وسط مجموعة من أفلام موسم عيد الأضحى، المنقسمة بين الكوميديا والأكشن، والمبنية أحيانا على الترويج الدعائي لأماكن سياحية، قرر صُنّاع فيلم “أهل الكهف” خوض المنافسة على شباك التذاكر، رغم أن أحدا لم يتنبأ لهم بالقدرة على ذلك. وبالفعل، حتى الآن لم تتجاوز إيرادات الفيلم المليون جنيه، منذ بداية عرضه في الثاني عشر من حزيران/يونيو 2024.
الجمهور المصري، المحاصر حاليا بالأزمات الاقتصادية الحادة، والظروف المعيشية القاسية، يميل في السنوات الأخيرة إلى تغليب مشاهدة الأعمال الفنية الكوميدية، أو نجم الشباك الذي يقدم الأكشن، خاصة مع ارتفاع أسعار تذاكر السينما، وتضاعفها أكثر من مرة، فأصبح من الصعوبة بمكان أن يدخل المواطن العادي أكثر من فيلم في العيد، ولذلك تميل الكفة إلى المضمون، و”أهل الكهف” خارج هذا “المضمون” تماما.
الفيلم معالجة سينمائية، أعدّها الكاتب أيمن بهجت قمر، وأخرجها عمرو عرفة، عن النص المسرحي الذي يحمل الاسم نفسه، للكاتب المصري الشهير توفيق الحكيم. وهو نص ينتمي إلى التاريخ الديني، مستوحى من القصة الدينية التراثية عن أصحاب الكهف، وهم النيام السبعة بالرقيم في القرآن، أو القديسون أهل مغارة أفسس في المصادر المسيحية. وشارك في بطولته كثير من الممثلين المعروفين، مثل خالد النبوي (القائد سبيل) محمد ممدوح (القائد بولا)، محمد فراج (التوأم نور ونار)، غادة عادل (بريسكا)، أحمد عيد (يمليخا)، رشوان توفيق (القديس خشبة)، ريم مصطفى (الجارية تنسيم)، مصطفى فهمي (الإمبراطور دقيانوس)، صبري فواز (عرنوش)، أحمد وفيق (القائد إدريس)، جميل برسوم (القسيس)، هاجر أحمد (روزة ابنة القديس خشبة)، بيومي فؤاد (الإمبراطور المسيحي).
تعدّ تجربة فيلم “أهل الكهف” مهمة في هذا الموسم، نتيجة لندرة الأعمال المستوحاة من نصوص مسرحية مؤخرا، أو المرتبطة بالحكايات التراثية الدينية، وهو أمر شائك في مصر، لأن تناول القصص الديني غالبا كان محل انتقادات وهجوم، وقد يُعرّض أصحابه لدعاوى قضائية، وعواقب قانونية واجتماعية.
فهل يشير “أهل الكهف” إلى تغيّر شيء في هذه المحاذير؟ أم أنه لم يخالف السرد المعياري للمسائل الدينية؟ ومن ناحية فنيّة بحته: هل قدّم الفيلم شيئا، باستثناء أهمية موضوعه؟
رسائل “فنيّة”: كيف بدا “أصحاب الكهف” على الشاشة؟
تدور الفيلم أحداث حول اختيار القائدين العسكريين “بولا” و”سبيل” الانتماء إلى “الدين الجديد”، وهو المسيحية، ولكن نتيجة كره الامبراطور الشديد لأتباع ذلك الدين، يقرران إخفاء الأمر، وإظهار العداء بينهما أمام الجميع، رغم صداقتهما الخفية، وبسبب خطأ يقع فيه “سبيل”، ينكشف أمرهما، ويصبحان مطاردين. والإشكالية الأساسية، التي يطرحها الفيلم، هي علاقة الدين بالسُلطة السياسية.
يدور الجزء الأول من الأحداث (ما قبل الاختباء في الكهف) حول علاقة الإمبراطور “دقيانوس” بقائديه “سبيل” و”بولا”، وابنته بالتبني “بريسكا” من جانب؛ وعلاقته بابنه ومستشاره اليهودي “عرنوش” من جانب آخر. وكذلك حربه ضد المسيحيين؛ بينما الجزء الثاني (بعد العودة من الكهف) فيتمحور حول علاقة القديسين السبعة بالحياة الجديدة، التي صارت عليها مدينتهم، والصراع الدائر فيها على السيطرة، بين سُلطة الكنيسة وسلطة الإمبراطور المسيحي، ومحاولة كل من الطرفين استغلال القديسين لتحقيق مكاسب أكبر. والأحداث جميعها تُروى على لسان رجل كهل (أحمد بدير) يُسمى “إنسان”، وهو مفكّر في زمن آخر، يدعو إلى التفكير في الدين، وطرح الأسئلة، مما يجعله مطاردا من جنود الحاكم، بعد اتهامه بالهرطقة.
