المحاصصة الجندرية: لماذا لا نعرف زوجات رؤساء وزراء العراق؟

اللغة، سواء كانت كلمات مجرّدة أو مصاحبة لتعبيرات رمزية، يمكن اعتبارها صورة أوضح للواقع المعاش، لأنها عندما تُستعمل، فإنها تقدّم نفسها على أنها الحقيقة، التي تعبّر عن المنظومة الجمعية لمجتمع ما، خصوصا لو صدرت من أعلى هرم السلطة، يصاحبها تأييد وأيادٍ تصفق بقوة. اللغة هنا هي أداء مشروط بقبول مجتمعي، يساعدها على التداول.
ولهذا يطرح جواب رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، عن سؤال الطالبة رقية نعمان، من كلية العلوم السياسية في جامعة بغداد، عن غياب دور السيدة الأولى عن الساحة السياسية العراقية، كثيرا من الإشارات اللافتة، عن اللغة العراقية المعاصرة، وما تجسّده من معانٍ.
“دور السيدة الأولى دائما ما يتمحور حول شؤون المرأة والمؤسسات الفاعلة“، هكذا قالت الطالبة، ليقاطعها رئيس الوزراء بضحكة تُظهر استهزاءه بالسؤال، ويجيب: “ماكو نصوص قانونية على موقع السيدة الأولى وواجباتها، أكو عرف صار، والتزم به رئيس الجمهورية، أكو سيدة أولى. والسيد رئيس مجلس النواب. أما السيد رئيس مجلس الوزراء… هاه هاه هاه… فمهام السيدة الأولى في البيت لتربية الأولاد“. صاحب الجواب كثير من السخرية والضحك، مع تصفيق حار، لتحديد السيد رئيس الوزراء لدور زوجته في المنزل، مع الإشارة إلى دور زوجات كل من رئيس الجمهورية (الكردي)، ورئيس مجلس النواب (السني).
لاقى الفيديو، الذي ظهر خلال برنامج “بيستون توك”، تأييدا واسعا، بعد تداوله منذ عدة أيام، إذا رأت فئات كثيرة، رغم اختلافها مع سياسة السوداني، أن رئيس الوزراء “يخاف على عرضه”، ولا يقبل خروجه أمام الأنظار، وأن مهام تربية الأولاد هي الواجب الأهم للمرأة. لذا يستحق السوداني، في هذا الموقف بالذات، الاحترام والتأييد.
لم يكن محمد شياع السوداني الشخصية الجدلية الوحيدة التي انتهى الخلاف حولها، حينما اتفقت مع القيم السائدة حول تحديد دور المرأة داخل المنزل، إذ لا تهم ملفات الفساد أو الشكوك المتداولة حوله، يكفي أنه يخاف على “عرضه”، لاعتباره أهلا لمنصبه.
بكل الأحوال ليس السوداني رئيس الوزراء العراقي الوحيد، الذي غيّب زوجته منذ تسلّمه منصبه، وبالتالي فربما يكون الموضوع أكبر منه. وهنا يمكن طرح أسئلة عدة، أهمها: هل هناك “محاصصة جندرية”، إلى جانب المحاصصة الطائفية في العراق؟ أي هل هناك هوية معينة، يفرضها المنصب للتوقعات الجندرية داخل النظام السياسي العراقي؟ وهل يمكن فهم دور النساء في المجتمع العراقي، إذ ما استوعبنا تموضع زوجات سياسي المناصب الكبرى؟
تأسّست السياسة العراقية، منذ الربع الأخير من القرن الماضي، حول تجربة حكم حزب البعث. وقد أسهمَ تَطاول أمدِها في تكوين الخيال السياسي للمجتمع العراقي بصورة عامة، إذ حاول كثيرون، خاصة من الطائفة الشيعية، نبذ الصورة البعثية، أو معاملتها على أنها عدو متربّص، يرغب في إسقاط مذهبهم أو إهانته، لذا أصبح كثير من الأفعال السياسية مرتبطا في مخيلة المجتمع بنظام صدام، إما مُحببا بها، أو مثيرا للنفور منها.
حضور “السيدة الأولى” في السياسة العراقية، ارتبط ارتباطا وثيقا بصورة صدام حسين مع عائلته، وبالأخص زوجته. إذ رافقت ساجدة خير الله طلفاح زوجها في كثير من المحافل، وهو ما قد يبدو تصرّفا طبيعيا في أي بلد آخر، لكنّ ارتباط “سجوده”، كما يطلق عليها كثير من العراقيين، وكذلك أبناؤها، بحفلات الشرب والغناء، أثناء مرور العراق بحروب ومجاعات، جعل حضور زوجة رئيس العراق محل نفور لدى كثيرين.
ظهر هذا النفور بعد عام 2003، وتمكين السيطرة الشيعية على الحكم، وكذلك العمل بنظام المحاصصة في تقسيم إدارة الدولة، إذ أصبح منصب رئيس الوزراء من نصيب الشيعة، ورئيس الجمهورية من نصيب الكُرد، أما السُنة فخُصصت لهم رئاسة مجلس النواب.
