بدأت سينما “زاوية” المصرية، عرض فيلم back to alexandria -وحشتيني، وهو الفيلم الروائي الطويل الأول، للمخرج المصري السويسري تامر روجلي، وبطولة المخرجة والممثلة اللبنانية نادين لبكي.
يحاول روجلي رواية قصة والدته وجدته، من منظوره الخاص، ودمج علاقته بهما، التي تشبّع بها في كل تفاصيل حياته، مع شوقه وحنينه إلى مصر، فرأينا بالمحصلة فيلما كاملا حول هذا الموضوع.
الأفلام المستمدة من الذاكرة، أو العلاقات العائلية والإنسانية، أو التجربة الذاتية، كثيرة جدا بالطبع في تاريخ السينما. إلا انه يبدو في الآونة الأخيرة أن الإغراق في “المنظور الذاتي” قد بات سلبيا على الفن نفسه، لدرجة أننا، بوصفنا مشاهدين، لم نعد قادرين على التواصل مع تجربة صانع العمل.
الخليط الذي قدّمه روجلي (الوطن والأم والمرأة والحنين) قد يبدو جيدا، ويمكن أن يبني منتجا سينمائيا دراميا جيدا، إلا أنه سلاح ذو حدين أيضا، فطغى فيه الجانب السلبي، وتشتت فكرته بين مجموعة من المشاهد غير المُبررة، والتي يمكن حذف كثير منها. فما الذي يجعل أفلاما كهذه لا تتماس مع تجارب المشاهدين المتعددين، رغم أنهم قد يكونون عاشوا تجارب قريبة من تجارب صانع العمل، أو عرفوا مشاعر قريبة من مشاعره؟ وأين تكمن المشكلة بالضبط؟
الهرم والإسكندرية: ما علاقة العنوان بالأحداث؟
يُعدّ الأفيش (الملصق الدعائي) الخاص بالأفلام، جزءا لا يتجزأ من العمل الفني ككل، فهو وسيلة بصرية أوليّة، يتعرّف المشاهد على الفيلم من خلالها. ويمكن أيضا اعتبار اسم الفيلم، الموضوع على الأفيش، العتبة الأولية له، التي يراها المتفرّج، أثناء مروره على السينما، أو في الإعلانات التي تبرز له في وسائل الإعلام ومواقع التواصل. وفي حالة فيلم تامر روجلي فهناك تناقض كبير بين الاسم والأفيش. اسم الفيلم: “العودة إلى الإسكندرية”، والمكوّن البصري الأساسي في الأفيش هو الهرم، الواقع في محافظة الجيزة المصرية، وتستحوذ الصحراء على ثلث التصميم. وهذا التناقض يعكس، بشكل ما، جزءا بسيطا من التناقضات الداخلية في دراما الفيلم.
تنقسم الأماكن في الفيلم إلى ثلاثة: سويسرا والقاهرة والإسكندرية، وبينما تسيطر القاهرة على الجانب الأكبر من الأحداث، إلا أن ذاكرة بطلة الفيلم تتأرجح بين حاضرها، بوصفها طبيبة نفسية مهاجرة في سويسرا؛ وماضيها في الإسكندرية، عندما أفسدت والدتها قصة حبها الوحيدة مع شاب، من طبقة أقل منها اجتماعية.
والأفيش لا يتناقض مع ما يقدّمه الفيلم، إذ تدور الأحداث بالفعل في “القاهرة الكبرى”، بمعالمها وشوارعها وزحامها: الكباري ومصر الجديدة ومدينة نصر ووسط البلد والزمالك ومنطقة الأهرامات، وطريق القاهرة الصحراوي في اتجاه الإسكندرية، بينما اقتصر حضور الإسكندرية على لحظات مقتضبة أمام شاطئ البحر. لماذا إذاً لم يسمّ الفيلم العودة إلى القاهرة؟
ربما تكون “الإسكندرية” في العنوان، رمزا للنوستالجيا التي لا يمكن الإمساك بها، إلا أن هذا غير واضح في مجريات أحداث الفيلم، أو في لغته البصرية وبنيته الرمزية، وكأن منتج العمل يفترض أننا نستطيع أن نفهم ما يعتلج في نفسه من مشاعر، بدون حتى أن يقدّم “لغة” للتعبير عنها. على الأقل كي يخبرنا ما الذي تعنيه الإسكندرية حقا في تجربته الخاصة، ولماذا كانت أقوى من أحداث الفيلم، وصورة الأفيش.
