السلامة الإحيائية: هل الهندسة الوراثية مجرّد “عبث في خلق الله”؟

في العام 2004 صدرت أول مسودة لقانون “السلامة الإحيائية”، من قبل وزارتي البيئة والزراعة المصريتين، ولم ينظر البرلمان في هذا القانون إلى يومنا هذا، رغم ضرورة ذلك لتنظيم النشاط العلمي والاقتصادي، المتعلق بمجالات الهندسة الوراثية في البلد. وهكذا ما يزال الباحثون ينتظرون منذ عشرين عاما شرعنة الدراسات في مجالهم. لماذا كل هذا التعقيد في كل ما يخص مجال الهندسة الوراثية في الدول العربية؟
يبدو المجال مليئا بالألغاز والأساطير والتابوهات، وكأنه مرتبط بسر الخلق والوجود؛ أو كأن أفلام الخيال العلمي هي ما يوجّه مخيّلة المشرعين والسياسيين العرب، فيما هو فعليا مجال علمي واقتصادي شديد “الواقعية”، والأهمية الاجتماعية في الوقت نفسه، ومليء بالتفاصيل الملحة، التي لم يعد من الممكن تجاهلها.
الحظر المفروض على أبحاث الهندسة الوراثية، وتطبيقاتها، والذي يشبه فرمانا غير مدوّن، لا يقتصر على الجانب السياسي والتشريعي، بل له عوامله الدينية المهمة، حتى وصل الأمر في بعض الأحيان إلى تكفير مزاولي الهندسة الوراثية، ما أصاب بعض الباحثين والعلماء بالخوف، ودفعهم للتنازل عن الدفاع عن أهمية أبحاثهم. فهل تلك الأبحاث تهدد فعلا الدين والأخلاق؟ أم أن منعها، وعدم تنظيمها، جانب من الفوضى التشريعية والاجتماعية التي نعيشها؟
تاريخيا، ظهرت الهندسة الوراثية في فترة السبعينيات من القرن الماضي، وأثارت اهتمام الجمهور، لاسيما في مصر ،عندما قدّم الطبيب والكاتب مصطفى محمود حلقة عن هذا الموضوع، في برنامجه التلفزيوني الشهير “العلم والإيمان”، ,وقد شرح فيها أن الهندسة الوراثية محاولة من قبل الإنسان لتعديل الكائنات الحية، لمكافحة الأمراض، وزيادة إنتاجية بالمحاصيل، ويمكن استخدامها في العلاجات الجينية، وتحقيق إنتاجية مستدامة في صناعة اللحوم ومنتجات الألبان. وبسبب الوفرة التي تؤمّنها، فهي تقلل من تكلفة السلع والمواد الغذائية.
إلا أن الحلقة لم تنته قبل أن يزيّنها محمود بانتقاداته، وتأملاته الدينية والفلسفية، فالهندسة الوراثية “تعديل خلق الله”، وهذا “عبث”. وبما أن برامج مثل “العلم والإيمان”، وشخصيات مثل محمود، كانت النافذة الوحيد آنذاك، بالنسبة لعموم الناس، للتعرّف على ما يجري في العالم، فقد ارتبطت صورة الهندسة الوراثية بالكفر والتجديف والتطاول على الإرادة الإلهية. الغريب أن الصورة لم تختلف كثيرا منذ السبعينات، رغم أن المصادر كلها باتت مفتوحة للجميع، ولم يعد أحد مضطرا للاعتماد على صانعي ثقافة جماهيرية من ذلك النوع.
في مجال التعليم الجامعي، أثّرت الثقافة المجتمعية، القائمة على الأفكار التقليدية والدينية، على نقل المعرفة للطلاب. وعلى الرغم من أن أنظمة الجامعات المصرية تمنع مناقشة الدين والسياسة في قاعات المحاضرات، إلا أن بعض الأساتذة لم يتوقفوا عن مزج العلم بالدين، فكانوا يشرحون الهندسة الوراثية بطريقة صحيحة وموضوعية.، ولكن يستخدمون في نهاية المحاضرة الآية القرآنية “ولآمرنهم فليغيرن خلق الله” (النساء 119) لتحريم استخدام الهندسة الوراثية بشكل عام، وبدون تفصيل. هكذا، وبسلطة النص، زُرع الخوف حتى بين أوساط طلاب البيولوجيا والطب، تجاه أبحاث أساسية في مجالهم.