من هذه المحاصصة، برز نمط آخر من المحاصصة الجندرية، إن صح التعبير، إذ صارت هناك صورة منمّطة لدى كل طرف عن ممثّل مكونه، التي لا تظهر في أوضح تجلياتها إلا في التعامل مع نساء المكوّن، والشكل التي يبرزهن فيه. لذا حين نتتبّع تاريخ المناصب الثلاثة، سوف تظهر لنا بعض الحقائق، التي من خلالها يمكن فهم الهوية الدينية أو العرقية لأحد المناصب الثلاثة، والتي تُفرض على النساء، غيابا أو حضورا.
بعد انتشار جواب “السيدة الأولى بالبيت تربي الأولاد”، ظهر السيد يوسف الناجي، وهو إمام وخطيب حسينية الإمام الحسين في محافظة ميسان، ومعد ومقدّم برامج تلفزيونية، من على المنبر، يمتدح رد رئيس الوزراء على الجواب، ويراه مفخرة، ويربط وُجود السيدة الأولى وظهورها بالفكر الغربي، ويشير، بطريقة مسيئة، إلى أن رئيس مجلس النواب السابق، السني محمد الحلبوسي، سمح بظهور زوجته، وكشفها للعلن: “اللي ما عنده دين يطلّع مرته بالبنطلون، تفتر بالشوارع، مثل ذاك إلى نطرد من مجلس النواب“.
ليس بالغريب إذن غياب زوجات رؤساء مجلس الوزراء العراقي الشيعة بعد عام 2003، وتحديدا بعد تمذهب المنصب، إذ لم تظهر زوجة إبراهيم الجعفري (2005) إلا في صورة واحدة؛ أما زوجة نوري المالكي، صاحب أطول مدة حكم بعد عام 2003، والتي امتدت بين عامي 2006 و2014، فقد ظهرت بصورة واحدة مسّربة، وهي في المطبخ معه.
لم يكسر هذه القاعدة سوى حيدر العبادي (2014-2018)، الذي ظهرت زوجته عدة مرات، ولكن بعد انتهاء فترة حكمه، ليستمر الموقف ذاته مع زوجة عادل عبد المهدي ومحمد شياع السوداني.
رؤساء الجمهورية الكرد، ظهرت جميع زوجاتهم بدون استثناء، بدءا من جلال طلباني، وحتى عبد اللطيف رشيد. في حين لم يتمكّن أحد رؤساء مجلس النواب السنة من الظهور مع زوجته إلا مع تسلّم محمد الحلبوسي رئاسة المجلس، إذ ظهرت زوجته نوار عاصم، وكأنها السيدة العراقية الأولى، وتواجدت في المحافل كافة، وقد أصبح ظهورها مثلبة وشرارة عداوة مع الحلبوسي، أثارها كثير من السياسيين، وانتهت بإنهاء عمله رئيسا للمجلس.
تطرح لنا هذه النمطية، المخاوف الشيعية من ظهور النساء في الحيز العام، والمحاولات المستمرة لقمعهن داخل المنزل، إذ لا مكان للنسوة في العمل السياسي، وأيضا تواجدهن يتماثل مع ذاكرتهم عن عائلة صدام حسين. وعندما ظهر سياسي سني وحيد مع زوجته، أثار الذاكرة الشيعية عن صدام.
في حين لم تثر نساء السياسيين الكرد أية مشاكل، وذلك بسبب الخصوصية الكردية، واستقلال الإقليم الكردي فعليا عن العراق، وربما لهذا فإن النساء الكرديات، وفق المنظور الديني لما بعد 2003، لسن “عرض” أو “شرف” العراقيين، فهن بعيدات في الشمال، ربما لحسن حظهن، دون أن يعني هذا على الإطلاق أن وضع النساء الكرديات مثالي، أو يحظين بالحد الأدنى من المساواة، ولكن “الصورة” ليست قاسية عليهن لدرجة بقية العراقيات.
تعددت وجهات النظر حول ما قيل على لسان رئيس الوزراء العراقي، أهو تكريم أم إهانة؟ إذ رأى كثيرون أن تربية الأولاد مهمة عظيمة، لا توكل إلا للنساء العظيمات، ولهذا يجب علينا ألا نعتبر ما قيل بحقها إهانة لها، أو بحق بقية النساء. وهذه جدلية مستمرة، إذ يرى العراقيون أن عملية الإهانة والتكريم لا تتم إلا في حدود البيت، فحين يرغب أحد ما بإهانة امرأة، يقول لها: “اذهبي إلى المطبخ”. أما تربية الأولاد فتعتبر مكانة عظيمة لها، رغم أن المطبخ جزء من المنزل.
يتناسى عراقيون كثر أنه لا يمكن أن تكرّم النساء بفرض الأدوار عليهن، ولا يمكن أن يكن عزيزات وهن مجبرات على أداء مهمة ما، سواء كانت عظيمة أو غير عظيمة. وهذا الإجبار يأتي بغطاء قانوني وديني وعشائري وميليشياوي، ربما كان رئيس الوزراء الضاحك أعلى تجسيداته.
