دراما الصحة النفسية: هل “الوعي النفسي” مجرّد تريند طبقي؟

نرى، من تتبّع الأعمال الدرامية بالسنوات الأخيرة، تطورا نحو الاهتمام بالعامل النفسي لشخصيات المسلسلات، وتركيز الصُنّاع الفنيين على تناول “الصحة” و”المرض”، في سياق عام، تتصاعد فيه التوعية النفسية أكثر فأكثر.
ولكن حتى قبل تحوّل الصحة النفسية إلى موضوع درامي، دائما ما ارتبط نجاح العمل الفني بقدرته على تقديم بناء نفسي متين لأبطاله، وتفاعلهم ضمن سيناريو واحد. إذ تعتمد الدراما عموما، في تعبيرها عن قصة ما، على إبراز المزيج المكوّن لشخصيات أبطال هذه القصة، ثم تستعرض تسلسل الأحداث الجماعي، الذي تتقاطع فيه رحلاتهم، ليشكّلوا جميعا العمل الذي نتابعه، وغالبا ما نشاهد فيه انعكاسات الحالة التي نعيشها اجتماعيا وسياسيا. وكلما سبرت الدراما أغوار الشخصيات، وبنتهم لحما ودما، ازداد نجاحها في الوصول إلى المتفرّج. وفي حال خصّت المسلسلات الموضوع النفسي ليكون في قلب الحكاية، تزداد الحاجة إلى تجسيد مزيج المشاعر والأفكار المكوّنة نفسيا للشخصيات، بصورة أكثر ارتباطا بالعمل.
تشكّل كلاسيكيات الدراما العربية، في ثمانينات وتسعينيات القرن العشرين، أمثلة واضحة لذلك الفهم، عبر أعمال عدة، ومن أشهرها “أرابيسك” و”المال والبنون”، وكذلك “ليالي الحلمية”، الذي ضمّن موضوع الصحة النفسية لواحدة من شخصياته، وهي “رقية”، أخت بطل المسلسل “سليم البدري”. رغم هذا لم تحصل “رقية”، على خصوصية في طرحها، أو مساحة أكبر لدورها، فاكتفى الكاتب أسامة أنور عكاشة، بالزج بها في مصحة نفسية للعلاج، نتيجة مرض مشكوك في واقعية معاناتها منه بالأساس. ساعد على ذلك أن رقية كانت شخصية ثانوية في المسلسل، وليست أحد أبطاله الرئيسيين.
كان الاهتمام بشكل أوضح بمفهوم الصحة النفسية يحتاج انتشارا أوسع له في الثقافة الجماهيرية، وهو الحاصل في عصرنا، الذي أصبح فيه “الوعي النفسي” أحد أهم “التريندات” على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام. فما الذي يعنيه أن تكون الصحة النفسية موضوعا دراميا؟ وهل الموضوع مجرد لحاق، من قبل صانعي الدراما، بالتريند، أم له جذوره الاجتماعية والثقافية الأعمق؟
على مدار أكثر من نصف قرن من الزمن، تأرجح تناول المرض النفسي في الدراما. توثّق دراسة لصورة المريض النفسي بالدراما المصرية تسلسل طرق التناول. كانت البداية من الكوميديا الساخرة من المرضى، قبل تسمية هذه الممارسة بـ “التنمر”، والذي كان في ذاك الوقت نوعا من الفكاهة؛ وكذلك العرض المبالغ فيه لأحوالهم، ضمن تصنيفات نمطية معتادة، نسبت إليهم أفعال إيذاء النفس والآخرين. تكمن مشكلة هذا الطرح في كونه اختزاليا، لا يعترف بالتعقيد الإنساني، ولا يعرضه بصور متنوّعة، تسهم في تعريف سليم، بدلا من الوصم، الذي يؤدي لمزيد من الرفض للمرض، والخوف ممن يعانون منه.
مع بداية القرن الحادي والعشرين، اتجهت الأعمال الدرامية نحو عرض أكثر توازنا للمرض النفسي، في قوالب تميل للتراجيديا، والتناول الاجتماعي لقصص المسلسلات، بدلا من “كوميديا التنمر”، وذلك حتى في العقد الأول للألفية الأولى (2000 – 2010)، أي قبل بروز “دراما الصحة النفسية” إن جاز التعبير.
في 2009، عُرض مسلسل “خاص جدا”، بطولة يسرا، ومجموعة كبيرة من النجوم. جسدت فيه البطلة مع ثلاثة نجوم آخرين، أدوارا مختلفة لأطباء نفسيين، وظهر عدد من الممثلين المشهورين بصفة ضيوف شرف على مدار الحلقات، ليؤدوا دور المرضى في عيادة دكتورة شريفة (يسرا) وزياد (إياد نصار).
