ليلة سقوط المعبر: ماذا تبقّى من دويلة “الإغاثة” في غزة؟

بعد إقدامها على افتتاح حربٍ مع دولة، تسيطر على جميع منافذ قطاع غزة، برا وبحرا وحتى جوا، وضعت حماس الفلسطينيين في غزة مجددا في صدارة شعوب المساعدات الإنسانية العاجلة، لا سيما أن القطاع يعتمد، في الجوانب الاقتصادية والخدماتية، على إسرائيل ومصر بشكل كامل، إضافة إلى نشاطات القطاع الخاص وقطاع “المؤسسات المدنية” NGOs، وبعض استثمارات رجال الأعمال المحليين.
وسرعان ما استوردت حركة حماس النموذج الحوثي والسوري في التعامل مع نظام المساعدات الإنسانية الطارئة، وإنشاء مجتمع “الاستجابة الإنسانية العاجلة”، إذ يقوم ذلك النموذج على فرض السيطرة التامة على جميع الواردات، التي تصل المنطقة المنكوبة عبر نظام المساعدات الدولية، أيا كانت الجهة المانحة، ثم يقوم النظام الحاكم لتلك المنطقة بالتصرّف بالمساعدات، بما يحقق له أعلى استفادة مادية، وهيمنة على السكّان.
وفي الحالة الغزيّة، وبعد الأشهر الأولى من عملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وإعلان القيادة الإسرائيلية حالة الحرب، وبدء الإعداد لاجتياح غزة بريّا، بات قطاع غزة سجنا ضخما، مغلقا من جميع الجهات، دون أي إنتاج محلي، أو اكتفاء ذاتي في أي مجال، ليصبح اقتصاده قائما على المساعدات الإنسانية فقط، والتي تمرّ عبر معبر رفح، الذي تسيطر عليه حماس.
إلا أن المعبر سقط، ولم يعد تحت سيطرة الحركة. فكيف اختلفت أحوال غزة بعد سقوط المعبر؟ هل سقطت معه دويلة “الإغاثة الإنسانية”؟ وماذا يمكن أن يظهر على أطلالها؟
عمدت حماس، في فترة ما قبل اجتياح معبر رفح، إلى “تطبيع” المساعدات الانسانية الطارئة، بوصفها واقعا اقتصاديا جديدا، إذ تحوّل شكل الأسواق، من محال تجارية، تعرض منتجات محلية ومستوردة، إلى بسطات صغيرة، غزت شوارع القطاع بشكل كامل، يعرض عليها التجار الجدد محتويات صناديق المساعدات الإنسانية، التي يقوم أفراد من حماس بالسيطرة عليها في معبر رفح، ثم ينقلونها لوسطاء أفراد، يقومون بدورهم بتوزيعها على “تُجّار البسطات”.
إن هذا التحول، الذي ألغى شكل الأسواق القديم، وأنهى عمل التجار والمستوردين، وأصحاب المحال التجارية، حوّل غزة، في فترة ما قبل سيطرة الجيش الاسرائيلي على معبر رفح، إلى معرض ضخم للمساعدات الإنسانية، عبر عناصر تشغّلهم “حماس”، أو تصرف النظر عنهم، ليعودوا إليها بريع بيع المساعدات أول بأول.
وحسب شهادات السكان، الذين تساءلوا عن سبب عدم وصول المساعدات الدولية إليهم، فإن حماس متورطة في الاستيلاء على المساعدات، من خلال السيطرة على عملية بيعها في السوق السوداء، حيث يقوم التجار “الجدد،” غير المعروفين، ببيع المساعدات لصالح الحركة بشكل غير مباشر، مع نسبة ربح بسيطة لجيوبهم الشخصية.
لقد كان هذا تطورا هزليا، عن نموذج “عمل الأنظمة الأيدولوجية المسلّحة في سلك المساعدات” الذي اتبعه الحوثيون، أو النظام السوري، نحو تحويل القطاع بالكامل إلى متجر مساعدات إنسانية طارئة.
وبالحديث عن وكلاء الإغاثة، يذكر الكاتب السوري محمد سامي الكيال، في مقالة بعنوان “السياسة والمقاومة في مجتمعات الاستجابة الإنسانية العاجلة“، حول طبقة وكلاء المساعدات:
“طبقة الوكلاء هذه، في كثير من الأحيان، غير تابعة أو خاضعة تماما للمموّلين الخارجيين، خاصة إذا كانت مسلّحة، بل لها مصالحها، وأساليب هيمنتها وحكمها الخاصة، وقد تصطدم بعنف ببعض الدول المموّلة، إلا أنها تبقى “ضرورة” أو “شرّاً لا بد منه، باعتبارها أفضل من الانهيار الشامل. يجعلها هذا قريبة إلى حد ما من مفهوم “الاستعمار الفرعي”، بمعنى أنها نقطة تقاطع بين احتلال داخلي أو إقليمي صغير؛ ومصالح النظام الدولي المتعددة، والمتضاربة أحيانا”.
