البحث عن “الفلانور”: هل خسرنا تجربة التسكّع في المدينة؟

البحث عن “الفلانور”: هل خسرنا تجربة التسكّع في المدينة؟

احتفاءّ بمجموعة أزياء “فلانور”، لخريف وشتاء 2023، صنعت العلامة التجارية الشهيرة فيلما قصيرا بعنوان “Le Flâneur Moderne” (المتسكّع الحديث)، من تأليف وإخراج الفنان الفرنسي جان جاك لافون، يستكشف المشاعر والجماليات، التي تأسر الفلانور (المتسكّع) أثناء تنقله في المدينة. الفيلم مستوحى من عجائب الشباب وسيولة الأحلام، يتدفّق بطله بين المساحات، ويتكيّف معها في خطواته المختلفة، ويُبقي نفسه منفتحا على الرؤى، التي يمكن أن تقدمها المدينة.

يظهر الموديل في بداية الفيلم، مرتديا بذّة أنيقة، وبجانبه قبعة “فيدورا” ومظلّة، بينما يقرأ الجريدة اليومية، في كابينة مركب، يبحر به في نهر يجري في مدينة أوروبية. يهبط من المركب ويستند إلى جذع شجرة ضخمة، ويخرج من حقيبته دفترا، يدوّن فيه ملاحظاته، ثم يتحرّك عبر المدينة، ليصل إلى مكتبة، يغرق في كتبها حرفيا، لينتهي به الأمر وهو يتسكّع في الشوارع على ظهر دراجة، ثم ينزل من عليها ليتمشّى على شاطئ النهر، مبدّلا، في كل لقطة، بين أزياء الماركة الشهيرة.  

من أين أتت هذه الصورة الرومانسية الباذخة عن “المتسكّع”، وهل ما تزال مؤثرة في عصرنا؟

“الفلانور” أكثر من مجرّد متسكّع عادي، بل مراقب متجوّل للحياة الحضرية، وقد تحدّث عنه مفكرون متعددو الاختصاصات، مثل الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والدراسات الثقافية. صيغ المفهوم في بدايات القرن التاسع عشر، للتركيز على الممارسات الثقافية والتفاعلات الاجتماعية وبناء المعنى في المساحات الحضرية. وينظر علماء الأنثروبولوجيا عموما إلى التسكّع على أنه ممارسة طقسية، وطريقة للتنقّل، وتجربة المشهد الاجتماعي والثقافي للمدينة.

وعلى الرغم من أهمية المفهوم وترسّخه، فقد انتقد بعض المفكرين صورة “الفلانور”، باعتبارها أوروبية ونخبوية، لتركيزها بشكل أساسي على تجربة المتجوّل الأبيض في مدينة أوروبية، متجاهلة الطرق المتنوّعة، التي يختبر بها أناس من هويات وأصول أخرى المدينة، ويتفاعلون بها مع المساحات الحضرية. هل يوجد مثلا “فلانور” عربي في مدينة عربية؟ وما الأبعاد السياسية والاجتماعية للتسكّع في فضاءاتنا المدينية المعاصرة؟

العابر المتأمّل: هل التسكّع شاعري فعلا؟

تكمن فرادة نظرة “الفلانور” في أنه يجرّب العالم من حوله، من خلال مكوناته الشخصية، التي ينعكس عليها أثر الحضور التاريخي والثقافي، المحيط به في المدينة، مما يساعده على تكوين شعرية خاصة به. ويُنظر عادةً إلى هذا المتجول على أنه شخص توقف عن الاستخدام أو الانتفاع بالمجال الحضري الذي يقطنه، فهو لا يتعامل معه بشكل وظيفي أو أداتي، بل بأسلوب تأمّلي وجمالي، فيبدو أشبه بالمصور الفوتوغرافي، الذي يمكنه إيقاف الزمن، عبر اللقطات التي يأخذها. “الفلانور” ابن المدينة جدا، ولكنه يحرص أن يبقى في وضعية “العابر”. وهذا أكثر تناسبا مع “روح المدنيّة” نفسها، التي تتجسد دائما في الحركة والعبور والانتماء العَرَضي.  

