ماذا تتوقّع عندما تدخل فيلما يحمل توقيع أسامة أنور عكاشة وخالد يوسف؟ هل هو فيلم آخر عن الهوية، و”ولاد البلد الجدعان”، والحارة المصرية، و”الانفتاح”؟ قد يظن المشاهدون أن سيجدون خليطا من كل هذا، مع بعض الإغراء والجنس والفقر والبؤس والصراخ السياسي. ولكن في فيلم “الإسكندراني”، الذي حمل توقيع الاثنين معا، لن تجد أيا من تلك الأمور، في المقابل يوجد مزج غريب بين صور، يصعب فهم دلالتها ومرجعياتها وسمتها الجمالية، وكثير من “شبح” خالد يوسف، المقبل من عصر مبارك، إلى عصر آخر أكثر دكتاتورية.
تدور أحداث فيلم “الإسكندراني” في مدينة الإسكندرية طبعا، وهي المدينة المفضّلة لدى عكاشة، وقد أهدى خالد يوسف الفيلم إلى روح عاشق آخر للمدينة، هو المخرج الراحل يوسف شاهين. ونرى في الفيلم شخصية “بكر” (أحمد العوضي)، وصراعه مع والده “الحاج علي” (بيومي فؤاد) وابن عمه “يونس” (محمود حافظ)، والسبب هو التنافس بين بكر ويونس حول الفوز برضى الحاج علي، وقلب الفتاة الجميلة “قمر” (زينة)، ورغم حب قمر لبكر، إلا أن يونس يستطيع الزواج منها، وينجب طفلا، يمنحه اسم علي، لكي يتودّد لعمه أكثر أثناء غياب بكر، ما يدفع الأخير للانتقام.
أمام هذه الحبكة، التي تصلح لأي شيء، من أفلام الأبيض والأسود وحتى المسلسلات الميلودرامية المعاصرة، يتساءل المشاهد: هل زمن عكاشة، الذي كُتب فيه النص، والزمن الذي كان فيه خالد يوسف نجما، ما يزالان يصلحان لإنتاج أفلام جماهيرية عن “الهوية”؟ ولماذا بات هذا الموضوع مثيرا لكثير من الملل وخيبة الأمل لدى المتلقين حاليا؟ هل وجدنا هويتنا بدون الحاجة لـ”الإسكندراني”، أم أن المسألة باتت مبتذلة في عصرنا، لدرجة لا تطاق فعلا؟
هوية عكاشة: كيف انتقلنا من فضة المعداوي إلى بكر الإسكندراني؟
لكل مبدع فكرة أو أزمة أو حالة ما تشغله، وكانت الهوية المصرية أكثر ما شغل أسامة أنور عكاشة في أعماله، مثل مسلسل “الراية البيضا”، والذي مثّل الصراع بين القبح والجمال؛ وبين الثراء الفاحش، المبني على الجهل، والثقافة والتحضّر، مستخدما رمز “فيلا مفيد أبو الغار”، التي تريد شخصية “فضة المعداوي” إزالتها، بكل ما تملكه من فساد ونفوذ ومال؛ وكذلك في أعمال مثل “زيزينيا” و”عفاريت السيالة”، والرابط بينهم جميعا مدينة الإسكندرية. لا يعني هذا أن عكاشة لم يتناول القاهرة أيضا، في “ليالي الحلمية” و”أرابيسك”، وهما من أشهر أعماله التلفزيونية، وكذلك فيلم “الباب الأخضر”، الذي ظهر بعد وفاته عام 2022، ولم يلق نجاحا كبيرا، وهي عموما أعمال يهتم فيها أيضا بقضايا مثل الأصالة في وجه المعاصرة و”التقاليد المستوردة” في بدايات الألفية؛ والتناقض بين الانفتاح والأفكار القومية.
ربما كان هاجس عكاشة بالهوية والقومية، والنصر والهزيمة، طبيعيا بعد عامي 1967 و1973، اللذين شهدا حروب مصر الأهم، فعكاشة بالنهاية ابن الجيل الذي ولد في خضم حلم، كان يرسمه الرئيس جمال عبدالناصر ورفاقه، بعد ثورتهم عام 1952، ولكنّ وعيه تفتّح على الهزيمة المُرة عام 1967، ثم سنوات حرب الاستنزاف، وما تلاها من عصر الانفتاح، على يد نظام الرئيس أنور السادات. من الطبيعي أن كل هذه التقلّبات، التي عاشها عكاشة وجيله، ستؤثّر فيه، وتترك تساؤلاتها على شخصيته، وتشغل تفكيره عن مصر وتحولات هويتها، بتغيّر الأنظمة.