كذلك لا يمكن فهم الدور، الذي تشغله النساء داخل المنزل، بوصفه “مهمة عظيمة”، في مجتمع ذكوري يحدد قيمة الفرد بإنتاجيته المادية خارج المنزل، ويتجاهل قيمة الأعمال الرعائية. لذا لا يمكن فهم جملة السوداني إلا بإطار الإهانة، إذ إنه حصر دور زوجته وفق رغبة “السيد رئيس الوزراء”، دون الإشارة إلى رغبتها هي، مع سخرية مستمرة، وضحك طيلة فترة طرح السؤال والإجابة عليه.
تتقاطع رؤية السوداني لزوجته، مع نظرة الحكومة العراقية، التي يترأسها، للنساء العراقيات، والتي لا ترى فعليا أي مكان للنساء خارج المنزل، إلا إذا كن واجهات (مغطّاة) لهذه القوة السياسية الدينية أو تلك. أما الحديث في السياسة فيعني الحديث عن “التعيينات” و”الفساد” و”الرجال”. وهذا ما حدث بالفعل في الجلسة المصوّرة، التي شهدت ضحكات رئيس الحكومة، ففي كل الأسئلة التي طًرحت في الجلسة، لم يستهزئ بأي سؤال، سوى السؤال عن دور زوجته السياسي. وربما تتوضح هذه الرؤية الحكومية أكثر، عند ذكر آخر تصريح لحنان الفتلاوي، والتي تمثّل بالأصل النظام السياسي الحالي، عندما أشارت إلى أن أحد أعضاء مجلس النواب رفض وُجود النساء في اجتماعات إدارة الدولة، بسبب استعمال المسؤولين العراقيين لمصطلحات نابية في جلساتهم.
لا يقتصر الموضوع على الفتلاوي، فقد طفح كيل عدة نواب عراقيات، فتحدثن عن تحرّش تعرّضن له داخل قبة مجلس النواب، أو التقليل منهن، فضلا عن رغبة عديد من النواب الذكور في غيابهن، وبقائهن داخل المنزل.
ومع تصالح الجميع مع هذه الظواهر، على اعتبارها جزءا من “الثقافة العراقية”، والمحاصصة الطائفية/الجندرية فيه، ولا تستدعي سوى الضحك وإلقاء النكات، يظهر لنا أن الاستبعاد الاجتماعي، الذي تعانيه زوجة رئيس الوزراء، هو استبعاد لمعظم النساء العراقيات، شيعيات وسنيات، إنها “السيدة الأولى” فعلا، ولكن الأولى فقط في تجسيد الإقصاء الشامل، عبر غيابها لا حضورها. إنها الجزء الناقص من الصورة، والحاضر بشدة في الوقت نفسه. لقد حضرت في ضحكة رئيس الحكومة، وتصفيق الحضور له، والابتسامة المرتبكة للطالبة التي طرحت السؤال، وربما يحضر غيابها في كل شوارع وميادين العراق.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
ممتاز
عاشت ايدج وصح لسانج..الفكرة والتعبير عنها رائعين..
للعلم كثير من الناس ما تريد هذا النمط بس مضطرين حتى لا يتم نبذهم او استخدام هذا الملف لأذيتهم او عالاقل لتجنب توقف بعض مصالحهم بالحياة
تحية طيبة
ماتفضلتي بهِ حضرتك ست أماني صحيح الى حدّ كبير بغض النظر عن أدلجت نواياهم وكيفية التسامر مع النساء من نوافذ أخرى لكن كل هذا لا يجدي نفع …
موضوع بروز دور المرأة في حقبة النظام السابق ومنحها مناصب لدرجة وزير استفز ليس الشيعة بل الوطن العربي والدليل لو عدنا الى 2003 وما بعدها نجد ان هناك شريحة كبيرة انتقدت وخاصة الاشخاص الذين لمّ يستطيعوا الوقوف بـ جزء بسيط امام تلك الهيبة
اما موضوع الحكومات المتتالية بعد 2003 والتي كانت كلها شيعية لمّ ولنْ تظهر سيداتهم لأنهم مؤمنون انهم ليسوا قياديين وليسوا اصحاب رؤية صحيحة لذا مستحيل يعطون دور للمرأة لأنها تتغلب عليهم حسب اعتقادهم وهذا سببهُ ضعف الشخصية القيادية
ومن جانب آخر ومهم إذا أردت ان تعلم جيل فـ إبدأ بالمرأة وهنا المرأة العراقية أثبتت ذلك وعليه أصبحت مُحاربة حتى من الاجندات الخارجية لأنهم يعرفون جيداً هوية الشعب متعلقة ومرتبطة بالمرأة
وأنا لا أستبعد بلّ وحتماً هذه التصرفات هي حرب نفسية ضدّ المرأة ودورها بالنضال الوظيفي والسيادي وبأي شكل كان حتى يوصلون المجتمع الى اضعف نقطة وتمزيقة
لكن انا على يقين سوف يعود دور المرأة و السيدة والرائدة العراقية الى ساحات العمل والمناصب المرموقة بالدولة
شكراً جزيلاً على طرحك