يؤكد الفيلسوف الفرنسي فريدريك غرو، في كتابه “المشي فلسفة”، أن الفرق بين المشّاء والمتسكع جوهري، متعلّق بأن المشّاء يحقق فعل المشي عندما ينصهر في البيئة المحيطة به، دون أي قدرة على تغييرها؛ أما المتسكّع فيحقق استقلاليته الذاتية، بالنقد وخلخلة الحشد، ذلك لأنه دائما متفرّج خارج عن السياق الذي ينظر اليه، وبالتالي بإمكانه نقده وتفكيكه.

فريدرك غرو

إن المتسكع مُخلخِل، إنه يخلخل الحشد والسلع والمدينة، وكذلك قيمهم. بينما يتجوّل المشاء في الفضاءات الكبيرة لمسافات طويلة، حاملا حقيبته على ظهره. إن فعل المشي عند المتسكع أكثر غموضا، ومقاومته للحداثة متناقضة، فهي ليست الهدم والمعارضة، ولكنها طواف، وانعراج، ومبالغة إلى حد التغيير، وقبول إلى حد التجاوز. إن المتسكع يخلخل الشعور بالوحدة والسرعة والمضاربة التجارية والاستهلاك“، يقول غرو.

إلا أن مفكرين سابقين، ومن أبرزهم الألماني فالتر بنيامين، لديهم رأي آخر. ركّز بنيامين بشكل أساسي على “الفلانور” الباريسي، لا سيما في سياق القرن التاسع عشر، وصعود ثقافة المستهلك الحديثة. واعتبر أن المتسكع شخصية متفرّدة، منفصلة ولكنها منغمسة، تتجول بلا هدف في أروقة المدينة وشوارعها. وشدد على قدرة “الفلانور” على المراقبة، ليصبح التسكّع طريقة لجمع أجزاء من الخبرة الحضرية والتاريخ. ومع ذلك، نظر بنيامين إلى “الفلانور” بشكل نقدي، فقد رأى أن الفرد المعاصر سيصل إلى الفشل في النهاية، لأنه غير قادر على التواصل حقا مع العالم الحديث، ومحكوم عليه بمشاهدة اغترابه ماثلا دائما أمام عينيه، وبالتالي فإن شعرية “الفلانور” ما هي إلا شعرية كاذبة.

فالتر بنيامين

باريس ومتسكعوها تغيروا كثيرا في عصرنا على أية حال. وربما يجب أن نبحث عن “الفلانور” المعاصر بعيدا عن الأدبيات الكلاسيكية.

الفلانور العربي: هل التسكع في القاهرة يختلف عن المشي في برلين؟

في مقدمة كتابه “القاهرة شوارع وحكايات”، يخبرنا الكاتب المصري حمدي أبو جليل شيئا قريبا من فكرة “الفلانور”، وخلخلته للسياق المديني: “في البداية أعجبني موضوع التجوّل في الشوارع، بغرض إبداء رأيي فيها. أن تجد نفسك مطالبا بتسجيل ملاحظات عن الزمان والمكان شيء يدعو للفخر حقا، شيء يمنحك متعه التحديق في البيوت والمحلات والبشر، الناس في الغالب لا يرون، هم يعيشون، الرؤية تستلزم أن تعتبرها غاية، ألا تفعل شيئا سوى التحديق“.

يذكر أيضا: “لا أخفي عليكم أنني ارتبكت وارتعبت لبعض الوقت، يمكن تخيّل ما أصابني من أناس تعوّدوا أن لا يقترب من منشآتهم إلا لص او متسوّل او تائه أو صاحب نفوذ، البعض نهرني بما يناسب شحاذ، والبعض شملني برعاية تليق بمحصّل ضرائب، ورجال الشرطة داهموني باتهامات، تناسب خائنا أو على الأقل جاسوسا”.

حمدي أبو جليل

بإمكان “الفلانور” القاهري إذن أن يفكك ظلال المنشآت والمباني من حوله، حتى تصبح تلك الكتل الضخمة والمتماسكة، عباره عن تفاصيل صغيرة، وحكايات وسياقات لتاريخ أعمق؛ وبينما الشوارع مجرّد مناطق للعبور بالنسبة لمعظم الناس، فهي نوع من “القراءة” بالنسبة للمتسكّع، إلا أن التسكّع في مدينة عربية ليس مجرّد شعرية مليئة بالجماليات والأفكار، وإنما مغامرة بمعنى الكلمة، فقد ينتهي بك الأمر ضحية “علقة ساخنة”، أو في قسم شرطة. هذا إذا كانت المدينة في حالة سلم، كما في القاهرة، فما بالك بالمدن المليئة بالمليشيات، مثل بغداد. من يملك ترف أن يكون “فلانور” في مدينة عربية اليوم؟

