر بتحول خطير في بنية الدولة، لم تشهده من قبل.

العصر الإيماني: لماذا كانت أفغنة العراق هي “الحل”؟

في اجتماع لقيادات الحزب، تساءل صدام حسين عن طبيعة حزب البعث: هل هو حزب علماني أم إيماني؟ وأجاب أنه اختار أن يكون إيمانيا. اُطلق على الفترة، الممتدة من 1993 حتى 2002، فترة “الحملات الإيمانية”، وعندها بدأت التحولات في قواعد الحزب، عن طريق إلزام الجميع بحضور الدروس الدينية، التي تُقام يوميا في الجوامع، وكذلك إلزام الشخصيات الحزبية النسائية بإرتداء الحجاب، ثم إقرار الحدود الإسلامية القديمة، بقطع يد السارق، والإلقاء من شاهق، بتهمة “اللواط”، وسجن الأعضاء، متى ضُبطوا وهم يلعبون القمار، وقطع رؤوس النساء بتهمة الزنى، من ثم إلزام القيادات الحزبية بحضور دورات دينية استمرت لمدة 6 شهور، والقيادات العليا لمدة سنتين، يحفظون فيها القرآن، ويدرسون كتبا سلفية مُحددة. وأُقرت دروس الدين في التعليم الإلزامي للمدارس، من المرحلة الإبتدائية فما فوق، والإعفاء الضريبي لكل من قام ببناء مسجد هُنا أو هناك، فانتشرت الجوامع وتضاعفت في جميع أنحاء العراق، لكن التوجه العام الجديد، لم يُوجّه خطابه وأيديولوجيته الجديدة للسنة فقط، وإنما للشيعة أيضا، فجاءت الأدبيات الجديدة تُعلي من شأن الإمام علي، وتتحاشى مناطق الخلاف بين المذهبين. وبحسب الباحث الأميركي برام أمازيا، في كتابه “صدام حسين والإسلام”، فالدولة العراقية سعت لرأب الصدع مع المرجعية الشيعية في النجف.

لكن الحملة بدأت في أخذ اتجاه آخر خارج سلطة بغداد، فإن أمكن للدولة ضبط الالتزام بخطاب ديني ولاهوتي محدد، فلن يمكنها ضبط تفسيراته. أخذ أئمة المساجد، من السلفيين والإخوان وأصحاب الطرق الصوفية، في المناطق السُنية (الغربية)، في تفسير “الحملة الإيمانية” كلٌّ على طريقته. وفي تلك الفترة قامت الدولة بإطلاق سراح شخصيات سلفية معروفة، مع تحذيرهم من سوء عاقبة التأليب على الرئيس والحزب، فانتشرت الدشداشة القصيرة، الرمز البصري للملابس السلفية، بين عموم السكان في الرمادي والفلوجة، لتصبح الملابس الشعبية الجديدة، مصحوبة بإطالة اللحى، وتداول الأشرطة الصوتية لتسجيلات خطب مشايخ السلفية وعلمائهم.

كانت أول نتيجة لكل تلك “الحملات الإيمانية” هي تفجير الجهادي محمد الكبيسي دارا للسينما في مدينة الفلوجة عام 1995، فأُرسلت الدولة الآليات لهدم ما تبقى من السينما، وكل ما في نطاقها، وبناء جامع ودار مناسبات بدلا عنها. ثم مُنعت محلات بيع الخمور، وأُغلقت محلات الحلاقة، التي تضع على أبوابها صورا مغرية لتسريحات الشعر. وبطريقةٍ ما توافقت رؤية الدولة مع منظور السلفية المتشددة، وتم تفسير ذلك بأن صدام قد عاد للإسلام، ليُصبح “أسد السُنة”، فكل أسباب الضياع والهزيمة كان سببها الإبتعاد عن الإسلام وتعاليمه، كما فسرها السلفيون.

كانت أخبار مُجاهدي أفغانستان تُذاع في المدن، فتحولت مناطق السُنة إلي حواضن طائفية للإسلام السلفي المتشدد، عن طريق “الترميز المقلوب”، فالسُّنة لايمتلكون من الرموز قدر إمتلاك الشيعة لها، لذلك تم استهداف رموز الشيعة بإعتبارهم “روافض” مرتدين عن الإسلام، خارجين عن أمة أهل السنة والجماعة، مع ربطهم بالمِخيال الصفوي الإيراني، وإقصائهم من العروبة.

