أٌقامت العتبة الحسينية المقدسة، وللمرة الأولى، بتاريخ الحادي عشر من حزيران/يونيو 2024، مهرجانا لاستذكار فتوى “الجهاد الكفائي” (فتوى السيد علي السستاني للقتال ضد داعش في عام 2014)، التي قام على أساسها “الحشد الشعبي”، ورغم أن المهرجان كان يُقام قبلها سنويا، ولمدة عشر سنوات، بتنظيم من “فرقة العباس القتالية”، التابعة للعتبة العباسية، بدون وقوع أي إشكال، إلا أنه في هذا العام، ومع تكرار تنظيمه من طرف العتبة الحسينية، أحدث ضجة كبيرة، ناتجة عن قراءة الممثل الكوميدي علي سمير صبيح إحدى قصائد والده، الشاعر المتوفى سمير صبيح، التي تتحدث عن ثورة العشرين ضد الاحتلال الإنجليزي، وقادتها. وبحسب الشاعر، فإن الشيخ شعلان أبو الجون (الشخصية الشيعية من محافظة المثنى) هو من قاد الثورة، لكن بعد تغيّر الحكم في العراق، زُوِّر التاريخ، ليصبح القائد هو الشيخ ضاري بن محمود الزوبعي (إحدى الشخصيات السنية من المناطق الغربية)، رغم أنه كان عميلا انجليزيا. ويتحدث الشاعر عن خوفه من تغيير حقيقة أن الحشد الشعبي هو من حرّر المناطق الغربية من العراق، ليُنسب الفضل بعد ذلك لشخصيات لم يكن لها دور أو وجود.
ليست هذه المرة الأولى التي تُقرأ فيها تلك القصيدة على المنصات الشعرية، وبالعموم تعتبر القصائد ذات الحس الطائفي سمة موجودة على منصات المهرجانات ذات التوجّه العقائدي، إلا أنها، وللمرة الأولى، تُجابه هذا الكم من الهجوم، من قبل شيوخ عشائر الغربية، ونوّاب برلمانيين سنة، وكثير غيرهم من أبناء المذهب السني، لتُحدث جدلا ونقاشات حادة، كانت الطائفية أساسها، ولتتصدر التريند منذ أيام، وتصبح حديث الشارع العراقي.
ما الذي جعل هذه القصيدة بالذات تثير كل ردود الفعل هذه؟ ولماذا تصبح الطائفية في هذه الأوقات ملجأ المواطنين العراقيين؟ ولماذا يصعب على العراقيين تخطي النَفًس الطائفي؟ وما علاقة كل هذا بما يمكن تسميته “سياسات التريند”، التي تنتهجها الحكومة العراقية؟
وظائف الطائفية: لماذا لم تتحرّك الحكومة لدرء الفتنة؟
من المعروف أن التظاهرات في تاريخ العراق غالبا ما تكون في فصل الصيف، إذا تزداد موجات الغضب بين المواطنين مع ازدياد درجات الحرارة، ليعرف الصيف العراقي على مدى تاريخ البلد عدة انفجارات شعبية، أهمها إعلان الجمهورية العراقية وإنهاء الملكيّة وإبادة العائلة المالكة عام 1958؛ وكذلك موجات التظاهرات، التي بدأت تتصاعد بعد عام 2010، وتتكرّر كل صيف. وليس هناك استثناءات سوى انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر 2019، وبعض التظاهرات المتفرّقة، التي أساسها مطالب خدميّة لفئة معينة. ربما لأن الصيف مرتبط في أذهان العراقيين بتراجع الخدمات العامة، وخصوصا الكهرباء، وهي المشكلة التي ما يزال العراقيون يعانون منها.
ولأن غضب الناس مُتوقّع في هذه الفترة، ولأن الحكومات المتعاقبة لم تترك لهم آلية للتنفيس عن غضبهم، بما في ذلك التظاهرات، كان لزاما عليها تشجيع كل بدائل التعبير عن الغضب، التي تراها “مناسبة”. لذا مع حلول ذكرى مجزرة قاعدة سبايكر، في الثاني عشر من حزيران/يونيو 2014، واشتعال الطائفية مجددا في هذا الوقت من كل عام، كانت القصيدة التي ألقاها علي سمير صبيح، والتي يهين فيها أحد رموز الغربية، ويتهمه بالعمالة، شرارة مناسبة لانطلاق الغضب، وتنفيسه. فالمواطنون السنة يعقدون التجمّعات ويكتبون التغريدات، فيما يشكر المواطنون الشيعة الإله، لأن الحكومة، ورغم الحر وسوء الخدمات، ذات هوية شيعية، وليسوا في موضع الطائفة المستضعفة، التي يمكن إهانة رموزها بسهولة.
