“محتوى” الكتب: هل غيّر “تيك توك” مفاهيمنا عن القراءة؟

باختلاف الوسائط والمنصات في العالم الافتراضي، تُعاد صياغة طرق التعبير بما يتناسب مع “روح” وشكل ما تقدمه الوسائط المستضيفة للمحتوى، ولطالما كانت صورة القراءة جذّابة ومُمَيّزة، باختلاف مكان طرحها، لارتباطها، بوصفها فعلا، بشكل نخبوي من ممارسة المعرفة. ومع ازدياد أهمية تطبيق “تيك توك” صار لـ”القراءة” فيه نصيب مهم، فهو ليس مجرد منصة لرقص المراهقين، كما قد يظن كثيرون من الأجيال الأقدم.
أصبح من الدارج أن نجد أرففا في المكتبات الغربية، تحت تصنيف BookTok، كما نجد تصنيفا للأدب الكلاسيكي أو أدب الرعب مثلا. وحاليا يحتوي هاشتاغ booktok# على تيك توك، أكثر من 33 مليون منشور، وما يتخطى مليارات المشاهدات، ليشكل أكبر نادي قراءة افتراضي على الإنترنت، فكيف لنا أن نقرأ هذه الظاهرة؟ وما أثر هذا الوسيط وذلك الانتشار على ممارسة القراءة في عصرنا الحالي؟
منذ ظهور المنتديات وغرف الدردشة، وحتى ظهور اليوتيوب ومن بعده الانستغرام، لم تخل مساحات الانترنت من استضافة مستخدميها، وتجميعهم بناء على اهتمامات مشتركة، ولكن مع ظهور تيك توك، وخصوصا في أسابيع وشهور الحجر الصحي، أثناء جائحة كورنا، وفّر التطبيق لمستخدميه معادلة مثالية: تطبيق ثقافي وترفيهي في الوقت ذاته، باستخدام الصوت والصورة. كانت الفيديوهات القصيرة وسيلة مثالية لملئ فراغ شاسع، بأكبر عدد ممكن من المحتوى.
فيما يتعلّق بالقراءة، باعتبارها هوايةٍ، لطالما جعلتها مكانتها التاريخية، بوصفها وسيلة معرفة وتميّز، أقرب لهويّة،فإن مساحات الإنترنت عرفت دائما نوادي قراءة، سواء بشكل فردي أو مؤسسي. ثم ظهر تيك توك، الذي يحتوي على عشرات ملايين الفيديوهات حول القراءة، تحت هاشتاج BookTok#. دون حتى ذكر التصنيفات الفرعية منه، فمثلا هناك smutTok# وهو الهاشتاغ الذي يحوي فيديوهات تتحدث عن الكتب التي تحوي أحداثا ومواقف جنسية؛ وBlackTok# المخصص للأدب الذي يناقش قصصا تتعلّق بالسود، وكثير من التصنيفات الأخرى، بعضها أكثر شهرة من غيرها.
يرى كثير من النقّاد أن هناك مشكلة أساسية في محتوى القراءة على تيك توك، وبدرجات مختلفة على الإنترنت، وهي أنه يحوّل عملية القراءة إلى صورة تقع تحت النظرة المتفحّصة والمنجذبة، فالانشغال ينصبّ على صورة القارئ، بدلا من القراءة ذاتها. ونظرا لقصر مدة الفيديو المتاحة، والتصميم الطولي للتطبيق، والذي يُسهّل عملية التمرير من محتوى إلى آخر، يهتم صُنّاع المحتوى بجماليات، لا تُعبّر بالضرورة عن المحتوى المراد استعراضه.
ملايين الفيديوهات تتشابه في أنماطها، كلها تستقصد إبراز جماليات أن تكون قارئا، مع عرض تنسيق معين لأرفف الكتب، وفلوغات قصيرة ومُسرّعة عن جلسة قراءة، أو رحلة تسّوق في مكتبة؛ واستعراض لمٌشتريات كتب، لا يمكن قراءتها في عام كامل؛ ولعلامات لاصقة متنوّعة الألوان على الكتب؛ وتحضيرات لجلسة القراءة المثالية؛ جماليات الأغلفة؛ الخ. كلها عناصر ممتعة ومحبّبة للدخول في عالم الكتب، ولكنها تشوّش على عملية القراءة نفسها، إذ تجعل من الصورة سلعةً جاذبة للاهتمام، والكتب ذاتها سلعة للاقتناء.
