إذا شاهدت فيلمين قصيرين، أحدهما وثائقي والآخر روائي، عن الموضوع نفسه، فسيكون تصديقك للمعلومات الموجودة في الفيلم الوثائقي أكبر بكثير من مثيلاتها في الفيلم الروائي، وفقا لدراسة للناقدين بول كوين ولويس بوليو، وهو أمر منطقي بالتأكيد. ومع ذلك، فإن تفاعلك العاطفي، وقدرتك على استرجاع المعلومات، بالأخص البصرية، ستكون أكبر في الفيلم الروائي. وقد يرجع ذلك إلى أن التفاعل العاطفي العالي مع الأفلام الروائية، بسبب تقنيات الإخراج، ومنها حركة الكاميرا والمونتاج والموسيقى وما إلى ذلك؛ وتقنيات الكتابة، التي تبني الحكاية عبر تصاعد دراما مثير، كل هذا يؤدي إلى عملية ترميز أفضل للمعلومات في الذاكرة الطويلة والقصيرة المدى، بالتالي استذكارا أكبر لها من نظيراتها في الأفلام التي لا تربط المشاهد عاطفيا، والتي يُطلق عليها اعتباطا اسم “أفلام تسجيلية مملة”.
هذه الازدواجية، بين وثائقي “صادق ولكن غير مؤثّر”، وروائي “مؤثّر ولكن غير صادق”، دفعت السينمائيين وصانعي الأفلام لكثير من التفكير، فنشأ نوع هجين جديد في السينما، تختلط به الأدوات، وتزول الحدود بين الأفلام الروائية والوثائقية، وهو ما يُعرف باسم “أفلام الديكودراما” Docu-Drama، حيث المواد الأرشيفية، والقصص الواقعية، التي يرويها أبطالها بأنفسهم؛ إلى جانب والأدوات السينمائية المُستخدمة في الأفلام الروائية. وهو نوع يُعتبر جديدا نسبيا، مقارنة ببقية الأنواع، أو بمعنى أدق، نوع ازداد الاهتمام به مؤخرا.
ولكن هل هذا النوع يجمع فعلا بين الصدق المجرّد؛ والتأثير البريء؟ هذا الموضوع أثار كثيرا من النقاشات الفنية، بل حتى الفلسفية، وربما كانت النتيجة الأكثر إقناعا، أن الموضوع لا يتعلق بالصدق الوثائقي أو التعبير العاطفي السليم، بل هو نوع جديد من الخطاب البصري، ننتجه في مواقع وسياقات مختلفة، ولأجل غايات متعددة، ونتصارع عليه، تماما مثل أي شيء آخر ننتجه في عالمنا، ما يميّزه أنه يتمتع بالمرونة، والقدرة على التعاطي مع الرمزيات والعناصر الثقافية والمواد الوثائقية، بشكل أكبر من التحديدات الكلاسيكية للقوالب السينمائية.
في مهرجان الجونة السينمائي المصري، الذي أقيم في نهاية العام الفائت 2023، أُفرد قسم خاص للأفلام الوثائقية الطويلة، ضمن مسابقة خاصة، دائما ما تلاقي إقبالا من الجمهور؛ وكذلك خصص المهرجان، تحت شعار “سينما من أجل الإنسانية”، برنامجا لدعم الأفلام المهتمة بقضايا المنطقة، مثل القضيتين الفلسطينية والسودانية. وفي القسمين، الوثائقي الطويل و”السينما من أجل الإنسانية”، عٌرضت مجموعة من الأفلام المميزة، التي غلب عليها قالب الديكودراما، ما أضاف تجربة مشاهدة مميزة، قادت المشاهدين إلى رحلة خيالية، يرويها أبطالها الحقيقيون.