الدستور العراقي، والقوانين المستقاة منه، حاسمة فيما يخص إثارة النعرات الطائفية، إذ أن المادة 7 من الدستور منعت أي شكل من أشكال التحريض الطائفي؛ وكذلك تعاقب المادة 200 من قانون العقوبات بالسجن مدة سبعة سنوات، كل من أثار النعرات الطائفية والمذهبية؛ إضافة إلى أن هناك مادة خاصة في قانون مكافحة الإرهاب لعام 2005، هي المادة الرابعة، تعاقب على إثارة الفتنة الطائفية، وتصنّفها فعلا إرهابيا.
ووفق السياق القانوني، والأوصاف التي ألصقتها القصيدة بواحد من رموز المنطقة الغربية، فإن ما فعله علي سمير صبيح يعتبر فتنة طائفية متعمّدة، فهو قد أثار سخط غالبية أبناء الطائفة السنية، ووصل الأمر إلى حد عقد اجتماعات لعدة عشائر من قبيلة زوبع (قبيلة الشيخ ضاري) للاقتصاص منه، ولا ننسى كذلك ردود أفعال بعض النواب السنة، وخاصة عبد الرحيم الشمري. لماذا لم تُؤْخَذ ردود الفعل هذه بعين الاعتبار من قبل الحكومة العراقية؟
يمكن تفسير أسلوب تفاعل الحكومة مع ما جرى بأنه نوع من التأقلم مع النَفس الطائفي، بل والتعامل معه كأنه تريند من التريندات، يمكن تطويعه ليلائم توجهاتها وأفكارها. وبالفعل، لقد جاء تريند الطائفية في موعده، واسْتُخْدِم في السياق الصحيح والمناسب بالنسبة لها. فإثارة الطائفية بهذا الشكل تتضمّن إشغال الشعب العراقي، والتنفيس عن غضبه لمدة وجيزة، حتى لو أدّى ذلك لحرب طائفية على المدى المتوسط، يموت فيها الطرفان.
ولكن لماذا كيف تحوّلت الطائفية إلى تريند؟
اللعب بالنار: كيف صار التاريخ والحيز العام ميدانا للطائفية؟
بعد سقوط نظام صدام حسين، اعتمدت الولايات المتحدة الأمريكية على أسس عرقية ومذهبية، في السياسة التي قامت ببنائها للحكومة العراقية. فالشخصيات التي اُخْتِيرَت، والقرارات التي اتخذتها، رسمت دولة قائمة على فكرة الهوية الواحدة، حتى وإن كانت ظاهريا تؤمن بـ”التعددية الثقافية”، والمشاركة الوطنية في إدارة الحكم.
ساهمت هذه السياسات بوجود كثير من الطائفيين في سدة الحكم، الذين عملوا على أساس ما رأوا أنه مصلحة مذهبهم المسيطر، وثأرا له من سنوات الظلم، التي تعرّض لها الشيعة إبان حكم صدام حسين. لتصبح مظالم ومخاوف المذهب بعد ذلك، الطريقة الأضمن لبقائهم في موقع السلطة، وكلما اشتد غضب الناس على الحكومة، أغرقتهم بأفعال وشعارات طائفية، تعيد مخاوفهم القديمة إلى الواجهة. يساهم بذلك قدرة كثير من الطائفيين على طرح روايتهم الخاصة، بما يملكون من إعلام وأقلام مأجورة، وسيطرة على الفضاء العام؛ وأيضا الأحداث التاريخية التي حصلت بعد عام 2003، وأكثرها تأثيرا بروز تنظيم داعش، والذي يمكن استثماره في تضخيم خطر الطائفة الأخرى، وتحويلها إلى بعبع يسعى لابتلاع الشيعة. على الجانب الآخر يسرد سياسيو السنة في المناطق الغربية رواياتهم، التي تتسم بالتقليل من شأن الشيعة، والتأكيد على عجزهم عن إدارة السلطة.