تقول الكاتبة والمدوّنة الأميركية ستيفاني دانلر، عن تجربتها في دخول عالم التيك توك، بوصفها صانعة محتوى: “إنه اداء لا يستهدف النظرة العامة. لا أرى لنفسي مكانا بوصفي بوكتوكر. لا أعرف كيف أحاول القراءة بجدية، ومحاكاة نفسي وأنا أقرأ“.
إن التركيز على التفاصيل المراد استعراضها، في جلسة القراءة المصوّرة، والمصممة للنشر، تجعلنا نتساءل عن انغماس القرّاء في عملية القراءة نفسها، وهل هناك مساحة في تركيز صانع المحتوى لاستيعاب ما بين يديه بالفعل؟
ما يثير حفيظة منتقدي مساحةٍ كهذه للقراءة، هو أن الكتب المرشحة ثابتة. لا يمكنك أن تفتح تيك توك لتبحث عن “محتوى” أدبي، بدون أن تجد ذكرا للكاتبة الأميركية كولين هوفر، ورواياتها “البيست سيلر”. كانت تلك الكاتبة من أوائل من انتشروا على المنصة، عبر كتابة روايات مبنية على إعادة سرد قصص ميثولوجية، أو ما يعرف بتصنيف greek retelling، ليجد هذا التصنيف جمهورا يبحث عن هذا النوع بالتحديد، باختلاف كُتّابه.
يحدث تنميط متعمّد للكتب، ففي تيك توك لن يقتصر ترشيح الروايات بالتحديد على تصنيفها الأساسي، مثل أدب رعب أو الخيال العلمي أو الرومانسية، بل يخلق نمطا محددا، تُعرّف به الرواية، مثل راويات “من أعداء لعُشّاق”، أو “فتاة حزينة”، أو “أحبّاء الطفولة”، وفي هذا التنميط، المعتمد على كشف حبكة أساسية، تكمن مشكلة أخرى. ففي حين أن تقييم هذه الظاهرة، قد يؤخذ من ناحية الحكم على الذائقة (وفي بعض الأحيان يفعل عدد من الناس ذلك) إلا أنه في الواقع ينبّه إلى تسطيح محتوى الكتب في زاوية محدودة. وسواء كُتب الكتاب ليلقى رواجا على تيك توك، أو أعيد اكتشافه، كما في روايات الكاتبة الأميركية مادلين ميلر، فهذا التجاهل لكل شيء عدا الحبكة، يجعل من الكتاب سلعةً واعدة بقدر من الترفيه، دون أي رغبة من قبل القارئ، أو نية من قبل الكُتّاب والناشرين، بإنتاج ما هو أعمق وأوسع من القيمة الترفيهية للكتاب.
حدث الأمر نفسه سابقا مع الأغاني، إذ عرفت ظاهرة التيكتوكفكيشن TikTokification، أي حين تنتج أعمال بنيّة واضحة للرواج على المنصة. لذلك تم الاقتصار على إنتاج أغانٍ قابلة للتكرار والرقص طوال الوقت. في الكتب تتجه بعض أنواع الكتابة إلى أن تكون سهلة الهضم وقابلة للتكرار، دون أن تتعدد أبعادها. تتحول الكتب إلى مصنفات، أو tropes (أنماط وتيمات مكررة)، مُعرّفة بالحبكة، وما يأتي بين دفتي الكتاب متوقّع بنسبة كبيرة، مع بعض التغيرات، جلّ ما يظهر على المنصة يشبه ما سبق أن انتشر عليها، سريع الفهم، سريع الهضم، ويمكن تلخيص محتواه في كلمات سريعة. والأنماط أصبحت تُستخدم من دور النشر ذاتها للترويج.
توضح الكاتبة كاثرين لي: “لا يحتاج كل الأدب إلى استكشاف موضوعات مجتمعية ثقيلة. الأدب الذي يسعى للترفيه صالح تماما مثل الأدب الذي يقوم بتشريح الحالة الإنسانية. لكن الجزء الأكبر من الأدب يجب أن يظل ثلاثي الأبعاد، سواء من جانب المؤلف، أو من جانب القارئ. إن تبسيط كتاب في مجاز واحد، لا يضرّ بالكتاب فحسب، بل أيضا بصناعة الكتاب ككل. إنه يرسل رسالة إشكالية إلى المؤلفين والناشرين، مفادها أن الكتب الوحيدة التي تحقق الربح، أو تستحق الربح، هي تلك التي تلبّي نموذجا معينا“.