الماضي و”تفكيكه”: هل نشاهد أحد أفلام الأبيض والأسود؟
أما عن القصة نفسها فهي غالبا تشبه أفلام الأبيض والأسود، التي كنا نشاهدها صدفة في التلفاز: فتاة تُحرم من حبيبها بسبب الفارق الاجتماعي، لأن والده حارس عقار “بوّاب” يعمل لدى أهلها. وهذه القصص عن الحب والفوارق الاجتماعية، بين الطبقة الارستقراطية وأبناء الطبقات العاملة، قد انتهى تقديمها على الشاشة منذ عقود. لا يمنع هذا من استعادتها في حاضرنا بمنظور جديد طبعا، ولكننا لا نلحظ مثل ذلك المنظور في الفيلم، وكأن روجلي قد توقّفت معرفته بمصر عند ما قَصته عليه والدته، وعلاقتها بجدته، وهي العلاقة التي رأى أنها كافية لأن يستلهم منها فيلما، وعلينا نحن أن نشاهد.
وبعيدا عن “الكليشيه” في قصة الفيلم، فإن المعالجة السينمائية للفكرة، والتي اتسمت بكثير من النوستالجيا، والقليل من الرسم الجيد لسيناريو الأحداث والشخصيات، هي المعضلة الأكبر، فالنوستالجيا فقط لا تبنى دراما، أو معالجة سينمائية متميزة، بل قد لا ترينا إلا مشاهد مختلطة، لا نفهم فعلا لماذا رُصفت جوار بعضها البعض بهذا الشكل.
كما ذُكر، تنقسم رحلة بطلة الفيلم بين القاهرة والإسكندرية، وعلى مدار سلسلة من المشاهد، التي حازت القاهرة على الجانب الأكبر منها، تدور الأحداث حول صراع الابنة مع الماضي، وعلاقتها المعقدة بوالدتها، وتظهر الأم ككابوس، وأحيانا كحلم، وأحيانا أخرى يختلط الواقع بالخيال، وكأنه حقيقة، أو ظل للبطلة، يتحرك معها، ويوبّخها أحيانا، ويوجهها أحيانا أخرى، ويمدحها قليلا، وهذا الحوار الخيالي بين الأم والبنت يفكك الماضي، في محاولة للوصول إلى التجاوز والتسامح، وفهم دوافع الأم في تصرفها. ولكن هل نجح ذلك التفكيك؟
الفيلم عبارة عن مجموعة من التناقضات: توظيف للنوستالجيا بكثافة، في مقابل لغة غير متطابقة مع تلك النوستالجيا، فكل الحوارات بين الأم والبنت تدور بالفرنسية؛ أحداث مختلطة لا يمكن فهم مبرراتها؛ علاقات بين الشخصيات لا يمكن فهم دوافعها. كل حدث درامي في الفيلم يترك خلفه سؤالا ليس له إجابة، نتيجة لمجموعة من التناقضات اللانهائية.
يبدو أن الطريقة الوحيدة لكي نتذوّق هذا الفيلم هي أن نكون متعاطفين سلفا مع صانعه، ومستعدين للتفاعل مع أي شيء يعرضه بدون شروط.