في العام نفسه، حدّثت الدولة المصرية تشريعها الوطني، المنظّم لخدمات الصحة النفسية المقدّمة، ويمثله قانون رعاية المريض النفسي رقم (71) لسنة 2009. بعد نحو 60 عاما من إصدار أول قانون لحماية المرضى النفسيين في مصر عام 1944. كفل التحديث حماية أكبر للمرضى، وأكد على ضرورة موافقتهم على خطة العلاج، وكذلك الحق في رفضها. وصاحب التغيير القانوني نشاط توعوي، لإزالة الوصمة المجتمعية عن المرض والمرضى النفسيين، عن طريق حملات إعلامية وتثقيفية.
مع العقد الثاني من الألفية، تزامن التحوّل الدرامي لتناول الصحة النفسية، مع التطوّر التكنولوجي الهائل، ما وفّر لكثيرين انفتاحا على المعرفة النظرية، والمشاركة العملية لقصصهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وفي الوقت نفسه، أدى هذا الانفتاح والتطور، في سياق عديد من التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلى تصاعد حدة الضغط العصبي، وزيادة نسب الأمراض النفسية.
في 2017 صار ربع المصريين يعانون من الاضطراب النفسي، بحسب إحصاء وطني. فيما تجاوزت نسبة المعاناة النفسية أكثر من نصف المصريين، تحت تأثير جائحة كورونا (52% من الشعب يعاني تأثيرات نفسية من متوسطة إلى شديدة، أغلبهم من النساء والأطفال). صاحب هذا الارتفاع، إطلاق الحكومة لمنصة إلكترونية للخدمات النفسية وعلاج الإدمان، والتي لازالت كفاءتها في تقديم المساعدة محل اختبار.
تلك هي الخلفية الاجتماعية لتصاعد الاهتمام بالصحة النفسية، ولكن ماذا عن التريند؟
اليوم، باتت الصحة النفسية تريندا في حد ذاته، إلا أنه ليس بالتأكيد تريندا فارغا، بل يعبّر عن ضغط مستمر، وحاجة متزايدة لتناول واسع النطاق للمسألة، غير مقتصر على الرعاية الصحية، بل يمتد ليشمل محتوى وسائل الإعلام المعاصرة والتقليدية، ومن أهمها الدراما.
تدرّجت المسلسلات في تبني دراما الصحة النفسية، عاما تلو الأخر. وشاع معها إصدار التقارير والمقالات، التي تتناول هذه الأعمال بالعرض والنقد والتحليل، سواء صحافيا أو حقوقيا أو وطبيا. عزز كل هذا ارتباط هذه الأعمال بظواهر اجتماعية، وتزامنها مع وقوع أحداث واقعية مشابهة لها، فأحيانا يتناول العمل واقعة حقيقية، وأحيانا تحدث تلك الواقعة بعد عرض المسلسل. كل هذا يشير إلى أن الموضوع أعمق من تريند، ينشره بعض “المؤثرين” على وسائل التواصل، بل وضع اجتماعي شديد التعقيد.
من أحدث الأمثلة الدرامية، مسلسل الموسم الرمضاني الأخير “أعلى نسبة مشاهدة”، بطولة سلمى أبو ضيف وفرح يوسف وليلى زاهر وانتصار. يعرض العمل ظاهرة مؤثري/مشاهير السوشيال ميديا، من أبناء الطبقات الأقل حظا اجتماعيا واقتصاديا، ويمزج بين القضايا النفسية الفردية والاجتماعية العامة، ومعاناة فتيات تلك الطبقة، والإهمال الذي يتعرضن له، وكيف يودي بهن العنف المنزلي، جسديا ونفسيا، إلى البحث عن القبول والاعتراف عبر وسائل التواصل الاجتماعي. تستدعي الحلقات الأخيرة وقائع محاكمة “فتيات التيك توك” في مصر، والتي حكم فيها على بعض الفتيات بالسجن، كما حدث مع بطلات المسلسل. وعلى الرغم من الانتقادات الشديدة التي تعرّض لها، لإعادة تأكيده على البنى الأبوية، إلا أنه تطرّق بالفعل لكثير من القضايا المرتبطة بالصحة النفسية، وهذا يؤكد أن تلك القضايا لم تعد ممكنة التجاوز.
في بعض الأعمال، كان التناول الدرامي أكثر ارتباطا بمفاهيم الصحة والمرض النفسي، منه للتناول الاجتماعي بطابع نفسي. من أشهر الأمثلة على ذلك مسلسلات مثل “تحت السيطرة”، و”سقوط حر” لنيللي كريم، و”خلي بالك من زيزي”، و”الهرشة السابعة” لأمينة خليل.
