لطالما أشارت كلمة “ثقافة” إلى مجموع عادات شعب ما، وموسيقاه وفنونه وتقاليده ومعتقداته الخ. وتمت دراسة هذه التفاصيل، على حدة، أو بجمع بعضها مع بعض، من قبل عدّة مجالات علمية، مثل الأنثربولوجيا والسوسيولوجيا.
في عام 1976 نشر عالم الأحياء المعروف ريتشارد دوكنز كتابه المشهور “الجين الأناني”، والذي تصّدر استطلاعا عاما لأكثر الكتب العلمية إلهاما على الإطلاق، بتكليف من الجمعية الملكية البريطانية، بمناسبة مرور ثلاثين عاما على إطلاق جائزة الجمعية لكُتّاب العلوم.
الكتاب يقدّم للقارئ مفهوم “الناسخ” replicator. ولتوضيح فكرة الناسخ بالعموم، يمكن التفكير بفيروسات الكمبيوتر، التي تحوي بحد ذاتها على الكود البرمجي، الذي ينسخها إلى أجهزة جديدة، أي أنها تحوي على معلومات تؤدي لنسخها. ويوضح الكتاب كيف أن الجين، أو المورّثة، هي أيضا مثال على الناسخات. إن كفاءة الجين بالاستمرار والانتتشار تعود لامتلاكه معلومات، تتيح له أن ينسخ نفسه ضمن سياق بيئتته (عبر تشكيل سلوك الكائن الذي يحمل الجين، كأن ينجح الكائن بالتكاثر مثلا، وبالتالي يقوم بنسخ الجين للجيل القادم).
تتباين كفاءة الجينات، وتنويعاتها الناتجة عن الطفرات، مما يؤدي إلى نشوء تنافس فيما بينها. هذا التنافس هو ما قاد في النهاية إلى تطوّر الحياة كما نعرفها اليوم. دوكينز يستخدم مفهوم “الناسخات” لشرح كيف أن الجينات هي وحدات أساسية للاصطفاء الطبيعي، وبالتالي فإن الفهم الأدق والأفضل لعملية التطوّر يكون على مستوى الجين بحد ذاته، لا على مستوى الأفراد أو المجموعات أو الأنواع، إذ أن هذه لا تخضع لعمليات نسخ وتنويع ولآلية اصطفاء.
ما علاقة ذلك بالثقافة؟
في الجزء الأخير من الكتاب، أشار دوكنز لحقيقة أن هنالك معارف تنتقل بين الأفراد عبر وسائط ثقافية لا جينية. لون العيون ينتقل من جيل لآخر جينيّا، بينما إطلاق كلمة “أزرق” على لون ما في لغة ما، هو أمر ينتقل ثقافيّا.
وأطلق الكاتب بشكل عابر مصطلح “ميم” على “الواحدة” الثقافية cultural unit التي تنتقل عبر وسيط غير جيني (أي أن الميم هو الناسخ الثقافي، مقابل الجين، وهو الناسخ البيولوجي). وربما اختار التسمية بشكل عفوي نسبيا، ولعلّه اعتقدَ أن الموضوع سيُنسى.
لكن اتضح أن فكرة “الميم” ناسخة فعّالة بحد ذاتها، إذ سرعان ما أخذت حياتها الخاصة بشكل مستقل عن دوكنز وكتابه. وإضافةً لحقيقة أن الكلمة اليوم مستخدمة من قبل أغلبية مستخدمي الانترنت حول العالم، للإشارة لصورة، ذات طابع كوميدي في الغالب، تنتشر بسرعة على مواقع الويب أو وسائط التواصل (وهو معنى دقيق، لا يحيد عن المعنى العلمي اﻷصلي، ولكنه حالة خاصة منه)، قام عديد من المفكرين بالعمل على تطوير مفهوم “الميمات”، والبناء عليها، مثل الفيلسوف دانييل دينيت، والكاتبة سوزان بلاكمور في كتابها “آلة الميمات”، والفيزيائي ديفيد دويتش في كتابه “بداية اللانهاية”.
إذن الميم هو أي فكرة ناسخة، بمعنى أيّة فكرة تتضمن بشكل أو بآخر ما يجعلها تنسخ أو تنشر نفسها (من خلال سلوكيات حامليها). لذلك عندما تُعجب بهذا المقال مثلا، وتنشره مع أصدقائك، فهذا يعني أنه احتوى على ميمات ساهمت بنشر ذاتها من خلالك. وربما احتوى على أفكار لا تهمك، لكنها أيضا نجحت بالانتشار من خلالنا أنا وأنت، كونها ربطت نفسها بالأفكار التي تهمنا أو تضحكنا أو تغضبنا، الخ، لدرجة كافية أدت لسلوك معيّن لدينا، يقود لنشرها.