ما “الاكتشافات” التي حققناها في الفيلم؟
يقول الناقد المصري علي أبو شادي، في كتابه “سحر السينما”: “إن البناء الدرامي هو أسلوب وطريقة توصيل جزء من الحياة، ضمن مقطع صغير من الزمن، تنعكس فيه وجهة نظر ما، وبذلك فإن وظائف البناء الدرامي تتركز في تزويد المتلقي بالمعرفة، وكلما كثرت المعرفة التي تصل إليه، كان العمل أكثر قيمة، وكلما كثرت اكتشافاته التي يحققها، سواء عن النفس البشرية أو المجتمع أو العلاقات، كان العمل الفني أكثر قيمة“.
إذا أُسقط هذا المفهوم على الفيلم محل النقاش، سوف نجد أنه اكتفى بتقديم معلومات ضئيلة للغاية حول الشخصيات، ومنذ الثلث الأول في الفيلم تقريبا، تُعاد كافة المعلومات وتتكرر عبر النقاشات المختلفة، والتي تدور بين البطلة “سو” وخالتها، ثم خادم خالتها، ثم خادمة والدتها. وبالطبع، وبين كل هذه المنظورات الذاتية، لن نكتشف شيئا عن النفس البشرية أو المجتمع أو العلاقات.
وفقا لأبو شادي كذلك فإن “الشخصيات هي أيضا وسيلة لتطور الحدث الدرامي، وتحويله إلى حركة وفعل، والشخصية الدرامية المتكاملة ينبغي أن تُقدّم إنسانا متعدد الأبعاد، وتسهم مساهمة فعالة فيما يدور حولها من أحداث، وتشارك مشاركة إيجابية في دائرة الصراع“. كل هذا لم يتحقق في الفيلم. بعض الشخصيات كانت غير فاعلة مطلقا، بل حديثها مقحم، مثل سائق التاكسي (الممثل حازم إيهاب) والذي إذا تم تبرير وجوده في بداية الفيلم، باعتباره إظهارا لطريقة تعامل سو مع الأشخاص الأقل منها طبقيا، فإن ظهوره مرة أخرى في نهاية الفيلم ليس له أي مبرر درامي؛ وكذلك شخصية الشاب، الذي تلتقي به سو في البار بالإسكندرية (الممثل هاني عادل) ولا يوجد أي سبب للمقابلة، ولم يبن عليها أي تطور للأحداث. لأن الفيلم في الأساس يمنحك شعورا بأنه كان يجب أن ينتهي عند وفاة الأم، ورقص سو على الأغنية الفرنسية المفضلة لهما. وكل ما تلى ذلك مجموعة من المشاهد، التي لا تعني شيئا بالنسبة للحدث الدرامي، لأن الأم قد رحلت من كلا العالمين: الخيالي في ذهن سو، والواقعي بوفاتها.
كذلك لم تكن اللغة السينمائية للفيلم متناسبة مع شريط الصوت، ويمكن ذكر مثال واحد في هذا السياق، وهو الأغاني المصرية المستخدمة مع الأحداث، مثل “بحلم معاك” لنجاة، و”حرّمت أحبك” لوردة، والتي لا يمكننا فهم سبب اختيارها، سواء فيما يتعلق بالزمن الذي تدور فيه الأحداث، أو الوضع النفسي للشخصيات. ويمكن اعتبار أغنية عبد الحليم حافظ “أهواك”، الأفضل توظيفا وتعبيرا عن حالة البطلة.
كل هذا التناقض لم يساهم في دعم فكرة الفيلم الأساسية، المتمثلة في سؤال: هل يمكن الهروب من الطريقة التي نشأنا بها؟ وهو سؤال يتقاطع مع فيلم Beau is Afraid للمخرج آري أستر، ولعب فيه النجم خواكين فينيكس دور رجل غير قادر على تجاوز تفاعلاته الأكثر إيلاما منذ الطفولة، بسبب والدته المتغطرسة. ومن الأفلام الأخرى التي تركت بصمتها على الفيلم “حدوتة مصرية” للمخرج يوسف شاهين، خاصة في مشاهد سو مع الطفل والأم، لكن هذه التقاطعات لم تساهم في حل مشاكل الفيلم على مستوى السيناريو.
ما فهمناه فقط أنه فيلم لتامر روجلي، ويحكي عن تجربته.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.