كان عكاشة عادة يلجأ إلى الشخصيات “الشعبية”، للتعبير عن الأصالة؛ والشخصيات المثقّفة للتعبير عن القيمة والفكر. فيما الشخصيات “السوقية” هي التي تمثّل عصر الانفتاح؛ وإلى جانبها الأثرياء المترفون، الذي بنوا ثرواتهم الطائلة بأساليب ملتوية، لا تشمل الصناعات الداعمة لاقتصاد الدولة، وإنما يبتعدون عمدا عن التصنيع والاقتصاد الحقيقي، ويلجؤون إلى الاستيراد والأعمال المشبوهة، ليكونوا نموذجا لكل ما يريد عكاشة تجسيده من تهديدات، تضّر بمصر في وجهة نظره. وفي هذه السياقات كان المسؤولون الحكوميون متواجدين طبعا، ولهم نوعان: نوع داعم للأصالة والهوية؛ والآخر متراخٍ أمام الفساد. قد يبدو هذا عرضا مبسّطا لفن/أيديولوجيا عكاشة. ولكن هل تحمل أعماله ما هو أعقد من هذا حقا؟
بالتأكيد لم تكن الشخصيات، التي قدمها عكاشة، مسطّحة، بل فيها كثير من الأبعاد، من “حسن أرابيسك”، الذي يجمع بين “الجدعنة” والكسل؛ اللامبالاة القاتلة والمسؤولية الاجتماعية الفائقة؛ الحنان والسلطوية (ربما نسخة شعبية عن جمال عبد الناصر)، وحتى “علي البدري” في “ليالي الحلمية”، الذي تحوّل لرجل أعمال رأسمالي متوحّش، بعد أن كان صاحب ماضٍ سياسي، بدأه بالحلم مع نظام عبد الناصر، ثم اصطدم بالسلطة وتعرّض للاعتقال، ما أدى لضياع أحلامه، وتماشيه مع “العصر”؛ أما “فضة المعداوي”، الرمز الأبرز في دراما عكاشة للقبح والعشوائية، فقد كانت سيدة فقيرة، صارعت الرجال في الميناء، حتى استطاعت السيطرة على سوق السمك، وأصبحت صاحبة أكبر تجارة في المنطقة، فتعلّمت أن تهزم الجميع بمالها ودهائها، ولذلك كان “أبو الغار” بالنسبة لها لغزا، لرفضه بيع الفيلا (الحضارة المصرية الراسخة، التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة). هكذا كانت الشخصيات لدى عكاشة، حتى جاء فيلم الإسكندراني، الذي وصفه خالد يوسف بأنه امتزاج بين رؤيته ورؤية الكاتب.
مظاهرة يوسف: هل كان الشرط الفني أفضل في أيام مبارك؟
شخصية “بكر الإسكندراني”، التي قدمها يوسف في فيلمه، تبدو محاكاة ساخرة لشخصيات عكاشة نفسها، ذات الرمزيات المباشرة والأيديولوجيا الواضحة. من المفترض أن “بكر” يمثّل الرمز المضاد للهوية في مدينة الإسكندرية، إذ تأسس الصراع في العمل بناء على كرهه لوالده، وهذا الجانب الدرامي في الفيلم مسيطر على الأحداث في كل مستويات التلقي، مع اللجوء لعبارات مباشرة عن الهوية، وتغيّر شكل الإسكندرية، في مشاهد فرعية ظهرت في الربع الأخير من العمل، وذلك عندما قرر بكر شراء كافة المحلات المحيطة بوكالة والده، ولم يكن ذلك بدافع التغيير، أو الصراع مع الأب على هوية المكان، وإنما بدافع الانتقام البحت، لأن والده زوّج حبيبته قمر إلى غريمه يونس؛ فحقّق شعور الانتصار على الأب، الذي تسبب بإهانة الابن أمام الجميع.
نجح خالد يوسف في المستوى الأول للفيلم، أي البناء الدرامي، الذي تدور الأحداث في إطارهِ، لطرح القضية التي يهدف عكاشة لمعالجتها، ولكن هذا البناء وتلك القضية خلقا مستوىً واحدا مسطّحا للشخصيات، وجعلا متابعة العمل ثقيلة على المتلقي, ما يطرح سؤالا: أين خالد يوسف، بصراخه السياسي المثير، الذي عهدناه في الأفلام التي صنعت نجوميته في عهد نظام مبارك؟ هل تغيّر أداؤه الفني، أم نحن من تغيّرنا؟
اعتاد المشاهدون، في السنوات التي كان خالد يوسف نشطا فيها، على نوع من السينما، يشبه المظاهرات الممتلئة بالصراخ، فيه نقد مباشر ولاذع وقوي، وشخصيات مرتبطة بالسياسة بدرجات متفاوتة، فضلا عن كثير من “المشاهد الجريئة” (وفق الوصف الموضوع للمشاهد الجنسية في المجتمعات العربية)، وهي “خلطة” كانت مضمونة النجاح. لن تجد هذه الخلطة في الفيلم الجديد، أو ربما ستجدها، ولكن بطعم باهت جدا.