ولكن من جمهور تلك الأعمال حقا؟
نظرا لصعوبة الفصل ما بين الواقع والدراما في أحيان كثيرة، فإن الاهتمام الإعلامي يحاكيه اهتمام جماهيري متزايد، بمتابعة مثل تلك الأعمال؛ وارتفاع نسب مشاهدتها، بالمقارنة أحيانا مع أنواع أخرى من الأعمال، مثل ما يسمى “مسلسلات البطل الواحد”، و”أعمال العنف الشعبوية”، أي الأعمال التي تناولت ممارسات مثل تعاطي المخدرات والبلطجة. ومن الملاحظ أن الاهتمام بمسلسلات الصحة النفسية، يزداد بين الفئات المنتمية إلى الطبقات الأكثر حظا، ثقافيا واجتماعيا.
ينسحب هذا التصنيف النوعي على شخصيات تلك الأعمال أيضا. إذ توصّلت الدراسة المشار إليها أعلاه، حول صورة المريض النفسي بالدراما المصرية، إلى أن أغلب المسلسلات من هذا النوع، كانت الشخصية الرئيسية فيها من أصحاب المهن والتعليم العالي.
لاحظت الدراسة كذلك التفوّق الاقتصادي لشخصية المريض النفسي، والتدرّج نحو الأعلى في الطبقة التي ينتمي إليها، والتي تحيط به في العمل نفسه، إلى الحد الذي جعل المشاهد أحيانا قادرا على استنتاج المستوى الاجتماعي الذي ستدور فيه الأحداث، بمجرد أن تبدو تيمة “الصحة النفسية” واضحة فيها، وصولا لتوقّع أسماء الأبطال وصنّاع العمل الفني أنفسهم. يتجاهل هذا الواقع الدرامي وقائع الحياة الفعلية، والتي يزداد فيها الارتباط بين المرض النفسي والمعاناة الاقتصادية والاجتماعية.
بالرجوع إلى الأمثلة السابقة لـ “دراما الصحة النفسية”، يبرز الربط بينها وبين أسماء فنية معينة، كما هو واضح في حالة نيللي كريم وأمينة خليل. كما يستدعي اسم مخرج مثل كريم الشناوي، تخمين بقية فريق العمل، الذين تتكرر أسماؤهم في هذا النوع من الأعمال، وعلى رأسهم علي قاسم وأسماء جلال.
تتجاوز تيمة الصحة النفسية، الأعمال الدرامية نفسها، لتظهر حتى في لقاءات الفنانين المنتجين لها، مع بروز تناول إعلامي جديد، سواء في قالب العرض، أو محتوى المقابلات الصحافية والحوارات، فقد بات سؤال المذيع عن نفسية الضيف ومشاعره أكثر شيوعا، ونوعا من “المحتوى” في حد ذاته، على طريقة البرنامج الأشهر “AB Talk”؛ وانتشار البودكاستات، التي لا يشترط فيها أن يكون المُحاور صحافيا محترفا، ولكن يمكن أن يكون صديق الضيف، وحوارهما يتم في صورة دردشة شخصية.
ببساطة، تحوّلت الصحة النفسية إلى مكون شبه أساسي، حتى في الأعمال الدرامية التي لا تتناول موضوع المرض النفسي بشكل متخصص، فمجرّد التعرّض إلى معاناة أحد الأبطال أصبح مقترنا بتشخيص طبي، سواء داخل المسلسل، أو في المقابلات الصحافية مع صنّاعه، أو على لسان أحد أبطاله، في شرح الأداء التمثيلي للشخصية، مثلما فعلت الممثلة ميان السيد، في منشور لها على انستغرام، تعقّب فيه على شخصيتها في مسلسل “إمبراطورية م”، بطولة خالد النبوي ونشوى مصطفى.
هكذا نعود إلى التريند، فمسألة الصحة النفسية، وإن كانت أمرا تعاني من مشاكله أغلبية المصريين، إلا أنه يصبح بين فئات معينة منهم، في أعلى السلم الطبقي، تريندا يعبّر عن تميّز ثقافي واجتماعي.
ولكن هل ثقافة الصحة النفسية، التي تطرحها المسلسلات، والتريند المحيط بها، دقيقة أو مفيدة حقا؟
مسلسل “إمبراطورية م”، في عام 2024، أعاد تقديم عمل سابق، من بطولة فاتن حمامة، والتي جسدت دور ربة الأسرة الأرملة العاملة (المديرة منى). لم يُعن ذلك الفيلم، الذي كان تقدميا في وقته، بالصحة النفسية مباشرة، في سياق عام لا تنتشر فيه مفاهيم الصحة والمرض النفسي كما هي اليوم.