استخدم المخرج أسلوب “الفلاش باك”، أي العودة بالزمن لرواية الأحداث، من خلال شخصية المفكر “إنسان”، لكي نكتشف في النهاية علاقة هذا المفكر بالمجموعة التي نامت في الكهف ما يزيد عن ثلاثة قرون. واختار المؤلف الرواية الدينية، التي تميل إلى أن النائمين في الكهف كانوا سبعة أفراد، وهذا الاختيار هدفه تقديم أكثر من شخصية، للتعبير عن مضمون الفكرة، التي يريد الكاتب طرحها، وتوظيف أدوارهم في مرحلة ما بعد الكهف.
تعدّ التقسيمة المبدئية للفيلم، والشخصيات وتوزيعها وتنوّعها، مُبشرة نوعا ما. إضافة إلى المعالجة، التي تحاول الانسلاخ من مضمون النص المسرحي، الذي قدمه توفيق الحكيم، والذي كان يدور أساسا حول مواكبة حركة الزمن، لتقديم فكرة أخرى عن مراحل تطور الدين، من إيمان خالص بالله، إلى أداة يستغلها الجالسون على كراسي الحكم، لتحقيق مكاسب ذاتية. يضاف إلى ذلك قوة الممثلين المشاركين في الفيلم، وعلى رأسهم رشوان توفيق ومحمد ممدوح وصبري فواز ومحمد فراج؛ والديكورات والأزياء المتقنة، والمعبّرة عن الشخصيات.
لكن ما أفسد كل هذه العناصر، أو ربما قلّل فرصها في الظهور والنجاح، كان أولا المباشرة والسطحية في الطرح، على أكثر من مستوى: مستوى اختيار أسماء الشخصيات، مثل التوأم “نور” و”نار”، والذي يشير بسذاجة إلى كون أحدهم زاهدا، والآخر يميل إلى الدنيا وملذاتها؛ والمُفكر “إنسان”، والذي من المفترض يعبّر من خلاله المؤلف عن ديمومة الصراع بين السلطة وكل إنسان يحمل فكرا متحررا.
وعلى مستوى الحوار، يتم إبراز الأفكار بشكل فج وتلقيني. كما عندما يقول عرنوش: “إنتي عارفة يا مولاتي بريسكا إن الوضع الاقتصادي للمملكة سيء، وحلقات المصارعة دي بتلهي الناس”. أو عندما يؤكد القائد سبيل: “الناس دي مش بيدافعوا عن الدين، لكن بيدافعوا عن مصالحهم”. والسؤال، الذي يطرح نفسه هنا: أليست السينما لغة بصرية في المقام الأول؟ فلماذا يستسهل بعض صناعها إيصال فكرتهم باستخدام العبارات، بدلا من اللقطات البصرية المعبّرة عن الوضع المُراد الإيحاء للمٌشاهد به؟
ما ساهم في إفساد العناصر الجيدة في الفيلم أيضا، السمات غير المبررة، الذي استخدمه الكاتب للشخصيات، فقد اختار أن يكون البطلان الأساسيان من خلفيات مختلفة: القائد سبيل من أصل عربي، وبولا من أصل روماني. وأبرز هذا الخلاف في أحد الحوارات، على لسان بولا، بدون استخدام هذه التفصيلة الدرامية فيما بعد، أو تبريرها. إضافة إلى كون المستشار الخبيث عرنوش يهوديا، وكأن هذه الصفة مقترنة فقط باليهود، ولا يمكن أن يكون الوزير المُضطَهِد للمؤمنين، في مملكة وثنية، سوى يهوديا. ومن التفاصيل الأخرى غير المنطقية، والتي لم يقدّم لها المؤلف تفسيرا، سبب زواج بولا في السر، وتعبيره عن كرهه للنساء أمام الإمبراطور. نحن أمام فيلم يدعونا إلى التفكير بكل المقدسات وعلاقات السلطة، ولكنه لا يستطيع أن يتعمّق في صور يقدّمها، حول معاداة السامية وكراهية النساء.
