تتنوّع الثقافات الإسلامية الشيعية، على أراضٍ ممتدة من حدود باكستان وافغانستان مع ايران إلى لبنان، وقد تشابكت تاريخيا مع مؤسسة “الحوزة العلمية”، التي تطورت عبر العصور المختلفة، بوظائفها التي لا تقتصر على التعليم الديني، بل كثيرا ما تلعب دور حارس التقاليد، والمحافظ على الهوية الثقافية الفريدة للشيعة.
تحاول الحوزة أن تكون في القلب من حياة المجتمعات والطوائف الشيعية حول العالم، فهي من يقدّم المرجعية المعظّمة، وتُخرّج وتُرخّص الخطباء، الذين يساهمون، من على المنابر، بصناعة تصورات ورؤى الناس. وربما كان التعريف الأفضل للحوزة أنها تجمّع للمدارس الدينية، تعمل وفق تقليد مترسّخ، ولديها صلاحية منح الرتب الدينية.
رغم هذا، يمكن ملاحظة أن النظام داخل هذه المدارس غير مركزي، بالنسبة للطلاب والأستاذة؛ والتعليم يتم في حلقات لا صفوف، فيمكن أن يأتي مَنْ يجد في نفسه القدرة، ليأخذ زاوية ويُدرّس فيها، والطلاب أحرار في الاستماع إليه والالتزام بدروسه. أما مراحل التعليم، فيمكن تقسيمها الى ثلاث: المقدمات، وهي المرحلة التي يتعلّم الطالب فيها المواد المساعدة لفهم الدين، من علوم اللغة والبلاغة والمنطق والفلسفة وغيرها، ممما يسمى “علوم الآلة”، وتمتد هذه المرحلة ما بين ثلاث إلى خمس سنين؛ تليها مرحلة السطوح، وفي هذه المرحلة يتوسّع الطالب بالموضوعات نفسها، مع التعوّد على نمط الاستدلال والانتقاد والتحقيق، وتمتد ما بين أربع إلى ست سنين؛ أما المرحلة الاخيرة فهي البحث الخارج، ويمكن تشبيهها بالدراسات العليا، وفيها يكون الطالب غير مقيّد بكتاب، وإنما يُجري أبحاثه بالاستعانة بعدة مصادر، وبتواصل لصيق مع المجتهدين والمراجع. وهذه المرحلة لا يمكن تقدير زمنها، فهي قد تأخذ سنتين أو العمر كله. وبعد إتمام هذه المراحل، يشهد مرجع معروف بالاجتهاد للطالب، وبأنه قادر على إبداء الرأي والاستنباط. وكل هذا لا يجعل الطالب مرجعا، فنيل رتبة المرجعية يتطلّب كتابة رسالة فقهية مُحكمة.
رتبة المرجعية العليا، الأكثر أهمية وخطورة، والتي تجعل صاحبها الممثل الرسمي للجماعة الدينية، والراسم لمنهج مقلّديه، غير واضحة المعالم، والوصول إليها لا يتم فقط عبر طرق “علمية”، بل وفق عملية معقدة، تتداخل فيها عوامل كثيرة، من السياسة والأوضاع الإقليمية، إلى الاقتصاد، وصولا للاختلافات العرقية. فما الذي يحدث فعلا داخل الحوزة؟ وهل يمكن اعتبارها تكثيفا للشرط السياسي والثقافي العام في المنطقة؟ أم هي “جوهر” المجتمعات الشيعية، لقدرتها الذاتية على رسم أيديولوجيات الدين والدنيا؟
شيطان السياسة: كيف تعاملت الحوزة مع الحُكّام والظُلّام؟
الحوزتان الأكثر شعبية وسلطة في نفوس الناس هما حوزتا النجف في العراق، وقُم في إيران، اللتان يسافر اليهما الطلاب من كل أنحاء العالم . وهذه الشعبية لم تأت دفعة واحدة، وانما تركة تاريخ مليء بالتحديات والأزمات.
حوزة قُم تأسست في النصف الاول من القرن الثاني للهجرة، وبدأ يذيع صيتها في القرنين الثالث والرابع، وكانت تنزع نحو الحفظ وتدارس الاخبار، متأثرة بطابع علوم عصرها، الى أن بدأت تضعف، مع ظهور مدارس الرأي الفقهية في بغداد، في القرن الخامس الهجري. وقد تواصل اضمحلال قُم حتى بعد الضربة الكبرى التي تلقتها بغداد، إثر الغزو المغولي في القرن السابع. إلى أن جاء القرن الثالث عشر، وأعيد أحياؤها على يد الشيخ عبد الكريم الحائري، الذي التحق به عدد من المراجع المهمين، مثل المرجع البروجوردي.