النقد لا ينصبّ بالضرورة على الذائقة إذن، باعتباره حراسة نخبوية للذوق العام، ولكن ينصبّ على “المحتوى”، والذي تم “صنعه” ليستهلك بشكل معلّب، أو حتى تعليبه للترويج بشكل معين، بمعنى أن الكتب المجمعة في المكتبات، تحت هاشتاغ booktok# لا يجب أن تعبّر بالضرورة عن ذائقة واحدة، كما لا يعبّر رف الكلاسيكيات عن كتب متشابهة. واختزال الأدب إلى جانب واحد (trope) يشير إلى مستقبل تتحول فيه الكتب إلى وسيلة ترفيه سهلة الهضم، بدلا من استكشاف وتفكير في ما هو أوسع. وفي حين أن التسويق بهذا الشكل ليس سيئا بطبيعته، فهو يسمح للقرّاء باستكشاف مجموعة متنوّعة من الأدب، مع ترسيخ أذواقهم في شيء مألوف، إلا أنه يشجّع على تبسيط الأدب، بشكل مفرط ومثير للقلق.
يسمح تسطيح فكرة القراءة على تيك توك، بمرور إشكاليات في محتوى الأدب، وترسيخ نظرة أحادية، لا تسمح بمناقشة الأعمال خارج ما تجعلنا “نشعر به”، فنجد أن الفيديوهات تتحدث عن “كيف جعلني أشعر هذا الكتاب”، و”كيف ستشعر وأنت تقرأ هذا الكتاب”، وبالتالي تتم عملية الاقتراح بناء على تلك المشاعر. وفي جوهرها، تحاول فيديوهات التيك توك أن تبيع الكتب عن طريق شيء أساسي، وهو انطباعات المؤثرين.
وما يغيب عن مشهد القراءة في تيك توك، هو وجود نقد حقيقي لما يحمله العمل في طياته من معانٍ أو عناصر، إذ تعتمد آلية الترشيح كما ذكرنا على أفراد قُرّاء، يشاركون التجربة بناءً على مشاعرهم، ويتردى هذا المشهد أكثر وأكثر، مع وجود “قواعد الإعجاب” fandoms لكُتّاب بعينهم، التي تتداخل فيها الأهواء الشخصية في استقبال العمل، مع تحرّكات مناهضة للفكر، وكارهة للأوساط الأكاديمية، كما في ما يعرف بحركة Anti-intellectualism.
على سبيل المثال انتشر ميم على تيك توك، بتنويعات متعددة، عن مُدرّس أدب، يحلّل عنصرا من عناصر رواية، ترمز فيه زرقة ستارة ما إلى اكتئاب وحزن يحيط ببطل القصة، ليجيب عليه الطلبة بأنه ربما الستائر زرقاء، ولا أكثر من هذا.
تقول الكاتبة ماديسون هوزينجا: “أعتقد أن بوكتوك دراسة حالة مفيدة، إذ يعرض كيف ستجد الشركات أي طريقة للاستفادة مما يحبّه الناس عبر الإنترنت. إن مرحلتنا الحالية من الرأسمالية تزدهر من تعبئة عواطف الناس ومصالحهم، وبيعها لهم مرة أخرى في حزمة رخيصة ومعقمة. يؤدي هذا حتما إلى تآكل الأصالة الفنية، وتصبح الكتب أقل من كونها فنا، وأكثر شبها بالمنتجات، التي تحددها التصنيفات الصحيحة“
وبالرغم من كل الانتقادات، إلا أن هذه الإتاحة، التي وفرتها منصة تيك توك، تخلق مساحات هامشية داخل ذلك النادي الضخم من القرّاء/المستهلكين. ففي تيك توك تتوفر اقتراحات لكتب عن القضية الفلسطينية، وعن واضطهاد السود، وبدرجات أقل وأخفّ صوتا، مشهدا متكاملا ومتقاطعا مع أنواع أدبية تجديديّة فعلا، وذات صوت أدبي مختلف. ومما لا شك فيه أن المنصة تتخذ شكلا مشابها، في التوزيع والتأثير، للشكل الذي تبرز فيه الأصوات في المساحات العامة، مما يجعل كل مشهد رقمي مشابها لمشاهد “واقعية” خارج المنصات الإلكترونية.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.