ولأن الأدوات كلها متوفرة، وتُبقي الحس الطائفي محتدما (سياسيون طائفيين، شيوخ وسادة عشائريون، تاريخ من الحروب، غياب الحوار، إعلام موجّه) فإنه يصعب على العراقيين الخروج من قوقعتهم، إذا لا حيزا عاما يمكن من خلاله إجراء حوار، بدون وُجود إحدى تلك الأدوات، التي تعمل على توجيهه. تبقى الطائفية إذن الحل الأمثل لتوجيه الشارع العراقي وتفريغ غضبه.
وبما أن الحكومة ترى أنها سيطرت على كل الساحات والفضاءات العامة، واحتكرت القوة عبر فصائلها وميليشياتها، فإنها تظن غالبا أنها سيطرت أيضا على الصراعات الطائفية، وجعلتها تريندا يمكن توجيهه بسهولة. وهو نوع من اللعب بالنار، الذي قد يحرق البلد يوما.
دليل التريندات العراقية: كيف تعرف التريند الحقيقي من المفتعل؟
يكن تقسيم التريندات العراقية إلى مُفتعلة، وغير مفتعلة، ومٌستثمرة.
التريندات المفتعلة هي ما ينتشر لقاء مبلغ مالي، أو عبر تحريض شخص لإلقاء تصريح أو نشر فيديو؛ أما غير المفتعلة فهي ما يتفاعل معه الجمهور بشكل عفوي، ولا تشكّل أهمية للحكومة؛ فيما التريندات المُستثمرة هي التي تبرز أيضا بشكل عفوي، ولكن يمكن استثمارها وتوجيهها، وفق مصلحة بعض القوى والشخصيات.
ولتمييز التريند العفوي من المفتعل أو المُستثمر، يمكن القول إن المقياس الأساسي هو عدم تفاعل المعنيين مع ردود الفعل، في النوع الثاني من التريندات. ولو طرحنا قضية قصيدة علي سمير صبيح على هذا المقياس، فإننا لا نجد له أي تصريح أو تفاعل أو رد فعل على ما أثارته قصيدة والده، إذ أن الأساس هنا ليس تجنّب عاصفة الغضب أو الدفاع عن النفس، بل إثارة الجدل بشكل متعمّد، وهو ما أراده صبيح بالأساس كما هو واضح.
لم تكن قضية ارتفاع درجات الحرارة وتدهور الكهرباء والخدمات هي وحدها ما يدفع لتوجيه الأنظار نحو تريند الطائفية، بل هناك أمر آخر، سبق بوقت وجيز إلقاء تلك القصيدة، وهو عودة الحديث عن مجزرة سبايكر، وفشل الحكومة العراقية في محاسبة الجناة، رغم أن المقتولين من أبناء المذهب الشيعي.
على العكس من ذلك، قامت حكومة محمد شياع السوداني، بعد تسلّمها الحكم، بإنهاء عمل فريق “يونيتاد”، وهو الفريق التابع للأمم المتحدة، المُشكّل بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2379 لسنة 2017، لتعزيز جهود المساءلة في جرائم الإبادة الجماعية، المرتكبة من قبل داعش، وذلك لرغبة السلطات العراقية بـ”المضي قدما”، حسب تصريح أحد مستشاري حكومة السوداني.
لذا ومع قرار الحكومة في “المضي قدما”، ورغبتها في إغلاق ملف القتلى والمفقودين، أصبح لزاما عليها قطع الطريق على كل صوت، يحاول العودة إلى الحديث عن تلك المجازر، وتقصير النظام السياسي العراقي، سواء في منعها، أو محاسبة الجناة، أو التعويض عن الضحايا، وكشف مصير المفقودين. يصبح التريند هنا بديلا عن كل فعل أو سياسة جديّة. ولهذا يجب أن نعود لثورة مضى عليها أكثر من مئة عام، لنناقش مَنْ كان قائدها، وأية طائفة كان لها الفضل الأكبر فيها، ونغضب ونتحمّس. إلى أن يمضي التريند، ليبرز بدلا منه آخر، ويا حبذا لو كان “أخلاقيا”، أي متعلقا بالنساء.
بالفعل، تمضي الحكومة قدما في سياساتها، على حساب السلم الاجتماعي وحقوق العراقيين. وحتى إذ أدى كل هذا إلى انفجار طائفي جديد. لا يهم، فهذا النمط من الحكومات تعوّد البقاء والتمدد على تلال من جثث البشر.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.