هذه الإخفاقات الدرامية لا تنفي وجود بعض التفاصيل الأخرى، التي تساهم في تطور الأحداث دراميا. وأيضا توظيف بعض الشخصيات كوميدياً، للتخفيف من حدة الأحداث الدرامية، مثل شخصية يمليخا، ولكن هذا الخط الكوميدي لم يكن موفّقا في بعض الأحيان، نتيجة تكرار “الإفيهات”.
كما ضمّ الفيلم بعض المشاهد جيدة الأداء على المستوى التمثيلي، مثل هاجر أحمد في مشهد الولادة، ووصيتها الأخيرة لوالدها عن رضيعها؛ ومشاهد محمد ممدوح، وتحديدا مشهدي اكتشاف مصير أسرته، ومواجهته مع خالد النبوي؛ والتفاصيل الجسدية والحركية التي زرعها محمد فراج في شخصيتي التوأم نور ونار، لكي يستطيع المشاهد التفريق بينهما، والتي كانت واضحة ومعبّرة عن طبيعة وسمات كل شخصية.
رغم كل هذا فقد افتقر الفيلم بالمحصلة إلى الاتقان الفني. ولكن هل هذا هو السبب الوحيد لفشله على شباك التذاكر؟
مضامين “فكرية”: هل عرفنا جديدا عن علاقة الدين بالسياسة؟
بعيدا عن السياق الداخلي للفيلم، فإن السياق والظرف الخارجي، الذي عرض فيه، لم يكن من العوامل المساعدة والداعمة لنجاحه في شباك التذاكر، لأنه بالتأكيد لا يصلح أن يكون من أفلام “موسم العيد”، التي تغلب عليها الكوميديا والرومانسية والأكشن عادة. خاصة أنه لم يكن مبشّرا بأي عامل جذب، حتى على صعيد ملصقه الإعلاني، الذي تصدرته صورة خالد النبوي، والذي لا يعد من نجوم الشبّاك.
رغم هذا كان يمكن للعمل أن يصير ميدانا لطرح الأسئلة، حول توظيف الدين لخدمة السلطة، ما قد يجعله مثيرا لاهتمام كثير من الناس، خاصة في بلد مثل مصر، يدور فيه كثير من الجدل حول الموضوع، الذي يتداخل في مختلف القضايا السياسية والاجتماعية؛ وتنفجر فيه كل فترة قضية عن “الخطاب الديني” أو “التنوير”.
وقد “تجرّأ” الكاتب أيمن بهجت قمر في التلميح إلى ذلك، إذ قام بتوظيف شخصية البطريرك المتآمر رمزا لمن يجلسون على كرسي السلطة الدينية. إلا أن ذلك يترك سؤالا مفتوحا عن سبب اختياره للمسيحية تحديدا دينا للقديسين السبعة، والكنيسة رمزا للدين، مع العلم أن النص الأصلي لتوفيق الحكيم لم يشر إلى الكنيسة أبدا، بل تحدّث عن رجال تركوا الوثنية وآمنوا بالرب. فهل كان هذا الاختيار من كاتب السيناريو بسبب القلق من تفسير الأمر وكأنه اسقاط على مؤسسة الأزهر، بوصفها الكيان المعبّر بشكل رسمي عن الدين الإسلامي في مصر؟ خاصة وأن موعد عرض الفيلم كان قريبا من ذكرى أحداث الثلاثين من حزيران/يونيو، التي شارك فيها الأزهر بوضوح، من خلال وجوده ضمن الفريق الداعم لخطاب إيقاف العمل بالدستور، وعزل الرئيس السابق المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين محمد مرسي.
قد تكون المؤسسة الدينية المسيحية هدفا أسهل في مصر من المؤسسة الإسلامية، ولكن هذا يخالف الجرأة في تحكيم العقل، التي يدعونا الفيلم نفسه إليها، خاصة في بلد يتعرّض فيه المسيحيون لاعتداءات على أساس طائفي، ويمنعون، في كثير من مناطقه، من ممارسة معتقدهم بحرية.
في كل الأحول، يمكن إضافة هذا للصور التي قدمها الفيلم، حول المستشار اليهودي الخبيث، والقائد الشجاع الكاره للنساء، لندرك أنه لم يقدّم جديدا فعلا، لا في نقد استغلال السلطة للدين، ولا في تفكيك المفاهيم الدارجة، ولا حتى في الجرأة في التعاطي مع الرموز. فلماذا يشغل المشاهد نفسه، في موسم العيد، بفيلم لا يقول أي شيء يخالف السائد، وفي الوقت نفسه يفتقر إلى عوامل الجذب، والاتقان الفني والدرامي؟
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.