تعرّضت الحوزة للتضييق في فترة نظام الشاه في إيران، وذلك لأسباب سياسية تتعلّق بتحديث البلد، إذ تم تهجير واعتقال أعداد كبيرة من الطلاب والمدرسين فيها، لاعتراضهم على ما سموه “حملة التغريب”، وتقلّصت أعداد المنتسبين للحوزة، إلى درجة أنها لم تتجاوز الخمسمئة شخص، إلى أن اندلعت الثورة الإيرانية، التي استطاع المرجع آية الله الخميني بفضلها الوصول إلى السلطة. وبطبيعة الحال فقد اعتنى الخميني بشدة بالحوزة، واعتبرها عمود شرعيته. فأصبحت قُم، بدعم الدولة الإيرانية، من الحوزات الكبيرة، والمنافسة لحوزة النجف.
الحوزة الأخيرة كانت الأهم دائما، فقد حافظت على مكانتها، منذ تأسيسها في منتصف القرن الخامس، على يد المرجع الأعلى حينها أبي جعفر الطوسي، إلى يومنا هذا. واستمدت سمعتها وشعبيتها من قربها من مرقد الإمام علي بن أبي طالب. وجذبت الطلاب، الذين أرادوا مجاورة الإمام، والتعلّم من المدرسة الأقرب إليه، وكان لهم تأثيرات كبيرة، ليس فقط على الثقافة الدينية الشيعية، بل على ثقافة العراق بأكمله.
كان ما يمكن وصفه بـ”أممية” هذه الحوزة مشكلة كبيرة لها، خاصة مع بروز الأنظمة القومية في العراق، فقد تعرّض الدارسون في النجف، من الجنسيات غير العراقية، إلى تضييق ورقابة شديدة، خاصة في عهد صدام حسين والحرب مع ايران. وقد ازداد الوضع صعوبة بشكل متزايد، لدرجة أن بعض المتدينين طلبوا من المرجع الأعلى أبي القاسم الخوئي مغادرة العراق، حفاظا على نفسه، ولكنه رفض بشكل قاطع، لأن مغادرته ومغادرة طلابه قد تعني نهاية الحوزة. وقد عُرف عنه وقتها القول: “أخشى يقال الطوسي أسس الحوزة، والخوئي هدمها”، وحثّ طلّابه على الصبر، والرباط معه في النجف.
مع الاحتلال الأميركي وزوال حكم صدام حسين، انتهى التضييق على الحوزة، ولكنها وجدت نفسها أمام مسؤولية شديدة الخطورة، وغير معهودة لمرجعياتها وطلابها، وهي التفاوض مع الأميركيين، بعد أن اعتبرها الأخيرون “شريكا تفاوضيا”.
ربما تنوّعت دوافع مشاركة الحوزة، بوصفها مؤسسة، وكذلك مشاركة أساتذتها وطلابها، في السياسة العراقية بعد الاحتلال. إذ كان هنالك بالتأكيد هاجس الحفاظ على الحد الأدنى من التنظيم الاجتماعي والثقافي للمجتمع العراقي بعد انهيار الدولة، إلا أن الأمور تجاوزت ذلك إلى حد بعيد، لدرجة يمكن القول معها إن الحوزة باتت سلطة سياسية، بالمعنى الحديث، وليس فقط مؤسسة دينية وتعليمية، تؤثّر بالسياسة بشكل غير مباشر.
كان للحوزة دور أساسي بتأسيس نظام يرسّخ الطائفية، ويشتت أبناء البلد، ويعطي السلطة لنخبة فاسدة، همّها البقاء بالسلطة، وقد أدى كل هذا إلى بروز أصوات داخلها، تنادي بالعودة إلى التقليد الديني، الرافض للتدخّل المباشر في السياسة الدنيوية. وكانت هذه الأصوات مؤثرة، إلى درجة أن محمد رضا السيستاني، ابن المرجع الأعلى علي السيستاني، رفض مصافحة كل من يعمل في السياسة، وصار التوجه المعلن أن الحوزة ستكتفي بالتوجيه الديني العام للناس، على لسان خطيب الجمعة في الصحن العلوي.