الجدل الديني، الذي أثارته الهندسة الوراثية، دفع لقعد ندوات ومؤتمرات كثيرة حولها، ولكن ليس لمناقشتها علميا، وإنما للتوصّل إلى الفتوى حول مدى تطابقها مع المفاهيم العقائدية. ومن بين تلك المؤتمرات “مؤتمر الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم”، عام 2018، والذي توصّل إلى أن استخدام الهندسة الوراثية يجب أن يتم وفقا لضوابط شرعية محددة. كما أكد أنه يجوز استخدامها في تحسين وزيادة الإنتاج النباتي والحيواني، إلا أنه لا يمكن العبث بجينات البشر ابدا، وإذا توجّب الأمر للضرورة، يجب أن يتم التدخّل في الإنسان بحذر، وبعد الموافقة الشرعية.
بهذه الطريقة، تم تحقيق بعض الانفراج الديني في استخدام الهندسة الوراثية، على مستوى الكائنات الحية الأقل تعقيدا من الإنسان. وهذا يشير، للمفارقة، أن انفتاح المتدينين على ذلك المجال كان سابقا للسياسيين وصنّاع القرار.
بالنسبة لبعض الوراثيين، تعتبر تقنيات الهندسة الوراثية الكأس المقدسة للبيولوجيا، فهي تقنية علمية تستخدم لتحسين الكائنات الحية، وتلبية احتياجات البشرية. ولا يجب أن يقتصر التعاطي معها على الجدل الديني والأخلاقي، بل أن تقام الندوات والمؤتمرات لتحقيق فهم أفضل لها، والأهم صياغة إطار قانوني واضح لاستخدامها.
في أيلول/سبتمبر 2021، صدرت في الجريدة الرسمية “الوقائع المصرية”، وملحقاتها، اللائحة التنفيذية للقانون رقم 12 لسنة 2020، والتي تمنع زراعة النباتات المعدلة وراثيا، أو تداولها داخل البلاد. ولكن لا توجد مادة واضحة في ذلك القانون، لمنع استيراد الأغذية المعدلة، وبذلك لم يخل السوق المصري من ذلك النوع من الأغذية، وهو ما تأكده ورقة بحثية، نشرها مركز بحوث الهندسة الوراثية التابع لوزارة الزراعة المصرية. ومن بين تلك الأغذية السجق، وفول، الصويا، والفشار، الخ.
لم يخرج وزير الزراعة المصري لتفسير وجود أطعمة تم تعديلها وراثيا في السوق المصري، برغم منع وزارته زرعها أو تداولها، ويبدو أن جميع العينات المأخوذة في البحث كانت منتجات مستوردة من الخارج، لم يُكتب عليها أنها “معدّلة وراثيا-GMO”، وبهذا سُمح بتمريرها، في غياب الرقابة المختصة بسلامة الأغذية. الأخطر أنه بغياب الرقابة يمكن تمرير جينات غير مرغوب فيها إلى الأطعمة التي يتداولها البشر. وهكذا فإن اقتصار التعامل القانوني على المنع والحجب يأتي غالبا بنتائج عكسية، فما يحظره الدين والسياسة قد يتسرّب من الفجوات الواسعة للبيروقراطية المصرية.