البعض يطلق على تجميعة “الميمات”، التي عادةً ما تجتمع وتعزز بعضها بعضا بشكلٍ ما، مثل اللغة أو الدين، مصطلح “مجمّع الميمات” memeplex. لكن كون ما ينطبق على “الميم” ينطبق على “مجمّع الميمات”، فإننا سنستخدم كلمة “ميم”، فيما تبقّى من هذا المقال، لتشير لكلي المفهومين.
مفهوم “الميم” يبدو ثريّا للغاية، فهل يمكننا استخدامه لمناقشة مسألة فلسفية واجتماعية معقّدة مثل التنوير؟ وهل وهل يساعدنا على تحليل الصراعات الحالية في مجتمعاتنا؟
المقدّس والنقدي: كيف تصبح الميمات محاربة للعقلانية؟
ما قام به ديفيد دويتش هو طرح معيار جديد، يمكننا على أساسه تصنيف نوعين من الميمات، يتيحان لنا فهم ما يميز الثقافات البشرية عن بعضها البعض، في الحاضر والمستقبل، وما الذي يجعل ثقافة ما تتطور أو تبقى في مكانها، أو تستمر، أو تنقرض مع الزمن.
فلنأخذ أولا فكرة مفادها أن كل ما تطرحه المؤسسة الفلانية من معلومات دقيق وصحيح، أو كل ما يقوله الوالدان للأطفال سليم. وأنها فكرة مقدسة لا ريب وفيها، وأن الشك بها يؤدي حرفيّا لعذاب أبدي لا نهائي، أو أن عقوبة معارضتتها هي السجن للأبد.
واﻵن فلننظر لهذه الفكرة من منظور/مستوى الميمات. كما هو واضح، نحن هنا أمام فكرة تسعى للانتشار عن طريق تثبيط المقدرات النقدية التي يمتلكها الإنسان. وكلما نجحت أكثر بتعطيل هذه المقدرات في أذهان الناس، كلما كانت فرص نجاتها وانتشارها أكبر. والعكس بالعكس، كلما فشلت بذلك كلما قاربت الانقراض.
الآن تخيّل نمطا آخر من الأفكار، مثل فكرة أن الضوء أسرع من الصوت.
كلّما حاولتَ انتقادها بدقّة وحدة أكبر، وسعيت جاهدا كي تثبتت خطأها، من خلال تعريضها لحد سيف التجربة العلمية، كلّما رسخت بذهنك واقتنعت بصحتها وحقيقتها أكثر. وبالتالي ساهمت بتشكيل سلوكك أكثر فيما يخصّها. في حال مثلا شاهدت انفجارا بعيدا، سوف تغلق أذنيك لمعرفتتك أن صوته المرتفع سوف يصل متأخرا عن صورته. وقد تخبر من حولك بذلك، فيحاكون سلوكك. وها هو الميم، الذي صمد أمام محاولات انتقاداتك واختباراتك الكثيرة، ينتقل للآخرين من خلالك!
وهكذا نرى كيف أن فرص نجاة هذه الفكرة ونجاحها بالانتشار، يعتمد على تفعيل المقدرات النقدية لحامليها.
الأفكار التي تحقق هذا الشرط، هي ما يطلق عليه العالم ديفيد دويتش “الميمات العقلانية” rational memes، خلافا لـ”الميمات ضدّ-العقلانية” anti-rational memes التي تعمل بشكل مضاد تماما لمقدرات البشر النقدية. (لذلك التسمية فيها كلمة “ضد” anti، ومن غير الدقيق تسميتها “ميمات غير عقلانية” irrational memes).
طبعا، من الممكن لنا نظريّا تخيّل أن فكرة علمية، مثل التي تم ذكرها في هذا المثال، هي الأخرى تصدر عن أشخاص أو مؤسسات، تدّعي امتلاك سلطة معرفية مطلقة، أو أن هذه الفكرة وصلت لذهن طفل باستخدام القسر (بل إن هذا يحدث في التعليم الإلزامي حول العالم بشكل مستمر، وهذا موضوع يُترك لمقالة أخرى). في هذه الحالات هي أيضا تنتتشر من خلال سبل ضد عقلانية. لكن، كما سنرى عاجلا، فكرة كهذه لا تجد أفضل فرص انتشارها في بيئات تتعامل بهذا الشكل.