سنستعرض هنا ثلاثة أفلام ديكودراما مميزة، عن إيران وفلسطين والعراق، حاولت إيصال كثير من “الحقيقة” و”المشاعر” حول قضايا تلك البلدان. فكيف صاغ صانعوها قضايا بلدان غارقة في القضايا الإشكالية، عبر خطابات بصرية، تحاول تجاوز التصنيفات؟
سبعة أشتية في طهران: قصة مؤثرة من وراء القبر
“راوي ما بعد القبر” Posthumous Narration، مصطلح في السرد، يعني أن تقوم إحدى الشخصيات برواية الأحداث التي أدت إلى موتها، أو التي رافقته، من خلال التعليق الصوتي طوال الفيلم، والذي يبدو أنه قادم من عالم آخر، ما يعطي المبرر لحضور “الراوي كلي المعرفة”.
يلجأ المخرجون والمؤلّفون في العادة إلى استخدام تلك الحيلة، لكي يتجاوزوا قسوة الأحداث الغريبة أو الكئيبة أو الحزينة، التي يروح ضحيتها بشر، ويمنحوا المشاهد منظورا أكثر شمولية لها؛ وأحيانا يستخدمونها بغرض معاكس، وهو زيادة شحنة التأثير الانفعالي، فإذا كان الغرض من الحكاية هو الخوف، كما في أفلام الرعب، فسماعك للأحداث من المقتول نفسه، يزيد من إحساس التوتر، والقشعريرة التي تنتابك.
في فيلم “سبعة أشتية في طهران”، تسعى المخرجة الألمانية شتيفي نيدرزول، إلى إيصال المشاهد إلى أقصى درجات التعاطف مع قصة ريحانة جباري، مصممة الديكور الشابة، التي أعدمتها السلطات الإيرانية عام 2014، بعد قتلها، دفاعا عن النفس، عنصرا في المخابرات الإيرانية حاول اغتصابها. ما الذي سيدفعك للتعاطف أكثر من استماعك إلى ريحانة نفسها، وهي تروي قصة تعرّضها للظلم حتى الموت؟
من هنا تحديدا، يبدأ الاختلاط بين قالبي الأفلام التسجيلية والروائية في فيلم نيدرزول، فيستخدم الفيلم جانبا تسجيليا، معتمدا على الرسائل الصوتية والمكتوبة، التي أرسلتها ريحانة نفسها من داخل السجن إلى أهلها، ولقطات أرشيفية من المحاكمات والأحداث اللاحقة، إضافة إلى الأجزاء المسجّلة مع عائلة جباري نفسها؛ ومن جهة آخرى، يحتوي الجانب الروائي التعليق الصوتي للمثلة زارا أمير، التي تؤدي دور ريحانة، وتروي الأجزاء الناقصة من قصتها؛ والمشاهد التمثيلية لما حدث داخل السجن والمحاكمة. كل ما تراه في الفيلم، حتى الجانب الوثائقي، هو عملية انتقاء وإعادة بناء، متحيّزة تماما للطرف المقتول ظلما، ولكن هل توجد بالفعل حقيقة دون انتقاء وإعادة بناء؟
يبدأ الفيلم بموسيقى قوية حزينة، تكاد تدفع المشاهدين للبكاء، يلحقها مجسّم للسجن، الذي حُبست به ريحانه لمدة سبعة أعوام، كان من المفترض أن تكون السنوات الأفضل في شبابها. تقف أمام المجسّم والدة ريحانة، التي ندرك، مع التقدم في الأحداث، أنها بطل الحكاية، بمقدار لا يقلّ إطلاقا عن ريحانة نفسها. وفي خلفية كل ذلك نسمع رسالة من رسائل البطلة، تصف فيها الحالة التي يكون فيها من يتعّرض للاغتصاب، وتتعجّب من كون من يكتب القوانين، التي تدين الاغتصاب، رجال بالغون، ليسوا ممن تعرّضوا للاغتصاب فعلا، وهو ما يجعل تلك القوانين مجحفة، وغير كافية لنصرة المظلوم.
وعلى مدار الفيلم، الذي يستعرض الحكاية، منذ طفولة ريحانة، نرى كل ما يندرج تحت بند “انتهاك النساء”، مُبرّرا بقواعد الدين الإسلامي. البطلة، التي حاول والدها حماية حقوق بناته كما يحمي حقوق أبنائه، رفضت دائما أن تكون ضحية ذلك العالم. ويستمر الفيلم في عرض الأحداث، بصوت ريحانة، حتى بعد تنفيذ حكم الإعدام بها، وكأن صوتها يجب أن يصاحبنا دائما، حتى بعد وفاتها. الراوي من قبره لن يتركنا بسلام، لأن تحقيق العدالة أكبر من الوجود الجسدي لريحانة نفسها.
إنه خطاب متكامل، لا تنقصه الوثائق، ولكنه لا يبغي الحياد، يجب أن تكون في صف ريحانة.
باي باي طبريا: الانتماء للبحيرة التي لا نعرفها
الحديث عن الأفلام الفلسطينية، في ظل الأحداث الراهنة، وبالأخص الأفلام التي من المفترض أن تعبّر عن المعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني يوميا، قد يكون بلا معنى، فدوما سيقارن دماغ المتلقي بين مشاهد الأفلام؛ والصور المؤلمة، التي يراها يوميا على وسائل الإعلام، وفي الأغلب لن تكون نتيجة المقارنة في صالح المشاهد السينمائية. ربما لهذا تفيد تجرية كوين وبوليو، السابق ذكرها أول المقال، لفهم ما دفع المخرجة الفلسطينية لينا سوالم للجوء إلى الديكودراما، فهي تريد تجاوز التأثير الانفعالي الشديد، الذي تسببه المشاهد الحقيقية؛ وفي الوقت نفسه تقديم شهادات واضحة عن الحكاية التي ترويها، وكل هذا دون خلق مسافة من الحياد واللامبالاة.
“باي باي طبريا” فيلم توثيق ذاتي، تحكي به سوالم قصة عائلة والدتها مع التهجير والغربة بكل أشكالهما. جدة والدتها، جدتها، والدتها، وهي شخصيا. أربعة أجيال من السيدات، خلال خمسة وثمانين عاما تقريبا، منذ بداية الاحتلال وحتى وقت إنتاج الفيلم.
تشرع مَنْ تلعب دور الدة لينا، الممثلة هيّام عباس، في سرد الحكاية منذ بدايتها، وتسلّم الكلام في جملة أو اثنين إلى لينا، كي تتحدث عن نفسها. وفي حديثها، لا تلتزم هيّام كثيرا بالترتيب الزمني للأحداث، تبدأ بالسرد من قصة الجدة الكبرى، التي هُجّرت قسرا من طبريا، ثم تعطي المجال للينا، التي تعترف بأنها ولدت بعيدة وغريبة عن هذا البلد، وعن بحيرة طبريا، التي تتمحور حولها حياة النساء من الأجيال الأقدم.
هذا المزج المتعمّد بين الممثلة (هيّام عباس) التي تؤدي شخصية مكتوبة؛ وبين الشخص “الحقيقي” (لينا سوالم)، الذي يسرد مقاطع من ذاكرته، كان أداة مبتكرة لإعادة بناء القصة، واستعادة تفاصيل من حياة الأم والجدة، عبر السرد الشفوي، ما جعل الفيلم أشبه بالعروض المسرحية المُصغرة.
إنه فيلم فلسطيني، ولكنه لا يرتكز بشكل أساسي على الشكوى من الاحتلال، وإنما يهتم بشعور الغربة أساسا، وكيف تؤثّر على قرارات الفرد، وتواصله الإنساني مع الآخرين، وبالأخص أفراد عائلته.
هل هنالك في الغربة ما هو “حقيقي” فعلا، أو ما هو مجرّد “أداء”؟ وحدها الديكودراما ربما مَنْ يستطيع التعبير عن صعوبة هذا السؤال.
من عبدول إلى ليلى: عشوائية مصنوعة بإتقان
يوجد عَرَضان مميزان لمايسمى “اضطراب كرب ما بعد الصدمة”، post-traumatic stress disorder، وهما الذكريات الملحّة والتجنّب. ويشمل العَرَض الأول جملة من الظواهر، تأتي معا أو بشكل منفرد، ومنها الكوابيس، والاسترجاع القهري للذكريات، وما يصاحبها من ألم وتوتر وردود أفعال جسديّة؛ أما العَرَض الثاني فيشمل تجنّب كل ما يتعلّق بالصدمة المؤلمة، سواء الذكريات أو الأماكن أو الروائح المتعلّقة بالحدث.
تعاني بطلة فيلم “من عبدول إلى ليلى”، وهي المخرجة ليلى البياتي، من اضطرابات معقدة من “كرب الصدمة”، وبقدر استثنائية أعراض الاضطراب عندها، أدت فيلما وثائقيا فريدا، ينطبق عليه وصف “العشوائية المصنوعة بإتقان” بشكل مثالي.
البطلة/المخرجة، التي تعيش في فرنسا، ولا تجيد العربية، لديها ذاكرة غامضة عن “صدمة” عاشتها في العراق. تتعرّض لحادثة سير أثّرت بها جدا، فتقرر التواصل مع عائلتها أكثر، لتعرف نفسها من جديد، وهذا يجعلها تكتشف طبقات متعددة لـ”صدمتها”، وهي أعمق بكثير مما تتخيل، ربما بعمق بلدها الأم: العراق.
علاقتها بوالدها عبدول شيقة للغاية، تتوضّح تدريجيا، وتتعقّد بالوقت نفسه. ولا يمكن فهمها إلا عبر رحلة طويلة جدا، مليئة بالرسوم البسيطة، والشعر، والموسيقى. وكأن كل هذا حبل سري، يمتد بين الأب وابنته، ليرسم صورة ما عن الوطن. إلا أن الصورة ليست رومانسية للدرجة التي توحي بها كل تلك الفنون، للوالد عبدول “تاريخ” مع حروب العراق ومآسيه.
ما أن تعود ليلى البياتي إلى العراق، لـ”تكتشف ذاتها”، حتى تصاب بحالة من التشوّش، وكأن عودتها إلى “الوطن” زادت من غربتها. وهو ما وصفته في بداية الفيلم، عن طريق الغناء، عندما أكدت أنها لا تدري الفرق بين الواقع والخيال؛ الحقيقة والوهم، ولذلك فإن كل ما ترويه وترسمه وتؤديه شديد التشوّش.
قررت ليلى الاعتماد على بعض من تقنيات الفيلم الروائي، ربما كي تسدّ بعضا من الفجوات الكثيرة في “واقع” ذاكرتها، وإحساسها بعالمها، فصرنا أمام عرض بصري مليء بالتقنيات والقوالب والرموز. لقد وضعتنا المخرجة في قلب تشوّش ذاكرتها وروايتها عن ذاتها، وهذا يجعل السؤال عن الموضع الذي ينتهي فيه “التمثيل” في الفيلم، وتبدأ المشاهد “الحقيقية”، لا معنى له.
يبدو اللجوء إلى صيغة الديكودراما في الأفلام السابقة ضرورة لا غنى عنها، كي نصل إلى رؤية ليست توثيقية، بقدر ما هي ذاتية، وفي الوقت نفسه لا يمكن تكذيبها، وهو أمر يبرع به الفن عموما. إلا أنه يمكن، في الختام، طرح سؤال عن سبب اشتراك كثير من أفلام الديكودراما المعاصرة في هذا المنظور، وهل يمكن لهذا القالب المبتكر، أن يقدّم لنا تنويعات أخرى كثيرة، إلى جانب “توثيق الذات”؟
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.