إلا أن الأمور ليست بهذه البساطة، و”شيطان السياسة” الذي خرج من قمقمه، بكل تلك القوة، لا يمكن أن يعود إليه بمجرد قرار، حتى لو كان صادرا من أعلى المرجعيات.
صراع المراجع: حوزة التقليد وحوزة الثورة
يتحدث كثيرون عن المنافسة أو الصراع الخفي بين حوزتي قُم والنجف، ولفهم هذا “الصراع”، إن وجد حقا، فلابد من مناقشة المعالم التاريخية والسياسية العامة، التي شكّلت كل حوزة منها. بالنسبة لحوزة قُم فهي متشابكة مع النشاط السياسي بشكل مباشر وغير مباشر، بسبب ارتباطها بنظام الجمهورية الإسلامية الايرانية، وتسيطر عليها نزعة الإسلام السياسي الحركي. وهذا نراه واضحا في موقفها المؤيد لولاية الفقيه، وما يتبعه من تنظير سياسي/ديني، ضروري لإعطاء شرعية لسياسات الدولة. ما يجعل عمل حوزة قم أيديولوجيا بكل معنى الكلمة، ويجعلها نفسها جهازا أيديولوجيا بالمفهوم الحديث.
أما بالنسبة لحوزة النجف، فقد كانت محافظة أكثر، وابتعدت عن الأجواء “الثورية”، تمسّكا بتقاليدها وقداستها، مع التركيز على دور العلماء الإرشادي والروحي، وبالتالي امتنعت عن اتخاذ موقف واضح حول علاقة الدين بالدولة، فلا هي من أنصار دمج الدين بالدولة، ولا فصلهما، لأن كل هذه طروحات سياسية، ذات سمة “معلمنة” في آخر المطاف.
هذا الفرق في المنظور يوضّح الأساس الفكري للتنافس بين حوزة ثورية-حداثية وأخرى تقليدية، ويمكن ملاحظة أول صدام واضح بين المنهجين، أيام تواجد آية الله الخميني في النجف، بعد أن هجر إيران هربا من الشاه، وقد طلب وقتها لقاء محسن الحكيم، المرجع الأعلى لحوزة النجف، إلا أن الأخير رفض، إلى أن توسّط لديه جمع من المقرّبين، فتمّت المقابلة. وقد نقل حسن شبر في كتابه “سنوات الضياع”، وهو مؤرخ عراقي وأحد مؤسسي “حزب الدعوة”، المؤيد لولاية الفقيه، بعض تفاصيلها، فقد حاول الخميني إقناع الحكيم بإصدار فتوى تحضّ على الثورة في ايران، ولكن الحكيم أبى، فاستشهد الخميني بسيرة الإمام الحسين، الثائر على الظلم، ليرد عليه الحكيم بسيرة الإمام الحسن، الأخ الأكبر، وما مثّله من منهج إصلاحي محافظ، ورافض للصدام مع السلطة، وشق صفوف الأمة. استمر الخلاف بين الرجلين فيما بعد، لدرجة أن الكاتب الكويتي عبد الله النفيسي ادعى أن الحكيم نصحه بعدم مقابلة الخيمني أبدا.
رغم كل هذا فإن ثنائية ثورة/تقليد لا يمكن لوحدها أن تفسّر الاختلاف بين الحوزتين، فمن الصعب القول إن مرجعية النجف قادرة فعلا على الحفاظ على “تقليد” قروسطي صافٍ، في الشرط الحديث الذي تعيشه كل الدول والمجتمعات، وهي تتخذ بالتأكيد موقفا سياسيا، يمكن مقارنته بموقف بعض الكنائس المعاصرة في الغرب، ذات العلاقة المعقدة مع سلطات الدولة، والميل لدعم السياسيين المحافظين، والحفاظ على الهوية. مع فرق أساسي، وهو أن حوزة النجف تعلم جيدا أن بإمكانها في أية لحظة، ولدى وقوع أية أزمة، أن تلعب دورا سياسيا بارزا وقياديا. وهذا ما حدث بالفعل عندما أصدر الإمام السيستاني فتوى “الجهاد الكفائي”، التي أدت لتأسيس “الحشد الشعبي”، أيام الحرب مع داعش. ومن الواضح أن حوزة النجف مرتاحة لهذا الوضع إلى حد كبير، فهو يجعلها فعليا تلعب دورا سياسيا أكثر استقلالا وتحررا من مرجعية قُم، الخاضعة بالنهاية لقرارات ورؤى السلطات الدنيوية في الدولة الإيرانية.