وكما أن العقل مساحة للأفكار كي تتصارع، كذلك الثقافة، على مجال أوسع. واﻵن أصبح بإمكاننا القول إن الثقافة هي مجموعة أفكار تؤدي ﻷن يتصرف حاملوها بأشكال متقاربة بشكل ما.
ميمان وثقافتان: لماذا كرهت بعض المجتمعات التغيير؟
بناءً على كل ما ذكر، نميز حالتين مثاليتين للثقافات أو المجتمعات، أحدها يُسمى الثقافات الديناميكية (النشيطة)، والآخر الثقافات الستاتيكية (الراكدة). ونقول “مثاليتين”، لأن المجتمعات في الحقيقة ستقع على نقطة ما بينهما.
المجتمع الستاتيكي بالطبع هو مجتمع تسوده الميمات ضد العقلانية. وهو ليس مجتمعا جامدا بالمعنى الحرفي بالضرورة، لكنه بطيء التغيّر، لدرجة أنه صعب الملاحظة من قبل أفراد جيل واحد. وهذا ما شهدته البشرية في معظم تاريخها.
نعم، قد يحصل تغيّر مفاجئ، مثل تغيّر الامبراطورية التي تنمي لها المنطقة. لكن في تلك الثقافات، كان تغيير من هذا النوع نادر الحدوث. إذ أن التغيير خلال ذلك التاريخ الطويل، لم يكن قائما على بناء معارف جديدة، كما نعهده اليوم، لذا فقد كان اعتباطيّا عشوائيّا، وبالتالي، إحصائيّا، هو في الغالب كان أمرا مكروها. ومن غير العجيب ارتباط مفهوم التغيير لدى الناس في تلك المجتمعات، بحدوث أمر سيئ ومكروه، دمّر استقرار الوضع الراهن، مثل الكوارث طبيعية، أو غزوات من قبيلة مجهولة. ما دعا أهل الثقافات تلك لترسيخ تقاليد تحارب التغيير بحد ذاته، ولدرجات تعصّب أكبر، وتمسّك أشدّ تعنّتا بالموروث، معتقدين أنه أفضل وسيلة للنجاة، وتقليل احتمال مخاطر التغيير.
التغيرات العشوائية كريهة بالعموم، فما بالك بثقافات لم تكن بعد قد فهمت أسباب الكوارث الطبيعية؛ ولم تحقق بعد معارف أخلاقية أو دبلوماسية أو اقتصادية، قادرة على بناء علاقات وديّة مع قبائل أوأمم أخرى، الخ.
وكلما كان الدرس الذي تعلّمه أهل ثقافةٍ ما أقرب لميم “التغيير أمر سيئ ومكروه”، كلما ارتفعت درجة التمسّك المتعنّت والشديد بالتقاليد والموروثات. وكأن هذه الأفكار الموروثة تدافع عن استمرارها وبقائها ضد أي إبداع أو تجديد، بشكل أناني تماما، بالضبط كما وصف دوكنز الجينات في عنوان كتابه المذكور، حتى على حساب مصلحة الأفراد الذين يحملونها. بل حتى على حساب حياتهم بشكل حرفيّ ومباشر أحيانا، عندما يفنون أعمارهم أو يموتون في سبيل فكرة.
ولكن حتى لو كان التغيير، وبمحض الصدفة، تغيّرا إيجابيّا ومرغوبا، فإن ندرته هذه ستجعله قطعة ثمينةً مقدسةً، تحتاج الحماية بأي ثمن. إذ يُفَضَّل ممّن تعلّم إشعال النار ألا يختبر تفاعلها مع المواد الأخرى كثيرا، لأن ذلك قد يطفئها، أو يحرقه. ما يقود أيضا لعقلية ترسيخ السائد، وعدم المخاطرة بأي انفتاح، قد يؤدي لخسارته، ووأد أي فكرة إبداعية، قد تبدو كأنها تمهّد لتوليد آلية تجديد في مجتمع ما (مثل عادات تشجّع التجريب، أو قوانين تحفظ حرية التعبير بشكل حقيقي).
كلتا الحالتين إذن تؤديان لتعصّب أكبر، وهكذا فإن انغلاق وتعصّب وركود االثقافة الستاتيكية يغذي نفسه بنفسه. وبالطبع، كلما زاد انغلاق ثقافة، كلما زاد احتمال أن هذا بحد ذاته سيقضي على أهل تلك الثقافة في نهاية المطاف. باعتبار أن الركود، أو عدم توفير مساحة وآلية بناء معرفة، هو أفضل وصفة لضمان انعدام القدرة على مواجهة المخاطر، التي لم تُواجه مسبقا، مثل قحط، أو وباء، أو سفينة غريبة على الشاطئ، أو هطول ثلوج لأول مرة، أو نيزك.