وفي حالة حماس، ما قبل اجتياح معبر رفح، فلقد تحوّلت الحركة إلى وكيل مساعدات بالكامل، “استعمارا فرعيا” لا يمتلك أي مصدر تمويل آخر غير بيع المساعدات للسكان في جنوب غزة، لتبقى الحركة نشطة اجتماعيا واقتصاديا، بعد انقطاعها بشكل كامل عن مصادر تمويلها السابقة، مثل إيران وقطر، واسرائيل نفسها. ولابد هنا من الإشارة إلى أن شمال قطاع غزة كان أقل تعرّضا لحركة بيع المساعدات، إذ استطاع الجيش الاسرائيلي عزل الشمال، وتحجيم حماس هناك بشكل أكبر مما حدث في الجنوب، الذي تمكّنت فيه الحركة من العمل بحرية نسبية، حتى ما قبل ليلة اجتياح معبر رفح.
يمكن متابعة التسلسل الذي سارت به حركة “حماس”، وصولا إلى مرحلة الاعتراف باقتراب الانهيار، عبر ثلاث مراحل: الأولى مرحلة اقتحام غلاف غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر؛ الثانية مرحلة تحوّل غزة إلى سوق مساعدات ضخم؛ والثالثة، سقوط دويلة المساعدات، تمهيدا لمرحلة ما بعد رفح.
لم يكن بإمكان نظام حكم “حماس” بغزة الاستمرار بإخفاء ملامح الانهيار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والخدماتي، رغم محاولاته الحثيثة الحفاظ على هيئات حكم افتراضية، مثل مكاتب الحكم المحلي، والاعلام الحكومي، ونقاط الأمن والشرطة، ووزارات الاقتصاد والصحة، إلا أن الانهيار كان سيد الموقف، فالاحتلال الإسرائيلي، ومنذ أيام الحرب الأولى، عمدَ بصورةٍ منظّمة إلى تفتيت ملامح حكم حماس بغزة، عبر استهداف الوزارات، ومنشآت الحكم الرئيسية، والشخصيات البارزة في حكومة الحركة.
وبين مرحلة السابع من تشرين الأول/أكتوبر، ومرحلة التحوّل إلى سوق مساعدات، كانت “حماس” قد عبّرت، في كثير من التصريحات، عن أنها تواجه صعوبات في إدارة الأوضاع داخليا، في جنوب قطاع غزة، دون التطرق إلى ما يحدث في شمال القطاع، الذي يرزح تحت السيطرة المباشرة للجيش الإسرائيلي. وحدث أن صرّحت الحركة بأنها تعتذر “عن أي خللٍ تأخّرت في محاربته، وعن كل سوء تصرّف بقصدٍ أو بدون قصد، سبّب إرهاقا للسكان”.
الاعتذار، الذي جاء خاتمةً لبيانٍ طويلٍ، خاطبت فيه حماس الشعب في غزة، أوضح آنذاك أن هناك إرهاقا داخليا لدى الحركة، وخاصة في الربط بين قياداتها في الداخل والخارج، ما انعكس بوضوح على الواقع داخل غزة، بعد عدة اخفاقاتٍ في التوصل إلى اتفاق مع الجانب الإسرائيلي، يفضي إلى استعادة اسرائيل لمختطفيها، وتحسين الأوضاع المزرية في قطاع غزة.
إن انهيار الحكومة، وحالة الفوضى والفلتان الأمني، التي رافقت الحرب الاسرائيلية ضد حماس في غزة، دفعت عديدا من الجهات الدولية والمانحة إلى التعبير عن قلقها البالغ، إزاء الآلية التي سيتم فيها العمل على تفعيل نظام المساعدات الانسانية الطارئة بغزة، وظهر ذلك القلق والتخوّف في تصريح المتحدث باسم الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر: “إن حماس يمكن أن تعرّض المساعدات الإنسانية المستقبلية لشعب غزة للخطر، من خلال تحويلها لاستخدامها الخاص، بدلا من السماح لها بالوصول إلى المدنيين الأبرياء، الذين يحتاجون إليها“.
وعلى الرغم من المحاولات الحثيثة من حركة حماس لضبط الأوضاع الداخلية عبر العمل بصفة وكيل مساعدات، إلا أن الانهيار الذي توقعته الحركة كان قادما لا محالة، لا سيما مع الحملة العسكرية الشرسة التي تشنها القيادة الإسرائيلية في جميع مناطق قطاع غزة، وفي ظل عجز حماس عن خلق المزيد من الأوراق الضاغطة على اسرائيل، وجدت الحركة نفسها في مواجهة مع جيش ضخم عند معبر رفح، ما جعل “دويلة الإغاثة” نفسها على المحك.