ما جرى في المحصلة كان على الضد مما أراده النظام، فهو كان يرى إمكانية استعادة مُتخيّل الوطنية العراقية، بنزوعها العروبي، من خلال التقارب بين المذهبين السني والشيعي، وجمعهما معا بلصاق الدين، في مقابل الكرد الخارجين عن هذا النزوع، وفي الوقت نفسه إبقاء هيمنة الحزب على الجماهير. فقبل أن تبدأ “الحملة الإيمانية” عمد النظام إلى جلب مشايخ القبائل في العراق، ليعلنوا ولاءهم للقائد، وينزعوا عقالهم أمامه، لتتقزم فكرة الواحدية إلى مستوى رؤوس قبائل وشيوخ وطرق دينية وطائفية متعددة، حاول البعث ضبطها جميعا، بعد تفكك مفهوم “الأمة”. إلا أن أدوات الضبط العنية للدولة كانت قد تضرّرت بشدة، فلجأت لأبناء القبائل كي يكونوا أدوات ضبطها، وجهازها العنيف، في مقابل منحهم ميزات خاصة، وكأن الدين لايمكنه أن يأتي معزولا عن القبلية وأنسابها، سواء كانت حقيقية أم مُتخيلة.

البعثي المُجاهد: ماذا بعد انفجار القنبلة العراقية؟

تحوّل العراق تحت حكم حزب البعث إلي قنبلة موقوتة، فالهاجس بضياع الدولة، الذي أصاب الحزب بعد هزيمة حربين، وبفعل حصار اقتصادي عنيف، أدى لتفتيت المجتمع إلى طوائف مُتعادية سياسيا، وتفكك تراث المدنيّة فيه.

لكن الخطر الأكبر تمثّل في أسلمة سياسات الحزب، وحملاته الإيمانية، التي رفعت من أرصدة مشايخ وعلماء السلفية، حتى أصبحوا وسيطا بين الدولة والسكان، مما جعل رموز السلفية الجهادية، بأيديولوجيتهم الإقصائية، والموارد الجديدة التي اكتسبوها، صِمام الأمان لهذة القنبلة. ولتعزيز هذه السيطرة، استجلب الحزب عناصر جهادية غير عراقية، من مناطق “الخبرات” الجهادية، سواء في أفغانستان وغيرها، ليقوم بتدريبهم على التصدي للأميركيين عند اندلاع الحرب. وكان التليفزيون العراقي يعرض تدريبات هؤلاء الوافدين، وتصريحاتهم، وهم يتحدّثون عن “أميركا الصليبية”، وعن “الجهاد”، وغيرها من المصطلحات، التي رسختها هيمنة “الحملات الإيمانية” (عند اندلاع الحرب، سوف يلتحق هؤلاء المجاهدون بالجنود الفارين من الجيش، وبأعضاء من الحرس الجمهوري، لتشكيل أول رد فعل على الغزو الأميركي، ينطلق من الفلوجة).

عندها اندمج العنصر البعثي بالسلفي الجهادي بالإخواني بشيخ القبيلة، لشن حرب مقدسة ضد الإحتلال الأميركي، تحت مفردات إسلامية، وخطاب جهادي محارب، وإن تنوعت رغبات المقاتلين تحت الراية الواحدة، فالبعثي يريد استعادة الدولة؛ والإخواني ممزق بين الحسابات السياسية البرغماتية الجديدة وبين أدبياته الإسلامية؛ أما الجهادي فهو يريد حربا مقدسة لا هوادة فيها، بدون تكتيكات وحسابات برجماتية، خاصة أن الجهادية جمعت في ثناياها مجاهدين عرب غير عراقيين وأجانب، وخطابا راديكاليا، يمكنها أن تحرج به خصومها الإسلاميين أنفسهم، وتستقطب شبابهم لما تريد، وهو ماحدث، فجميع من استفادوا من الحملات الإيمانية، وجدوا انفسهم في نهاية المطاف أسرى للخطاب الجهادي، ومن حاول التهرّب منه، والإشتراك في العملية السياسية الجديدة، التي أدارها الأميركيون، نُظر إليه على أنه مُتخاذل وفاسد، وحتى مرتد.

بعد اندلاع الحرب وسقوط بغداد، انفجرت القنبلة التي صنعها البعث، وأصبح العراق موطنا للجهاديين القادمين من كل مكان، وموطنا للحروب الطائفية السنية-الشيعية، وموطئ قدم لتنظيم القاعدة، وهو الذي سوف يأخذ في التطور والاتساع، بداية من الزرقاوي، مرورا بأبي عمر البغدادي (كانت وظيفته عميدا في الشرطة العراقية خلال حكم صدام) وأبي بكر البغدادي (إبراهيم عواد) الذي سوف يأخذ الممارسات الطائفية إلى أقصاها عام 2010، وصولا لسقوط الموصل.