كل هذه التوازنات المعقدة يحفظها المراجع الكبار، وعلى رأسهم السيستاني، فهل يمكن أن تتغير مع تغيّر المرجعيات؟
العليم والأعلم: ماذا لو مات “آية الله”؟
ما هو معلن حول اختيار المرجعية العليا في الحوزات غامض إلى حد بعيد، يُقال عادة إن الاختيار يتم على أساس “تفضيل الأعلم”، وهي عبارة غير محددة المعنى على الإطلاق. مَنْ يحق له تحديد الأعلم فعلا؟ هذا السؤال يؤدي إلى تناقض منطقي: من يحدد الأعلم هو بالتأكيد أكثر علما منه، وبالتالي سيكون هو الأعلم الحقيقي. ولذلك لا يمكن أن يحدد الأعلم إلا ذات الأعلم نفسها. هنالك مشكلة أخرى: هل الأعلم هو الأعلم اليوم أم غدا؟ على اعتبار أن علم البشر يتغيّر مع الزمن، فماذا إذا برز شخص أعلم من المرجعية الكبرى، وأثبت ذلك بطريقة ما، هل سيصل علم المرجعية عندها إلى حد إدراك أن هنالك من هو أعلم منها؟
هناك محاولات كثيرة لتأطير العملية بشكل ديني ومؤسساتي، والإجابة عن الأسئلة الإشكالية السابقة، وكلها باءت بالفشل عمليا، وانتهى الموضوع إلى تعيين المرجعية العليا عبر حشد اعتراف الأقران من رجال الدين.
هذا الغموض العقائدي والمؤسسي أتاح دائما تدخّل عوامل كثيرة في تعيين المرجعية، لا علاقة لها فعليا بالدين نفسه. المرجع الأعلى ببساطة هو من يستطيع امتلاك القوة الأكبر بين أقرانه، ودفعهم للاعتراف به. وكثيرا ما نرى مرجعا، لديه من القوة والنفوذ ما يمكّنه من إرسال ممثلين له إلى مناطق عدة، وفتح مكاتب تعتني بتراثه ودراساته، وتعمل على نشر كتبه وتحقيقاته، ما يؤكد من جديد استحالة فصل الحوزة عن السياسة الحديثة.
هناك عامل مهم أيضا، وغريب بعض الشيء، في موضوع المرجعية، وهي أن المرجع الأعلى لا بد أن يحمل الجنسية الإيرانية، وسبب هذا أن قدرا كبيرا من الأموال، التي تُعطى للمرجعية بصفة تبرعات، أو ما يسمى “حقوقا شرعية” (خمس وزكاة)، تأتي من “بازار مروى”، وهو سوق قديم وكبير في طهران، وقد حصل نوع من التوافق التاريخي الضمني بين الحوزة والسوق، وكأن شرط وصول الأموال للمرجعية هو أن يكون على رأسها رجل فارسي.
يجب التنويه أن كل هذه العوامل مستنبطة من الممارسات الواقعية للحوزات، ولا أحد يُقرّها بشكل واضح ومعلن ومدوّن، وبالتالي فيمكن في أي وقت خرق التقليد، وبروز مرجعية لا يتوقّعها أحد.
تعتبر مرجعية النجف أن التدخل المباشر في السياسة مخالفة، تؤدي إلى حرمان أي مجتهد من المطالبة بلقب المرجعية العليا، إلا أن هذا لا معنى له فعليا، ولذلك فإن الحوزة، بوصفها مؤسسة، ستظل في قلب السياسة المعاصرة، بكل توتراتها الاجتماعية والاقتصادية والعرقية، ويبدو أن السلطة السياسية الهائلة للحوزات لن يمكن ضبطها إلا بواحدة من طريقتين: إما سيطرة “الثورة” على الحوزة، وإدماجها في حركيتها، كما في حالة إيران؛ أو بروز دولة وقوى اجتماعية، تضع حدودا صارمة بين السياسة والحوزة، وهو أمر يبدو متعذرا في الشرط الحالي للمنطقة.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.