الإسكندرية التي كتب عنها عكاشة في النص الأصلي، تغيّر شكلها، وهُدمت كثير من ملامحها. أصبحنا نرى أماكن مخصصة لإيقاف السيارات على الشاطئ، ولا نرى البحر إلا عبر ظلال وانعكاسات أنوار المقاهي والمطاعم الفخمة، فضلا عن سور حديدي مرتفع يحيط بالبحر. ووفقا للدكتور محمد عوض، الرئيس السابق لـ”لجنة الأمانة الفنية للجنة الدائمة للحفاظ على التراث”، فإن الإسكندرية تتعرّض لمذبحة في القصور والفيلات الأثرية والتاريخية، التي تتميّز بالتراث المعماري والنسق التاريخي والحضاري الخاص؛ فيما يرى أحمد عبد الفتاح، عضو اللجنة نفسها، ومستشار المجلس الأعلى للآثار، أن الإسكندرية، التي تضمّ أكثر من ثلاثمئة قصر وفيلا أثرية، لم تحصل على المقدار الكافي من الرعاية والاهتمام. وأشار إلى أن منطقة مثل “كفر عبده” وحدها، تضم نحو ثمانين قصرا وفيلا أثرية وتاريخية. وقد طالب عبد الفتاح بوقف التعديات، من خلال إصدار تشريع سريع، يقضى بتجريم هدم الفيلات والقصور الأثرية. ربما يذكّر كل هذا بـ”فضة المعداوي”، والفيلا التي تريد هدمها في “الراية البيضا”، إلا أن المعالجة التي يقدمها الفيلم لا تبدو بحجم انتهاك المدينة، وبالتأكيد ليست المشكلة في أب ظالم يملك وكالة، أو في مجرد هوية ضائعة للمكان نتيجة الحداثة والتحديث، بل في سياسات ممنهجة، ربما تتطلّب ما هو أكثر من الانتقادات المهذّبة القديمة لأبناء دولة يونيو.
لا ينجح يوسف في هذا العصر في تنظيم “مظاهرة فنية” ضد الحكومة، كما أنه غير مقنع حتى في تقديم خطاب مباشر على طريقة عكاشة، ربما لأنه يلجأ إلى أيديولوجيا ماضٍ خلى، للحديث عن واقع صار بحاجة إلى لغة ومنظورات جديدة كلّيا.
ضياع الطريقة: لماذا يخلو فيلم يوسف من “المشاهد الجريئة”؟
لا أحد بالتأكيد يطالب خالد يوسف بتقديم خطاب معارض مباشر، ولكن النقد هنا على أساس ادعاءاته هو، بأنه سيقدّم عملا عن ضياع هوية الإسكندرية. كما لم ينجح في تكوين مستويات تلقٍ مختلفة، يستطيع المشاهد من خلالها الوصول لقضية الهوية بكل تعقيدها، التي من المفترض أنها صُلب الفيلم، كما أكد يوسف.
من الملاحظ أيضا ابتعاد المخرج عن المشاهد “الجريئة”، لأن ذلك غير ملائم مطلقا لسياسات الرقابة في مصر حاليا، فكان الفيلم شديد الحذر، كما يظهر مثلا في مشهد بين تسنيم ماهر وأحمد العوضي، من المفترض أن أحداثه تتضمّن علاقة جنسية غير رضائية بينهما، فاكتفى المخرج بعناق هادئ، مع قطع سريع، وانتقال إلى ما بعد العلاقة، فنرى الفتاة ترتدي ملابسها كاملة، وتجلس بعيدا، بينما العوضي نائم، وتوجد بقعة حمراء على السرير. رمزية المشهد تبدو ساذجة، بالمقارنة مع مشاهد خالد يوسف، التي صنعها لسمية الخشاب، أو غادة عبد الرازق، أو غيرهن من الممثلات، في أفلام أٌنتجت خلال فترات سابقة.
لا يوجد ما هو “جريء” في الفيلم، لا سياسيا ولا جنسيا، حتى بالمعايير المصرية في عصر حسني مبارك. أما “البحث عن الهوية” فيبدو أشبه بكليشيه فاقد الدلالة، ليس لأن سؤال الهوية لم يعد مهما في مصر، أو أي بلد آخر، بل لأن القوى التي تصنع هوية البلد المعاصرة، سواء كانت سياسية أو دينية أو قومية، لم تعد تريد أي نوع من الجدل، حتى على طريقة عكاشة ويوسف العتيقة. وبالتالي فالفيلم يحوي خطابا عن الهوية، فاقدا لهويته نفسها. وقد يكون هذا أمرا مشتركا بين كل خطابات الهوية المصرية والعربية المعاصرة.
من النافل الحديث عن بقية عناصر الفيلم، فرغم إشادة بعض النقاد بابتعاد المخرج عن الحوارات والمونولوجات الطويلة؛ وكذلك بأداء بعض الممثلين (الذين يراهم آخرون مادة مناسبة لـ”الميمز”) إلا أن كل هذا لا يمكن أن يعطي قيمة مضافة لفيلم عنوانه المباشرة، ولكنه فاشل فيها.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.