فلنعد إلى أحد أولئك المفكرين والأدباء، الذين أغرقونا بشعرية التسكّع. الألماني فرانتز هيسيل، كان ممن تعاونوا مع فالتر ينيامين في الكتابة عن المساحات الحضرية، ونظرة “الفلانور”، وعلى عكس بنيامين، يحتفي هيسيل بفعل الاستكشاف، وإيجاد الجمال كل يوم، عبر التسكّع، ويجسد كتابه “المشي في برلين”، الصادر عام 1929، هذا النهج الإيجابي. ولنركز على تاريخ صدور الكتاب، فبرلين آنذاك كانت في قمة ازدهارها، ولكنها في الوقت نفسه تشهد اضطرابات عنيفة؛ وصراعات دموية بين الأحزاب السياسية؛ وصعود النازية.

كان هيسيل  فرانكفونيا، عاش في باريس من عام 1906 وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى. وقد سعى إلى استيراد حساسية فرنسية إلى الجانب الآخر من نهر الراين: برلين، العاصمة البروسية، المتخمة بنزعتها العسكرية والإمبراطورية، وفظاظتها البروتستانتية. مع ذلك، فإن التسكّع فيها مهم، بالنسبة لهيسيل، لإن التسكّع ليس مجرد وسيلة للرؤية، بل هو أيضا وسيلة للإنتاج. وفي الفقرة الأخيرة من الكتاب ينصح: “دعونا نتعلّم قليلا من الكسل والانغماس، وننظر إلى الشيء الذي هو برلين، حتى نصبح مولعين بها، ونجدها جميلة، فتصبح جميلة“.

فرانتز هيسيل

يعني هيسيل بذلك أن التسكع، بما يفترضه من انفصال واستقلالية، وبما يطرحه من أسئلة، سينتج جمهورا نقديا، ينمّي قدراته عبر التفرّج، بدلا من الإذعان البسيط للنسيج الحضري الموجود.

بإمكاننا أن نفكر بالدور المنتج، الذي تحدث عنه هيسل، في عمل أبو جليل “القاهرة شوارع وحكايات”، المذكور أعلاه، ففي حين أن هذا العمل يمكن استخدامه مرجعا للشوارع المحورية في القاهرة القديمة والخديوية والإسلامية، إلا أنه حافل بالحديث عن امتدادات وجزر في القاهرة، ويعيد تسليط الضوء عليها، مما يخدم في سبر مكوناتها التاريخية المتراكمة. ففي الوقت نفسه، الذي يتحدث فيه أبو جليل عن الشكل الحالي لشارع مثل “المنيل”، يقوم بذكر بعض الأقاويل، ليس فقط عن تاريخه القديم، وشكله المعماري، ودوره الوظيفي أثناء تكوينه، بل أيضا عن أسرار وأساطير، كأن يخبر عن مقياس النيل المختبئ في قصر “المانسترلي”؛ أو عن السينما الذي قيل إن الرئيس الأسبق أنور السادات كان بداخلها، أثناء اندلاع ثورة يوليو 1952.

في الدور المتأمل النقدي، الذي يلعبه أبو جليل، يمكن استيعاب الخصوصية التاريخية والثقافية للمكان وسكانه، وكيف ولماذا يتحدثون بطريقة معينة دون غيرها. فنرى قاهرة مختلفة، غير تلك التي نعيش فيها كل يوم، ونعتبرها من حقائق الحياة.

الصحفي والناقد المصري هاني درويش، هو بالتأكيد “فلانور” عربي شديد الأهمية،  نجد في كتابه “إني أتقادم: مسارات شخصية في أحراش القاهرة”، والذي جُمِع بعد وفاته، تأملات ذاتية، لإنسان تشرّب شوارع القاهرة بكل حواسه وتفكيره. يقول عنه الكاتب اللبناني فادي العبد الله: “كان في معنى من المعاني، جبرتي القاهرة المعاصر، الجالس على قارعة المشهد، والمؤرخ لسير وحيوات، وموت أمكنة، وأنماط حياة، وأنواع موسيقى، وإعلانات وصراعات في السياسة والثقافة والمجتمع“.