لكن لحسن الحظ، البشر كائنات إبداعية عقلانية نقدية، وحلقة الانغلاق ذاتية التغذية هذه قابلة للكسر، رغم صعوبة الأمر وندرته نسبيّا، إذا ما نظرنا للبشرية جمعاء بماضيها وحاضرها. والاقتراب من حالة الثقافات الديناميكية ليس أمرا حالما فحسب. ومن الممكن زرع “فيروس غير خبيث” في بيئة الميمات ضد العقلانية هذه.
“الفيروس” الحميد: هل يمكن لأيّ تقليد أن يقود للتنوير؟
الثقافة الديناميكية “النشيطة” أو “المتحركة”، هي تلك التي تسودها الميمات العقلانية، وهي ساحة مفتوحة تماما للأفكار لكي تواجه بعضها بعضا. ما يعني طبعا أن معظمها سيسقط في حلبة الصراع هذه، كون معظم الأفكار والتخمينات بالضرورة سيئة بشكل أو بآخر، وتعرّضها لنقد (على شكل حجة أو اختبار عملي، الخ) كافٍ لإسقاطها، عاجلا أم آجلا.
لكن التساقط السريع للأفكار السيئة، يعني آلية أسرع لخلق معارف جديدة أفضل. ويعني أن السماء ستلمع بأفضل الأفكار، تلك التي نجت لحد الآن من كل الانتقادات التي وجّهت لها. والتفضيل هنا بين ما هو سيئ وجيد، يعود لسياق كل فكرة. في بيئة “الستاند آب كوميدي” مثلا قد يكون الأفضل هو الأكثر إضحاكا؛ بينما في الفنون، الأفضل هو الأجمل؛ وفي العلم، الأفضل هو الأصحّ، الخ.
إذن، كلما كانت الثقافة ديناميكية أكثر، كلما وجدنا أن لا فكرة فيها تعلو فوق النقد، وبالتالي، كلما قامت ببناء المعارف بشكل أسرع بشتى المجالات المعرفية، وكلما نشطت فيها الحركات الفكرية والحقوقية، والإبداعات الفنية والعلمية.
هل تقارب مستويات حرية التعبير والمعتقدات الدينية والصحافة وحقوق الأقليات والبحث العلمي، ضمن بيئة الدولة الواحدة، مجرّد صدفة؟
وبشكل مثير للسخرية لحدّ ما، رغم أن الثقافات الستاتيكية الراكدة مكبّلة بتقاليدها، فإن تنصيب وترسيخ تقليد النقد في ثقافة ما، هو ما يكسر الركود، ويحطّم قيود كل التقاليد الأخرى، ويضمن التجديد. إن استمرار هذا التقليد شرط أساسي في استمرار ديناميكية الثقافة.
وهكذا، فإن المجتمعات الديناميكية النشيطة هي التي نصّبت تقاليد النقد، التي تضمن بالضرورة حرية التعبير، ما يعني توفّر آلية تصحيح الأخطاء بشكل مستمرّ، وبداية سيرورة توليد معارف جديدة لا نهائية.
وهذا هو التنوير.
هل تعيش في مجتمع أقرب لأن يكون ثقافة ديناميكية نشيطة أم ستايتيكية راكدة؟ لو كان الأمر لك، أيهما تفضل؟
مصادر
-أصل كلمة ومفهوم الميم والناسخ: كتاب الجين الأناني لريتشارد دوكنز
-فوز الكتاب بجائزة الجمعية الملكية: https://royalsociety.org/news/2017/07/science-book-prize-poll-results/
-الميمات العقلانية وضد العقلانية والثقافات الستاتيكية والديناميكية: كتاب “بداية اللانهاية”، لديفيد دويتش
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
في الشكل: مادة متماسكة ومشوقة،في المضمون، الاحظ شبه كبير بين “الفايروس الحميد” وبين الوحي… وكأن الهدف من كل هذه المواضيع استبعاد العلاقة بين ثقافة مجتمع ما وحاجاته وعلاقات الاقتصادية.. او بشكل ادق، استبعاد العامل الاقتصادي تماما كمؤثر في ثقافة المجتمع.. وهذا لا يصح تاريخيا.
او لا يستقيم تاريخيا*