شهدت فترة ما قبل اجتياح معبر رفح انهيارا واضحا لحكم “حماس”، وظهور أشكال من التفسّخ الاجتماعي/الاقتصادي والاقتتال الداخلي، والفساد، الذي تورّط به حتى الموظفون الأمميون أنفسهم، إذ اتهم سكان قطاع غزة، في حوادثَ عدة، موظفي الأمم المتحدة بسرقة وبيع المساعدات الإنسانية، والتعاون مع “حماس” في ذلك.
وكانت صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية قد ذكرت أن حماس تسيطر على 70% إلى 80% من نظام المساعدات الإنسانية، وذلك ضمن ملامح غياب الرقابة والمساءلة، في الفترة ما قبل سيطرة القوات الاسرائيلية على معبر رفح، وهروب عناصر حماس من المعبر، وهي العناصر التي كانت تسيّر أعمال السيطرة والتحكّم بنظام المساعدات الإنسانية.
وفي مرحلة ما بعد اجتياح معبر رفح، والسيطرة عليه من قبل الجيش الاسرائيلي، بتاريخ السابع من أيار/مايو 2024، عادت حماس مرة أخرى لمخاطبة الشعب الفلسطيني في غزة، في محاولة لإظهار أنها تبذل جهدا كبيرا في ضبط الحالة المدنيّة والاقتصادية، ولكن الجيش الاسرائيلي كان في تلك الأثناء كان قد قام بالفعل بإلغاء نظام المساعدات الإنسانية الطارئة، وتدشين نظام استيراد البضائع من الضفة الغربية وإسرائيل، بالتعاون مع تجار غزيين محليين، عبر معبر كرم أبو سالم المجاور لمعبر رفح، ما زاد الأمور تعقيداً بالنسبة لـ”حماس”، ونظام “الاستجابة الإنسانية العاجلة”، التي كانت قد صنعته وسيطرت عليه.
وبحسب ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم الأمم المتحدة، فإن دخول المساعدات لغزة، قد انخفض بنسبة تزيد عن 67%، بعد سيطرة الجيش الاسرائيلي على معبر رفح، ما يؤكد إنهيار دويلة المساعدات الإنسانية، بعد انهيار حكم حماس بشكله السابق لقطاع غزة، أما الأسواق المحلية بغزة فقد تُركت بالكامل لإرادة التُجّار، دون أي رقابة على أسعار البضائع، التي يستوردونها من اسرائيل والضفة الغربية عبر معبر كرم أبو سالم.
وفي خضمّ ذلك كله، لا يزال اليمين الاسرائيلي مُصرّا على مواقفه الصارمة، بشأن “تحقيق أهداف الحرب على غزة”، المتمثلة بالقضاء على حماس، واستعادة الرهائن، ويقابله تعنّتُ الحركة، التي ترفض التخلي عن حكمها، رغم انهياره حقيقةً على أرض الواقع.
وبالرغم من السلوك الدموي لجيش الاحتلال الاسرائيلي في غزة، إلا أن حماس ما زالت تروّج أن لها “اليد العليا” في المعركة، وأن الشعب الفلسطيني في غزة يلعب دور الحاضنة الشعبية لكتائب المقاومة، ولكن الحقيقة أن حركة حماس باتت وحدها في ميدان الصراع مع اسرائيل، بوصفها ميليشيات مسلّحة عشوائية، ستستمر حتى بعد سقوط حكم حماس الفعلي لغزة، بدون أي تحرّك حقيقي من أدوات ايران الأخرى في المنطقة، إضافةً إلى موقفٍ رسميٍ عربي، يوافق بصمتٍ على اجتثاث حماس من غزة. وفي هكذا حالة لا يبقى لدى حماس من أدوات، غير جهازها الإعلامي، المؤثّر على جمهور عربي واسع.
وعلى الجانب الآخر تشهد اسرائيل انتقاداتٍ دولية متزايدة ومتسارعة لحربها الدموية ضد قطاع غزة، تهدد ادعاءاتها بأنها دولة ليبرالية وديمقراطية، إلا أنها تتمسّك بادعاء إنها تحمي نفسها من تهديد وجودي، يتمثّل بمتطرفين إسلاميين، لا يختلفون عن تنظيم داعش.
وبين صراع اليمينيين الاسلاميين واليهود، يعيش الشعب الفلسطيني بغزة واحدةً من أسوء سنوات تاريخه، دون أن يسمح له حتى بالحديث عن آلامه. لا دويلة إغاثة بعد سقوط المعبر، لم يبق إلا الميليشيات والسماسرة والعصابات، وهو وضع لا يشبه أبدا “الصمود”، الذي يتخيّله الجمهور العربي.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
استاذ محمد تيسير الفذ .. سلمت يمينك كتبت غيض من فيض من معاناه الناس في غزه و ويلاتهم .. اتعاني غزه من القريب ام من العدو ! الايدي العابثه بغزه الله فوقها ؛