هاني درويش

يقوم درويش، في كتاباته المتجاوزة للنوع، بنقد ثقافي، بعضه يتعلّق بتأريخ نتائج جولاته في “أحراش القاهرة”، وهي جولات استعادية لمناطق هُجِرت، وتبقّى منها الأثر؛ وأخرى ما تزال حية، ومتخمة بالضجيج والازدحام والظواهر الملفتة. في مقاله “النهر الجارف لشارع القصر العيني”، يتأمل درويش في مظاهر الحياة، في المساحة التي يجلس فيها، انتظارا لموعد وصل إليه مبكرا، بسبب اختلاف المواعيد في نهار رمضان، ويدوّن أحاديث السائقين وثقافاتهم، وصخب الشوارع. “إنهم مثلي، لا ينتظرون شيئا. إنهم يلتقطون أنفاسهم من سريان النهر الجارف للشارع المزدحم“، يقول درويش.

في المقال نفسه، وبجمل عفوية، يبيّن لنا تنوّع الشارع القاهري، بين عجزة وشبّان، أعراق وجنسيات مختلفة، من أوروبا وأفريقيا، وتجانس كرنفالي لكل ما لا يتسق، بوصف ذلك امتدادا لتنوّع الهويات المتداخلة، الذي طالما حفلت به الشوارع المركزية للمدينة القديمة.

ليس التسكع إذن أمرا مقتصرا على الأوروبي الأبيض في مدينة غربية، بل نشاطا ضروريا، له أبعاده السياسية والثقافية، في الفضاء الحضري المعاصر، على اختلاف هوياته وجنسياته، ويبدو أننا سنخسر كثيرا، إذا توقفنا عن التسكّع والتأمل والمراقبة، وتعوّدنا على المكان كما هو.

وهذا يدفعنا للعودة إلى السؤال المهم: هل مازلنا نملك ترف التسكع؟

تسوير المساحات: أي معنى للتسكع اليوم؟

في مدينة مجرّفة من الأشجار، ومن أماكن الجلوس العامة، تُطوّر فضاءاتها بشكل تعسفي، يُدفع الفرد دائما إلى الركض، لإنجاز شيء ما، أو اللحاق بموعد، أو حتى الهروب من خطر معين. أين يجلس مثلا سكان القاهرة اليوم إذا تعبوا من المشي؟ وهل يملك أحد منهم وقتا للتسكّع؟

عبر تتبع مراحل التغيّر الحضري في المدن الكبرى، مثل برلين والقاهرة وباريس، بإمكاننا إدراك أن التطوير الحضري لتلك المدن كان يتم عن طريق فنانين. يمكن أن ننظر إلى المخططات السكنية في أحياء القاهرة القديمة، على أنها اعمال صُممت لتأدية دور جمالي ووظيفي في الوقت نفسه، أما في يومنا هذا فإن المشاريع الحضرية تسعى للتجريف والوظيفة والمنفعة بأكبر شكل ممكن، وتحوّل كل المساحات إلى مساحات خدميّة، أحيانا مسوّرة، ومملوكه لشركات، لا تستهدف سوى الربح غير المستدام.

التجوّل في ذلك النوع من المساحات لا يوصل إلى تأمل، أو نقد، أو خلخلة، أو استعادة، أو أسطرة. بل يجبرك بالضرورة على أداء وظيفة ما، لا يمكنك أن تكون “فلانور” اليوم بالمعنى الكلاسيكي القديم، أي المتجول العابث والمستمتع في الشوارع. ربما لم يبق لنا إلا نمط من التسكّع المُركّب، أي تحويل تجربة الركض المرهق في المدينة إلى تفكير نظري، يحاول رسم  صورة للتحولات النفسية والاجتماعية والسياسية للمدن، وتحولاتنا الشخصية معها.

بعيدا عن دور المتسكع البرليني في أعمال هيسيل، أو نموذج المتسكع الباريسي في أعمال بنيامين وغرو، أو حتى المتسكع الحميمي في المدينة العريبة، مثل حمدي أبو جليل وهاني درويش، ربما علينا أن نعيد تعريف أنفسنا بوصفنا متسكعين، رغم أننا لا نمتلك ترف ذلك، لكي لا نفقد قدرتنا على النقد، ونضطر للانصهار والتماهي مع المساحات المسوّرة الوظيفية الجديدة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
3.7 3 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات