اللورد والمُسلّح: هل السودان “قضية العرب المركزية” الفعلية؟

اللورد والمُسلّح: هل السودان “قضية العرب المركزية” الفعلية؟

في التاسع عشر من كانون الأول/ديسمبر من عام 2018، اندلعت موجة احتجاجات في مدن السودان، تحت شعار “يسقط بس”، بقيادة “تجمّع المهنيين السودانيين”، أدت إلى الإطاحة بالرئيس عمر البشير، عن طريق الجيش السوداني، في الحادي عشر من نيسان/أبريل 2019. وصُنّفت الاحتجاجات السودانية عموما ضمن ما عُرف بـ”الموجة الثانية للربيع العربي”، إلى جانب احتجاجات العراق والجزائر ولبنان.

ورغم كل التفاؤل، الذي أثارته تلك الاحتجاجات، إلا أن “الربيع السوداني” على ما يبدو لم يأت بجديد، لا في تاريخ السودان الحديث، ولا في مآلات “الربيع العربي”، إذ وصلت الثورة إلى فترة انتقالية، متفق عليها بين التيار المدني وحكومته؛ و”المجلس السيادي” بقيادة عبد الفتاح البرهان، ونائبه الشهير بـ”حميدتي”، قائد ميليشيا “الدعم السريع”، المتورطة بعمليات إبادة وتطهير عرقي. وبعد كثير من الاضطرابات وعدم الاستقرار، عُزلت الحكومة المدنية، برئاسة عبد الله حمدوك، في تشرين الأول/أكتوبر 2021، ونشب نزاع مسلّح بين البرهان وحميدتي، في الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023، ما يزال مستمرا حتى الآن، ودخل السودان معه في نفق الحرب الأهلية المظلم، التي وضعت الأهالي والمجتمع والدولة أمام مصير التمزّق والإنهيار والدمار والقتل والنهب والنزوح والاغتصاب.

لا حاجة إلى القول إذن إن خيبات الربيع العربي ليست مجرد لحظة تاريخية راهنة وطارئة، مرتبطة بهذا البلد أو ذاك، بل تبدو أشبه بشرط عام، ينتقل بسرعة من الاحتجاج الشعبي و”المدني” إلى الأسلمة، ومن ثم الميليشياوية والحرب الأهلية، وتدخل المجتمعات بعدها في دائرة مفرغة من الصراعات العبثية. لدرجة يبدو معها أن أي دولة، تستطيع الحفاظ على نفسها في المنطقة، وحتى لو كانت سياساتها قائمة على القمع والإفقار، ستعتبر جنة، بالمقارنة مع دوائر “الربيع” المفرغة، ومهما كانت الثورات مبشّرة وساطعة في البداية.

يلقى الحدث السوداني تهميشا إعلاميا واضحا، ربما لأن السودان اعتبر دائما “جنوب الجنوب العربي”، أي منطقة لا تُعدّ مركزية في خطابات الهوية والقومية السائدة، إلا أن السودان، وهو من أعرق وأغنى الدول في المنطقة، يمكن اعتباره مثالا مهما لانهيار نموذج الدولة العربية، وكل مشاريع التغيير فيها، وربما كانت “السودنة” هي المصير، الذي يهدد به ما تبقى من دول ومنظومات في المنطقة. لذلك فلا بد من طرح أسئلة كثيرة حول السودان: كيف نشأت تلك الأمة الحديثة؟ ولماذا انهارت بهذه الطريقة، بين مركز وهوامش، جيش وميليشيات؟ ولماذا نحن جميعا سودانيون بشكل أو بآخر؟  

الوصاية المزدوجة: كيف صار لورد لوغارد الأب الروحي للسودان؟

لم تعرف الحدود السودانية الحالية حكما مركزيا داخليا، مثل الشمال المصري، حتى في فترة حضارة كوش القديمة، التي تمركزت في مناطق النوبة، فكانت منطقة السودان، أو لنقل “السودانات”، مكوّنة من أقاليم وممالك متعددة على مر التاريخ، وصولا لمعاهدة “البقط” السياسية والتجارية عام 651، بين مصر الإسلامية ومملكة “المقرة” المسيحية في السودان. ومع أن ممالك السودان ظلت عصية لفترة طويلة على الفتح الإسلامي، فقد كان التوطين القبلي العربي سابقا على التوسّع الحربي، إذ اندمجت بعض القبائل العربية الرحّل مع القبائل السودانية المحلية، في ظل إدارة أهلية عرفيّة، كانت تحلّ مسائل النزاع القبلي والإثني وفقا لتقاليد مترسّخة. ومع نشأة السودان الحديث، بدأت الصراعات تنفجر بطريقة يصعب احتواؤها. فكيف أسهمت الدولة والمجتمع المدني السوداني الحديث في تصاعد النزاعات المسلّحة إلى هذا الحد؟

كانت السودان متعدد الإثنيات بشكل كبير  تحت النفوذ العثماني، الذي قسّم المنطقة فعليا إلى ثلاثة أقاليم: سلطنة سنار (الفونج) وسلطنة دارفور في الشمال، وإقليم الجنوب المضطرب دائما. وقد ظهرت بوادر نشأة الدولة السودانية الحديثة، مع الحركة الاستعمارية، بداية من الوالي المصري محمد علي، الذي غزا النوبة وسلطنة الفونج وجنوب السودان، ومعه بالطبع عانت تلك الأقاليم السودانية من الضرائب الباهظة، والبطش، وتصعيد تجارة العبيد، والتمرّدات، لكن في الآن نفسه، أدت نماذج الحداثة المصرية إلى تطوير البنية التحتية والحياة الثقافية لمدن السودان المركزية.

يمكن القول إن مشاعر التحرر الوطني نمت في تلك الفترة، إذ يرى بعض الباحثين أن الثورة المهدية الدينية عام 1881، والتي أجلت الإستعمار التركي-المصري، كانت أولى حركات التحرر الوطني السوداني. كما أنها عملت على نشر روابط أعلى من الاعتبارات القبلية، عبر الطرق الصوفية، المتجاوزة للعشائر والعائلات.

ومع قدوم الإستعمار الأنجلو–مصري، الذي وطّد نفوذه عام 1899، وقضى على دولة المهديين، نشأت بيروقراطية متعلّمة في شمال السودان، معظمها يجيد العربية الحديثة والإنجليزية بطلاقة، وتصرّفت بنزعة أبوية تجاه بقية السودانيين؛ أما في الجنوب فقد ظهرت نخبة من العسكريين المتقاعدين، الذين أُطلق عليهم لقب “بارونات المستنقع”، وظهرت بينهم نزعات انفصالية كامنة، فقد رفضوا تعلّم العربية، لمصلحة نشر اللغات الافريقية المحلية، الأمر الذي عززه إيقاف الانجليز للتوسّع العربي التجاري والثقافي، والسماح بالمقابل بالتبشير المسيحي، وتسهيل ازدهار تجارة الجاليات الأجنبية. رغم كل هذا ظل الجنوب طرفا تابعا ومهمشا وفقيرا، تحت هيمنة الشمال، ذي النزعة المصرية-العربية والإسلامية، المتفاعلة مع النفوذ البريطاني.

وعلى الرغم من دخول البنية القانونية الحديثة مع الاستعمار، إلا أن البريطانيين أبقوا على حكم محلي لحماية مصالحهم، وفق نظرية “الوصاية المزدوجة” (استعمار أجنبي ووكلاء محليين محافظين) التي بشّر بها الحاكم الاستعماري البريطاني الشهير لورد لوغارد، الذي كان حاكما على نيجيريا. وهكذا قنّن الاستعمار البريطاني-المصري الإدارة الأهلية القبلية التقليدية، وإضافة لسلطة شيوخ البدو، جاء مرسوم 1927 ليمنح السلطة الإدارية لشيوخ المجتمعات الزراعية، مما عزز حكم الجماعات العرقية، المنفصلة عن إدارات الأقاليم. وفي الجنوب أنشأ البريطانيون المحاكم العشائرية، لإضفاء شرعية على سلطة رؤساء القبائل.

في تلك الفترة، كان الحس الوطني السوداني في أوج تبلوره في المدن الرئيسية، خاصة مع حركات التمرد عام 1924، حين انطلقت مسيرات في الخرطوم، كما أضرب طلاب المدارس الحربية. والملاحظ أن الحركة الوطنية السودانية قامت على أساس الإرث الإستعماري، سواء التقسيم الجغرافي، ورسم الثقافة أنثروبولوجيا من طرف بريطانيا؛ أو هيمنة مصر الملكية، وتأثيرها على تشكيل الثقافة السودانية الشمالية، عبر اللغة والتعليم والصحافة والكتب والمسرح والفن والرياضة.

تشكّلت الحياة السياسية السودانية الحديثة مع نيل الاستقلال وتقرير المصير عام 1956، ونشأ مفهوم الأمة السودانية، تبعا لهيمنة العاصمة ومدن المركز، بينما أخذت الأحزاب تتنافس على أرضية الصراع بين التقليد والحداثة، وغالبا ما اعتمدت القوى الوطنية السودانية على شعبية الطوائف الدينية، لذلك كانت السيطرة السياسية متوزّعة بين “الحزب الوطني الاتحادي”، الذي يرتبط بعائلة “الميرغني”، والطريقة الصوفية “الختمية”؛ وبين حزب “الأمة”، الذي ارتبط بعائلة المهدي، وطريقة “الأنصار” الصوفية؛ بينما مالت نخب علمانية، وأخرى إسلامية حداثية، إلى التوافق مع الجيش، لفرض التحديث من أعلى.

يبدو هنا أن تاريخ السودان الحديث بعد الاستقلال، نشأ على أساس تسويف أزمة هويات الأقاليم والإثنيات، وعمد إلى مركزية عربية إقصائية، مراكزها في مدن الوسط السوداني، ولذلك تصاعدت التوترات مع جنوب السودان، الساعي إلى الحكم الكونفدرالي أو الانفصال. فسار تشكّل مفهوم الهوية والأمة في ظل أوضاع مضطربة ومؤرقة، وظل السؤال حول “الأمة” حائرا: عربية أم اسلامية أم وطنية علمانية أم افريقية أم مسيحية أنجلوساكسونية؟

هكذا تعمقت الفجوة في بنية الدولة والمجتمع، عبر التنافر بين مكونين في الأمة المتخيلة: المدينة وإدارتها البيروقراطية، ذات النزعة العربية الإسلامية؛ والريف وإدارته الأهلية القبلية، المليء بما لا نهاية له من النزعات. لكن كيف تعاملت أنظمة الحكم المتتابعة مع تلك الفجوة، ولماذا تحوّلت النزاعات القبلية لحروب أهلية وسياسية؟

الإدارة الأهلية والحواكير: لماذا يبدو الولاء القومي مستحيلا في السودان؟

ما يلاحظ على مدار تاريخ الدولة السودانية الحديثة، أن الدورة السياسية تجري بما يشبه الوتيرة الثابتة، لكن بأيديولوجات مختلفة، ويبدو أن أي عقد لم يخل من الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة. تبدأ الدورة بتأسيس الجمهورية عبر حكومة مدنية، لا تدوم طويلا، فيسقطها انقلاب عسكري، ثم تندلع ثورة شعبية بقيادة نقابية وطلابية، لتتولى حكومة مدنية السلطة، ولكنها لا تستمر كثيرا، فتسقط بانقلاب عسكري… وهكذا دواليك حتى الآن.

لا تكمن مشكلة السودان في الإرث الاستعماري، أو استغلال الشركات العالمية والإقليمية لموارده، والحرب بالوكالة، وغيرها من الطروحات المعروفة، إنما يتسع التفسير بعيدا عن المؤامرة الإستعمارية للتقسيم، حين نرصد أزمة بنية الدولة منذ نشأتها، وعلاقتها بالمجتمع أيضا.

قامت الدولة السودانية على إرث معقد وشديد التباين من القبلية والإثنية والجهوية، ومثّلت التعددية مشكلة في منظور الوطنيين، الذين أرادوا صهر وإدماج الجميع في بنيان واحد، قائم على الولاء القومي. إلا أن كل السياسيات التنموية والإدارية، التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة، لم تؤد يوما إلى “الولاء القومي”، بل إلى مزيد من تعميق الهوة، وخلق أزمات أكبر.

يعتمد الاقتصاد السوداني على الزراعة بشكل أساسي، إذ يعمل غالبية السكان بالفلاحة والرعي، وظل الاقتصاد القومي يعتمد على السوق العالمي، لشراء المواد الأولية، وأدوات الزراعة والصناعة؛ ومن جهة أخرى ارتكزت مشاريع الاستثمار والتنمية الكبرى في وسط السودان، وخاصة في مثلث “الخرطوم – كسلا – كوستي”، فأدت مركزية الوسط السوداني إلى التهميش السياسي والاقتصادي، وفرض التبعية على الأطراف. وهكذا كان على جميع السودانيين أن يكونوا وطنيين، ويرفضوا المؤامرات الخارجية، في الوقت الذي لا تهتم حكومتهم المركزية بشؤونهم، وتستورد كل الأساسيات من الخارج. هذه المعادلة الغريبة لم تقنع أحدا، وساهمت دائما بتفجير الأوضاع في البلد.

بؤرة النزاعات، التي تبلورت يوما بعد يوم، كانت نتاج فشل التحديث السوداني، فيما يخص مفهوم الولاء القبلي، وملكية الأرض، وبالتالي التمثيل السياسي. فقد اعتمد الريف القبلي السوداني فيما مضى على العرف، لحل المشاكل حول الأرض والموارد، ولكن منذ تقنين الإدارة الأهلية، التي ورثتها الدولة السودانية الناشئة عن الاستعمار،  حدث كثير من التخبّط في إدارة النزاعات، ولجأت فئات وهويات معينة إلى الاستعانة بجهاز الدولة الحديثة، لفرض هيمنتها على الآخرين، وسلبهم حقوقهم، التي سبق أن كفلها لهم العرف القبلي.

يتكوّن نظام الإدارة الأهلية من درجات، تبدأ من أسفل بـ “المشايخ”، ثم في الوسط “العمد”، وصولا إلى “النظّار”، وهم السلطة الأعلى في الإدارة الأهلية لــ”الدار” أو “الحاكورة”، والأخيرة تمثّل قطعة أرض محتكرة، تحت سيطرة كل قبيلة، ويسمح لمن هم من خارج القبيلة أن يزرعوا ويرعوا فيها، لكن لا يستطيعون التملّك أو تولى منصب “النظارة”. لذا تكون العلاقة بين “صاحب الدار” و”الضيف” متفاوتة في الدرجة والحقوق، تماما مثل علاقة المركز والهامش. وهو ما أدى لصراع بين أصحاب الملكية العقارية، والمزارعين والعمال الزراعيين “المهمّشين”، خاصة خلال موجات الجفاف والتصحّر . ومع التغيرات المناخية نزح عدد من القبائل من مواطنه، فكان ذلك التغير الديموغرافي كفيلا بخلق التوترات والنزاعات على الموارد والتمثيل والملكية.

وعلى الرغم من ان الدولة السودانية سعت، في عهد الرئيس جعفر النميري، إلى تقويض نظام الإدارة الأهلية القبلي، من خلال جعل الأرضي ملكية الدولة، وإلغاء الإدارة الأهلية، إلا أنها لم تقم بإنتاج بديل تنموي في الأطراف؛ بينما اتجه عمر البشير، قائد النظام العسكري الإسلامي السوداني، إلى إدماج شيوخ القبائل في الحزب الحاكم، وتسييسهم، مما أضاف البعد السياسي على النزاعات القبلية؛ وخلخل الولاء القبلي. وعندما اندلع نزاع دارفور عام 2003، تحزّبت الإدارة الاهلية تبعا لموقفها السياسي، ودعمت السلطة نشوء مليشيات مكونة من قبائل “البقارة” و”الإبالة” العربية، وهم من نعرفهم اليوم باسم “الجنجويد”.

المحلي والمستوطن: كيف فجّرت الدولة حروب الضحايا الأبديين؟

يعدّ إقليم دارفور مثالا ساطعا على جذور أزمة الحداثة السودانية، كما أنه إشارة وإنذار حول انتهاء صلاحية نسخة المنظومة الفكرية والحداثية، ليس فقط في السودان، بل في كل العالم العربي. فكما سلف القول، فإن فشل الدولة في توسيع نطاق التحديث والتمدين لأقاليم الأطراف، كان نذيرا بتنمية الحس الانفصالي، وفي مواجهة الإفقار والتغيرات المناخية والديمغرافية، اضطر الناس للمقاومة بـ”الجسد العاري”، في غياب البنية التحتية والمشروعات الكبيرة، وإهمال التنمية الزراعية والحيوانية والبشرية، وقلة الخدمات الصحية والتعليمية. وساهمت الخصائص الجغرافية للإقليم، المفتوح على حدود ليبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى، بانفجار الوضع أكثر.

جاءت مشكلة إعادة توطين بعض المجموعات العربية في دارفور، لتوصل الأمور إلى حد غير مسبوق من العنف، واتخذ الصراع، منذ عام 2003، شكلا عرقيا مروّعا بين العرب والأفارقة، في ظل تسيّس قادة الإدارات الأهلية، التي تورّطت في الأحداث، تبعا لخريطة الصراع السياسي والمناصب الدستورية.

ما يفسّر ثنائية العرب في مقابل الأفارقة، وفقا للأنثربولوجي السوداني شريف حرير،  أن الصراع في دارفور دار على أساس مفارقة المستوطن/المحلي، أي صاحب الدار والضيف على الدار، مما يجعل كل طرف ينظر لنفسه بوصفه ضحية الآخر. “المحلي” يرى أن “المستوطن” يريد طرده من أرضه التاريخية؛ و”المستوطن” يرى أنه ظُلم دائما من صاحب الدار “المحلي”.  

إلا أن الصراع لم يبق “أهليا” بين محلي ومستوطن، بل انخرطت الدولة بدورها فيه، بوصفها طرفا ميليشياويا في صراع ميليشياوي، ودعمت التطهير العرقي لصالح المجموعات العربية، عن طريق تسليح ـ”الجنجويد” في مواجهة “حركة تحرير السودان” و”حركة العدل والمساواة”، اللتين أعلنتا الكفاح المسلّح، رغبة في سودان جديد بلا تهميش، وطامح لعدالة توزيع الثروة، وتكافؤ فرص التمثيل السياسي.

ربما تكون المسألة السودانية مثالا واضحا لـ”تضخيم الدولة العربية”، بتعريف المفكر المصري نزيه الأيوبي، وهي ليست “مضخّمة” بمعنى التمدد، وتبني سياسات إنمائية وسياسات رفاه اجتماعي مثلا، بل بمعنى المغالاة في تقدير قوة الدولة وفاعليتها، والاعتماد على أجهزتها لحسم الصراعات الأهلية. وهكذا لم تنتج الدولة الحديثة في السودان “ولاء قوميا”، وإنما ساهمت بتحويل مساحة جغرافية هائلة إلى “سودانات” متعددة، يأمل كل سودان منها بقهر الآخر، عبر استغلال الدولة وجيشها وميليشياتها.

ما وراء القبيلة والأمة: كيف وصلت الميليشيا إلى العالمية؟

تعبر ميليشيا الدعم السريع، وهو الاسم الرسمي لـلجنجويد، بعد دمجهم الشكلي في الجيش السوداني، أبرز مثال على الإلتباس بين بنية الدولة وبنية القبلية والعصيبات، إذ أجرت الدولة الحديثة بعض التسويات، التي تمكنها من التوازن مع القبلية والطائفية، ما أدى بدوره إلى إعادة إنتاج التخلّف الاجتماعي والسياسي، وتجديد شروط النزاعات الأهلية.

لم تتوقف حرب دارفور مع عقد السلام بين المتمردين والسلطة، فقد لجأت الدولة لإعادة هيكلة الجنجويد، لقمع التمردات في دارفور وكردفان وولاية النيل الأزرق، إلا أن الأمور سرعان ما خرجت من أيديها، مع الانفلات الأمني في الأقاليم، وبدا أن قادة الميليشيا مستقلون في قراراتهم، وأكبر من الدولة نفسها، وبدأوا بإنشاء علاقات إقليمية، بوصفهم جيشا من  المرتزقة، فبتنا أمام نموذج جديد من الولاء، يتجاوز حدود القبلية والقومية معا، ومرتبط بشبكات من المصالح الإقليمية والدولية، ضمن النظام العالمي القائم. وهكذا بالضبط وصلت ملشنة الدولة العربية إلى العالمية.