المسلسل الجديد لم يركز أيضا على الصحة النفسية، في روايته لحياة أبطال الفيلم. وبالرغم من اختياره القالب الاجتماعي الدرامي، لاستعراض حياة الجيل الثاني والثالث من أسرة “منى”، الشخصية التربوية في حقبة السبعينات، إلا أن التفاعل مع المسلسل، والتعليق عليه، أتى عبر نظرة الصحة النفسية، والتشخيصات النفسية السائدة، في وصف سلوكيات الأفراد، من دون حتى الرجوع لطبيب. يتحفظّ المتخصصون على مثل تلك الممارسات، وتحديدا إذا ما أتت من صنّاع أعمال درامية، تتناول موضوعا نفسيا. ويأخذون عليها عدم المراجعة العلمية، وامتلائها بالأخطاء، التي تضرّ بالوعي النفسي، بدلا من أن تفيده.
يفترض النقد، الذي يُوجّه إلى دراما الصحة النفسية من الأطباء، ضرورة أن تكون للدراما رسالة، تُقدّم عبرها توعية، وكأنها حيّز تعليمي واقعي. وهذا غير دقيق في كثير من الأحيان، فبعض المدارس الفنية وصنّاع الدراما لا يتبنون وجهة النظر نفسها، ويعتقدون أن الدراما ليست مضطرة لمحاكاة الواقع، أو الالتزام بمعايير متخصصة، كالتي للمحتوى الطبي مثلا، فالمسلسل ليس جلسة نفسية. باختصار يمكن أن يكون الهدف من العمل مجرد المتعة والترفيه، وأن يقدّم الصانع الفني قصة في قالب فانتازي، فهو ليس أخصائيا نفسيا، أو معلّما في مدرسة.
إلا أنه نظرا لطبيعة التأثير الذي تلعبه الدراما، يُحمّل كثيرون، سواء متخصصون (أطباء وحقوقيون) وحتى فئات من الجمهور نفسه، صنّاع الدراما مسؤولية مجتمعية وأخلاقية تجاه المتفرّج، وخاصة أن الدراما لديها نفاذ أوسع من بقية الألوان الفنية، مثل السينما والمسرح. يخترق المسلسل شاشات التلفاز، ويدخل إلى البيوت، حيث جميع الأعمار والطبقات والفئات. وفي حين يختار المشاهد أن يدفع ليحضر فيلما أو عرضا مسرحيا، فتزيد انتقائيته، تقلّ تلك الانتقائية كثيرا في حالة الدراما التلفزيونية.
لكنّ عديدا من صُنّاع المسلسلات، وإن كانوا يتفقون حول النفاذ الجماهيري للدراما، مقارنة بفنون أخرى، إلا أنهم يردّون على نقطة المسؤولية المجتمعية بالقول إنه يمكن لمن لا يعجبه ألا يتابع أعمالهم، أو يعزف عنها، خصوصا في ظل تعدد الخيارات.
بكل الأحوال، فإن جمهور المهتمين بـ”دراما الصحة النفسية” صار أكثر وعيا وتفاعلا، في نقاش موضوعات المسلسلات وتحليلها، وهذا بدوره يؤثّر على الصناعة والعاملين، الذين يترجمون اهتمام الناس، وتطور وعيهم النفسي، على شاشات التلفاز.
لذلك ليس بإمكان هذا النوع من الدراما الانفصال عن الجمهور، ما يضفي على أغلب الأعمال حاليا صبغة واقعية في طرحها، خصوصا في ظل المحاولات الحكومية نفسها، لمواكبة هذا الاهتمام بالصحة النفسية.
ينبئ ذلك ببعض الجهود المبشّرة، مثل دراسة إدارج الصحة النفسية في خدمات نظام التأمين الصحي الشامل الجديد؛ وأحيانا يفشل في مجاراة التطور الاجتماعي، وينقلب عليه بكل نمطية، كما هو الحال مثلا مع تعديلات قانون الصحة النفسية، التي صادق عليها البرلمان المصري في 2021، بتقويض حق المريض في الموافقة المكتوبة على خطة العلاج، والاكتفاء بتسجيل موافقة شفهية، ضمن الملاحظات بملفه الطبي.
يخلق كل هذا السياق مناخا عاما، تتحوّل فيه الصحة النفسية إلى قضية اجتماعية أساسية، داخل التريند وخارجه، تتعلّق بكل مناحي الحياة، ومنها القانون والسياسة والانقسام الطبقي والأيديولوجيات السائدة والأدوار الجندرية.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.