من النتائج السلبية المحتملة، لمنع استخدام تقنيات الهندسة الوراثية، حضور تقنيات مضرّة وغير منضبطة، دون القدرة على كشفها، مادام خبراء المجال ممنوعين من تطبيق معارفهم، حتى في المجال الرقابي. إذا كان سبب المنع هو أضرار تلك التقنيات (وهو أمر غير مثبت علميًا) فلماذا يتم تدريسها من الأساس؟
من غير المنطقي أيضا أن يُترك هذا المجال لاجتهادات شخصية لباحثين، يعملون خارج المؤسسات البحثية المنضبطة، وبدون معايير أو رقابة، خاصة أنه بالإمكان إجراء هذا النوع من الأبحاث في المنازل، كما في حالة عالم الوراثة الشهير جو زينر، الذي قام بإجراء تجارب وراثية في مطبخ بيته، وقام بتجارب على نفسه، وعلى كائنات أخرى، ولم يكتف بذلك، بل باع وروّج منتجات تساعد الناس على إجراء تجارب في منازلهم. لأن ذلك، بحسبه، يساعد على “تقليل هرمية مجتمع الدراسات العلمية والبيولوجية”، وعلى “تحدي الرأسمالية”، التي تستغل أصحاب الأمراض الوراثية ماديا، وتجعلهم يدفعون مبالغ طائلة، لنيل الأدوية والمنتجات المرخّصة.
لا يوجد أي سبب يمنع ظهور “قراصنة بيولوجيين”، كما يصف زينر نفسه، في مصر وبقية الدول العربية،
تستورد مصر ما بين 60 إلى 70 بالمئة من احتياجاتها الغذائية، وأصبح أمنها الغذائي مهددا اليوم، خاصة بعد أزمة السكر التي تعاني منها، وهي أزمة باستطاعة الهندسة الوراثية حلها، بعد أن تمكّن الباحثون من تحديد الجينات، التي تستجيب لعمل الإيثيلين، أثناء نضج قصب السكر. كما حددوا أيضا الجينات المشاركة في تنظيم عملية أيض السكروز، وبذلك يمكن زيادة إنتاج قصب السكر.
هذا مثال مهم على دور تلك التقنية في تدشين سياسة زراعية جديدة، في دول هي في أمس الحاجة لذلك، خاصة أنها قد تصل قريبا إلى مرحلة العجز عن الاستيراد، وعندها لن ينفع التعنّت السياسي أو الديني في منع الأزمات الإنسانية والاجتماعية المتوقعة.
أما في مجال التعديل الجيني على الإنسان، وهو أكثر ما يخيف رافضي الهندسة الوراثية، فيمكن بكل بساطة الأخذ بمبادئ الأخلاقيات الطبية المعروفة، لتلافي السلبيات المحتملة. ومن تلك الأخلاقيات أن “لّا تَضُر”، وهي قاعدة تمنع الأطباء من اتخاذ أية إجراءات علاجية ليس لها مبرر طبي؛ أما قاعدة “احترام إرادة المريض” فتمكّن من تقديم كل المعلومات ذات العلاقة لمن يتلقّى العلاج، وعرض حلول تناسب حجم الالم الذي يعاني منه، بدلا من الامتناع عن عدم تقديم أية رعاية أو حلول.
ليست الهندسة الوراثية بالطبع حلا سحريا في أي مجال، ولكنها تقنية مهمة، إلى جانب تقنيات أخرى، لتحسين حياة البشر عموما، خاصة في المجال الاقتصادي والطبي. ومن الطبيعي أن تثير أية تقنية خيالات الناس، ولكن أن يتعامل سياسيون وأكاديميون في عصرنا مع العلم بعقلية برنامج “العلم والإيمان”، فهذا أمر شديد الغرابة.
إصدار قانون ينظّم تقنيات الهندسة الوراثية، ويؤمّن تطبيقها في مجالات متعددة، أفضل بالتأكيد من الاقتصار على الحلول المألوفة إياها، مثل الاقتراض، والمزيد من الاقتراض، وتحميل العبء على الفئات الأضعف، وترك البشر يواجهون شح الموارد، وضعف فعالية الرعاية الطبية، وارتفاع الأسعار، وكذلك الجهل بما قد يقدّمه التطور العلمي من إمكانيات لاستمرار الحياة. والجهل ينتج دائما الفقر والمرض والفوضى.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
مقال رائع يكشف جانب مسكوت عنه كثيرأ وهو بمثابة حجر في الماء الراكد
مقال دسم بالمعلومات المهمه ويفتح الافاق لاشياء كثيره ومستقبل الهندسه الوراثيه