يفيد تحقيق صحفي، شارك فيه الصحفي المصري محمد أبو الغيط، واعتمد على وثائق مسرّبة، حصلت عليها منظمة “جلوبال ويتنس”، أن الشبكات المالية، التي تقف وراء حميدتي وقوات الدعم السريع، تقوم على مصالح ومعاملات مع رجال أعمال وبنوك إماراتية، خاصة أن الميليشيا تسيطر على مناجم وصناعة الذهب في منطقة جبل عامر.

ولكن ماذا عن الناشطين “المدنيين”، الذي كانوا في طليعة الثورة؟

ليس بالغريب عن بنية الدولة والمجتمع المدني السوداني أن تنقسم الآراء السياسية للنشطاء، خاصة في تحالف الحرية والتغيير “قحت”، إذ يعتبر البعض أن ميليشيا الدعم السريع هي طريق المدنية والديموقراطية في مواجهة “الكيزان” (تحالف العسكر والإسلاميين)؛ بينما يذهب آخرون إلى أن الجيش السوداني، تحت قيادة عبد الفتاح البرهان، يضمن الوحدة والاستقرار وبقاء الدولة. هنالك أطراف تحاول اتخاذ موقف وسط، مثل الحزب الشيوعي السوداني، الذي يرفع شعار “العسكر للثكنات، والجنجاويد ينحل”.

يبدو غريبا بكل الأحوال أن يعوّل “مدنيون” على ميليشيا وجيش، مدانين دوليا بارتكاب مجازر تطهير عرقي؛ فيما يبدو شعار عودة العسكر للثكنات وحل الميليشيا طوباويا بعض الشيء في الظرف السوداني.

ربما كان مأزق التحديث العربي أكبر من وعينا، وفوق قدرتنا على ابتكار الحلول العملية. فنحن محاصرون بين جيش (أو دولة) يتصرّف كأنه ميليشيا؛ وميليشيا تتصرّف كأنها دولة. وحتى دعوات السلام لن ترضي أحدا في هكذا ظرف. ولكن ربما يساعدنا البحث في سؤال “كيف وصلنا إلى هنا؟” على تشكيل وعي، قد يعيننا في المستقبل على الخروج من تلك الدائرة المفرغة.

المصادر

https://www.darfur24.com/2024/01/12/%d9%85%d9%83%d9%88%d9%86%d8%a7%d8%aa-%d9%82%d8%a8%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d8%b4%d8%b1%d9%82-%d9%88%d8%ba%d8%b1%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%af%d8%a7%d9%86-%d8%aa%d9%86%d8%ae%d8%b1%d8%b7/

– تاريخ السودان الحديثة، روبرت أو. كولينز

-تاريخ الحركة الوطنية في السودان، محمد بشير.

-دارفور (منقذون وناجون)، محمد ممداني

-الاقتصاد السياسي للتخلف، إشارة خاصة لفنزويلا والسودان، محمد عادل ذكي

-السودان على مفترق الطرق (بعد الحرب – قبل السلام)، مجموعة باحثين، مركز الدراسات العربية

-دارفور، حصاد الأزمة بعد عقد من الزمان،مجموعة باحثين، مركز الجزيرة للدراسات.

-الزاعات الأهلية العربية، مجموعة باحثين، مركز الدراسات العربية – https://www.globalwitness.org/en/campaigns/conflict-minerals/exposing-rsfs-secret-financial-network/?fbclid=IwAR1X_SDnU75P5eVwkaSd8AzYUFWgzWzbI5MIc7NKMdJf0HBRWksFs8NUsuQ

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4.2 5 أصوات
تقييم المقالة
1 تعليق
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات
Sahar ismail
1 سنة

مقال أكثر من رائع، بالتوفيق دائماً يارب استاذ عصام