الملاحظ أن العنصر العراقي خاض صراعا مستعرا مع كل العناصر الجهادية الوافدة من الخارج، في مخالفة صريحة لأدبيات “الجهادية العالمية”، التي لا تقبل أي تفرقة قومية بين المجاهدين، والسبب الذي يمكننا أن نعزو إليه هذه التفرقة هو شعور العنصر العراقي، سواء كان بعثيا، أو محسوبا على النظام السابق، بأحقيته السلطوية والطائفية، وهو ماجعل سكان المناطق، التي سيطرت عليها “المقاومة”، يستبشرون بقدوم داعش، لتخليصهم من سيطرة السلطة الاتحادية لحكومة نوري المالكي الطائفية، التي اضطهدتهم ونكّلت بهم.

العلمانية الزائفة: هل هنالك أمل في تجاوز “الحملات الإيمانية”؟

لا يقتصر الأمر على العراق، فلا يكاد يمر يوم دون أن نقرأ في الصحف عن أخبار تفكك الدول العربية، وتهديدات بالحروب الطائفية والعمليات الانتحارية. ومن العراق إلى سوريا ولبنان وغزة، وحتى سيناء وليبيا واليمن، يبدو أن العالم العربي يدفع ضرائب باهظة، ثمن غياب أي نقد جاد، وينتقل من هزيمة إلي أخرى. والواقع يطرح علينا سؤالا في غاية الأهمية، حول إمكانيات الخروج من هذه الأرض المحروقة، التي أوصلنا إليها جيل الصحوة، والسياسات التوليتارية لدولة الحزب الواحد، والصوت الواحد.

قد يكون من الضروري للخروج من هذت المأزق استحضار مفهوم “النقد العقلاني العلني”، الذي قامت عليه عصور التنوير. يقول الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس: “إن جمهور “الكائنات البشرية” التي تشارك في النقاش النقدي العقلاني، اتّخذ صفة “المواطنين”، كلما حدث بينهم تواصل حول أمور البلد، وقد أصبح هذا الجانب العام من الحياة العامة، في ظل الدستور الجمهوري، المبدأ التنظيمي للدولة الليبرالية الدستورية“. أي أن الفرد يحدد موقعه في بلده بوصفه مواطنا وليس “رعية”، عن طريق مناقشته العقلانية الحرة لأمور بلده، ودوره فيها. ويرى إيمانويل كانط بأن العقلانية هي “استخدام الفهم الشخصي من دون الرجوع إلي شخصٍ آخر للإهتداء إليه“، وهو مايحدث أيضا في ظل طاعة القوانين الدستورية، التي شارك الشعب في صياغتها، بوصفه المرجعية الأولى والوحيدة لها، بما يضمن حريته وأمنه واستقراره.

أما بخصوص إمكانيات التنوير اليوم فهي بالتأكيد عديمة الجدوى، بدون مشروع سياسي، فمن ناحية يوجد مجتمع تغلب عليه الثقافة المحافظة، لأنها أسهل في الضبط المجتمعي، وسلطة توتاليتارية يمكنها أن تستحدث أفكار الصحوة لضبط المجتمع وقتما تشاء، وتنتزعها وقتما تشاء، وهو مايجعلنا أمام الحاجة للبحث عن أنظمة ديمقراطية حقيقية، تعطي الأولوية للنقد، وتُشرك شعبها في هذه العملية، مما ينقلهم من كائنات بشرية “رعايا”، إلى كونهم “مواطنين”، ذوي حقوق وواجبات، بدون استخدام للعصا.

إمكانيات النقد الغائبة عن العالم العربي، على الرغم من تحديث منظومة الإدارة والدولة والقانون، أعادتنا إلى حقبة السيطرة الأبوية التقليدية، التي تنفي أي إمكانية للنقد، وتقدّم لنا حقيقة وحيدة أمام أذهاننا، حتى لو قام بذلك حزب البعث، وهو أهم حزب “علماني” في المنطقة. وما زالت تجارب البعث والصحوة قابلة للتكرار.

تُعد الحالة البعثية نموذجا عن “العلمانية الزائفة”، فهي علمانية لائكية متطرفة، تتعامل مع الإسلام بمنطق النفي، على اعتباره منتجا رجعيا لابد من الإنتهاء منه، بدون مناقشته بأي طريقة ممكنة، وهي الثيمة التي سادت أنظمة التحرر والإستقلال في النصف الثاني من القرن العشرين، والتي قادتها نُخب عسكرية، لا تفهم جدوى “النقد”، وإمكانات المُراجعة، حتى تعرّضت كلها للهزيمة، وأدركت خطأها، فدعمت أيدولوجيا الصحوة، إما بشكل مباشر (صدام) أو بشكل غير مباشر (السادات). وخلال تلك الفترة العاصفة من المِحَن والأزمات، التي مر بها المواطنون العرب، لم يجدوا أي سند روحي/أدبي، يُمكنهم الاستناد عليه لمواجهة أزماتهم، فلا أحد يفهم ماهي الإشتراكية القومية الإسلامية، التي دعت إليها هذة الأنظمة، فلماذا ندافع عمّا لا نفهمه؟

على الجانب الأخر، ظلت الحمولة الإسلامية التراثية والروحية في معزل عن كل ممكنات النقد والإصلاح. وقد وافقت رؤية العلمانية الزائفة رؤية شيوخ التقليد الإسلامي، فالإسلام يتداوله المتخصصون فقط، خارج الفضاء العمومي. وظلت تلك الحالة هي المؤثرة، حتى جاء الإسلاميون الحركيون، فأعادوا استعمار الفضاء العمومي وتأسيسه إسلاميا، ليصبح الإسلام داخل هذا الفضاء الجديد معدوم الشكل، فالإسلام ليس دينا، بتعبير الشيخ يوسف القرضاوي، فقد أضحى عملا وعبادة ونظام حكم ودولة وأمة واقتصاد وجهاد، تلك الشمولية، الغائب عنها أي تحديد عقلاني لعناصرها، ولّدت العنف المُستعر، الذي يعيش فيه عالمنا العربي اليوم، إنها الرغبة في التغوّل عن طريق العنف، بدلا من الإقناع والتبرير العقلي.

لكن هذة العلمانية لم تنحصر فقط في إطار السلطة، بل انتقلت إلى عدد كبير من المفكرين، الذين جاءت أفكارهم مُعزِّزة لأفكار الإسلاميين، فمن دعاوي عزل الإسلام عن الحياة، والحديث عن وجود جوهرية في العقل العربي لا تتغير (النص) في المقابل من “العقل الأوروبي” الواجب استنساخه؛ مرورا بربط الإسلام التراثي الروحي، الممتد لأكثر من أربعة عشر قرنا، بمقولات الإسلاميين وجيل الصحوة، من ثم رفض كليهما معا؛ وصولا إلى التقرّب من السلطة، وتبرير وجود “المستبد المستنير”، وتفضيله على المستبد الرجعي. تخلّى اولئك المفكرون عن الحرية مقابل الأمان.

جاءت هذة المقولات لتُعزز من موقف الإسلاميين، فمن ناحية اختُزل الغرب العلماني، وكل ما أنتجه ثقافيا وسياسيا، إلى محاولة لتغريب واستعمار الشرق العربي ذي الجوهر الإسلامي، وجاءت الأنظمة السياسية العميلة للغرب، لتحاول مسخ هوية الشعوب والتسلُّط عليها. وهي الرسالة التي تواصل بها جيل الصحوة مع الشعوب العربية، لتبرير وجوده وغاية رسالته.

هذا المأزق الثقافي/السياسي في عالمنا اليوم لايوجد له غير مخرجٍ واحد على المستوى الثقافي، وهو “فتح الإسلام”، بتعبير الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، أي ضرورة تناول المنتج الإسلامي التراثي بالنقد داخل الفضاء العمومي، الذي يتشارك فيه الجميع، بغرض الوصول إلى الأصل الروحي، الذي تراكمت عليه كل منتجات التاريخ، الفقهية والكلامية، والدخول في مواجهة مع كل المؤسسات الدينية الرسمية؛ وعلى المستوى السياسي “الديموقرطية وحرية النقد العلني”، والتي تطلب نظاما سياسيا ديموقراطيا، يُعامل فيه الأفراد بوصفهم مواطنين، لهم الحرية الكاملة في النقد، وتعديل السياسات، واحترام الدستور، وآليات التشريع والتنفيذ.

قد تكون هذ هي الطريقة الوحيدة، التي يمكن من خلالها تجاوز الأزمة، وقطع الطريق على الإسلام السياسي، ومنعه من إعادة انتاج نفسه مرة أخرى.

المراجع

1_ العمامة والأفندي: سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الديني، فالح عبد الجبار، ترجمة امجد حسين، منشورات الجمل

2_ كتاب الدولة: اللوياثان الجديد، فالح عبد الجبار، منشورات الجمل

3_ دولة الخلافة: التقدم إلي الماضي، فالح عبد الجبار، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

4_ أساطير الآخرين: نقد الإسلام المعاصر ونقد نقده، ياسين الحاج صالح، دار الساقي

5_ هل النقد علماني؟ التجديف والإساءة وحرية التعبير، طلال أسد، ترجمة ابراهيم بن عبد الرحمن الفريح، دار جداول

6_ جينالوجيا الدين: الضبط وأسباب القوة في المسيحية والإسلام، طلال أسد، ترجمة محمد عصفور، دار المدار الإسلامي

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 3 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات