سلطات النكتة: ما وظيفة الكوميديا في كرة القدم المصرية؟

رأى الفيلسوف اليوناني “أرسطو” أن الحياة مزيج بين الكوميديا والتراجيديا، فهي في أحد جوانبها كوميديا لمن يفكّرون، وتراجيديا لمن يشعرون. كثيرون في العالم العربي، ومصر بالخصوص، ينشدون “الكوميديا” في مجالات عدّة، وليس فقط في العروض الجماهيرية والأفلام السينمائية، بل حتى في الرياضات الحماسية، مثل كرة القدم.
في السنوات الماضية كان هنالك رجل عجوز، يشارك في أحد البرامج الرياضية المصرية، ويحكي عن ذكرياته مع كرة القدم، حينما كان مدرّبا لإحدى الفِرَق. لا جديد في ذلك، تعجّ البرامج الرياضية بمثل هؤلاء، لكن ما يثير الانتباه هو طريقة سرد الرجل “الكوميدية” لتلك المواقف، ما يجعله أقرب لحكواتي ظريف، لا يُمل من سماع حكاياته.
إنه “مدحت فقوسة”، أحد لاعبي النادي المصري البورسعيدي السابقين، والذي تولّى تدريب فريقه لأكثر من مرة، وأشرف كذلك على تدريب المنتخب العسكري، محققا معه لقب كأس العالم العسكرية عام 1993، وتوفي عام 2021، بعد أن نال شعبية بين جمهور الكرة المصرية. اليوم، وبعد سنوات قليلة من وفاته، يبدو أنه قد أصبح منسيا.
يوجد حاليا “مضحكون” آخرون، وإن كانوا أقل براعة منه، وربما يثيرون الانزعاج أكثر من الضحك. ولكن ما حاجتنا إلى المضحكين أصلا؟ هل نحن “مفكرون” لهذه الدرجة فعلا، حسب رأي أرسطو؟
في كتابه “جوهر الدعابة: استخدام الفكاهة لعكس هندسة العقل”، يطرح الكاتب الأميركي ماثيو هرلي، الباحث في جامعة إنديانا، وجهة نظره في استخدام الفكاهة لهندسة المواقف الحياتية التي نتعرّض لها يوميا. يرى هرلي أن السخرية في المطلق يمكنها أن تتلاقى مع كافة مناحي الحياة، ولكنه اعتبرها دائما سلاحا ذا حدين، يمكن أن يضرب لك أو عليك، على حسب استخدامك له، ومدى تقبّل الطرف الآخر لذلك. ربما لم يخطر ببال الكاتب احتمالٌ ثالث، وهو أن لا “تضرب” السخرية أحدا، وأن لا تكون سلاحا أصلا، بل مجرّد تأقلم مع حالة من الركود والانحطاط. وربما هذا هو الحال، ليس فقط في الكرة المصرية، بل في مختلف مناحي الحياة في هذا البلد.
يذكّر هذا بما كتبه الأديب التشيكي ميلان كونديرا في روايته “كتاب الضحك والنسيان”: “النكتة مثل قبعة شخص تقع على التابوت، في قبر حُفر للتو، فتفقد الجنازة معناها ويولد الضحك”.
هل نوع الكوميديا التي نغرق بها حاليا أشبه بجنازة فقدت معناها؟ ربما لكي نجيب على هذا السؤال يجب أن نقارن بين استخدام السخرية في كرة القدم العالمية، واستخدامها لدينا.
للنكتة طابع جنائي، كما يرى الكوميديان البريطاني الراحل كين دود، إذ أنها تترك آثارا عميقة على المستهدف بها، وتخلّف وراءها أدلّة. إذا ضحك الناس فقد فزت، ولن تحتاج لأي مقياس آخر. يشبه هذا الرياضة إلى حد كبير، أنت لا تحتاج إلى صديق أو ناقد كي يخبرك أنك فزت، إذا كنت متقدّما بنتيجة المباراة، فهذا يعني انتصارك.
إن العمل الذي يتطلبه أن تكون رياضيا (وكذلك كوميديا) شاق جدا، وفي كثير من الأحيان تكون الأمور فوق الاحتمال. الضغوط التي يتعرّض لها الرياضيون والمدربون مرهقة للغاية، ويمكن أن يمتد الضغط الناتج عن كونك رياضيا إلى جوانب أخرى من حياتك، وأن يتسبب بمواقف غير مرغوب فيها. وبما أن الرياضة تشترك مع النكتة في عدد من الأمور، ساد انطباع أن الكوميديا أداة أساسية لتخفيف كل تلك الضغوطات، فكيف ذلك؟
لعقود تم التعامل مع تدريب كرة القدم على أنه وظيفة بدنية بحتة، لا تشتمل إلا على التدريبات الشاقة، لكن انطلاقا من العقد الماضي، بدأ باحثو الرياضة ينتبهون بشكل متزايد إلى الجوانب الأخرى من تلك المهنة، ليدركوا أنها قامت سابقا على طابع اجتماعي، يشتمل على تفاعلات بين عدد لا يحصى من الجهات الفاعلة
في ورقة بحثية، نشرها موقع Research Gate”، تتبّع الباحثون، لمدة عشرة أشهر، لاعبين ومدربين في نوادٍ لكرة القدم في كندا، وأظهرت النتائج أن الفكاهة كانت قوة موحّدة بين أفراد الفرق المختلفة، كما أنها لعبت دورا رئيسيا في تقبّل اللاعبين للنقد. ومن خلال طبيعتها المشتركة، وقيامها على مجموعة من الرموز التاريخية والثقافية المفهومة من الجميع، عملت الفكاهة على إعادة التأكيد على القيم الجماعية، كما ساعدت في الحفاظ على الروابط الاجتماعية.
وفي هذا الصدد، يمكن القول إن الفكاهة كانت بمثابة وسيلة للامتثال للقيم والقواعد السائدة، بعد تخفيفها بفضل النكتة. ومع ذلك، فإن هذا الاستخدام للفكاهة سمح أيضا للأفراد بتحدّي التعقيدات المرتبطة بالعلاقات داخل المجموعة، ونزع فتيل التوتر بينهم. يعني هذا أن الفكاهة كانت أسلوبا “سلطويا” إلى حد ما، يجمع بين أفراد لديهم مشتركات متعددة، ويقوّي وحدتهم. هل هذا ما تحققه لنا الفكاهة في الشرط العربي؟
ربما نعم، ولكن علينا أن نفهم أكثر “المشتركات” التي يقوّيها حسّنا الضاحك.
مع تطور لعبة كرة القدم، والتحول الصارخ لها نحو مزيد من الاحترافية، ومتطلبات اللياقة الفائقة، ازدادت الضغوطات على كاهل عناصر المنظومة برمتها، وبالطبع على أهم عنصرين فيها، أي اللاعب والمدرب.
على مستوى النخبة في كرة القدم، يريد المدربون أن يحكموا سيطرتهم على لاعبيهم، الذين صاروا أكثر رفاها، وأعلى أجرا، والمغريات أمامهم لا حصر لها، وهو ما خلق في الوعي الجمعي للمدربين اتفاقا ضمنيا، مفاده أن شخصية المدرب القوية هي العامل الرئيسي لضمان السيطرة.
لكنّ مدربي النخبة يخبرونا أن هذه النظرية منقوصة، فمن وجهة نظر الألماني يورغن كلوب، يجب أن يكون هناك بعد إنساني لدى المدرّب، بجانب الشخصية القوية، بهدف تقليص المسافة مع اللاعبين.
يؤكد كلوب أنه لا يشعر بالحرج في الحديث مع لاعبيه عن مهاراته في الطبخ، وحبه لطهي الدجاج، بل يعتقد أن الدعابات وسط التدريب كانت أحد العناصر الرئيسية في الانتصارات التي حققها فريق ليفربول في حقبته الذهبية، والتي عاد فيها إلى التربّع على عرش الدوري الإنجليزي، بعد غياب دام ثلاثين عاما.
التفكيك والتشديد، التخفيف ثم التضييق مرة أخرى، تلك هي النظرية التي استخدمها يورغن كلوب وغيره من المدربين، مثل جوزيه مرينيو، الذين برعوا في استخدام الفكاهة، بوصفها موردا مرنا في تنظيم الانتباه والتركيز.
قد يكون هذا مهما بشكل خاص في رياضات النخبة، لأن المجال حافل بالمتطلبات المتغيّرة باستمرار. في بعض الأحيان تفرض الظروف عملا شاقا، يتطلّب جهدا بدنيا. وحينها تصبح الفكاهة محفزا للتعاطي مع الضغط، وجعل التدريب أكثر احتمالا. تتطلّب مواقف أخرى التركيز الكامل، الذي قد يكون من الصعب الحفاظ عليه في أجواء المزاح.
يُعدّ التوقيت أيضا أمرا بالغ الأهمية في عملية التوازن هذه، فمن المفيد استخدام الفكاهة، باعتبارها استراتيجيةً لتنظيم التوتر، وتحفيز الإبداع، وزيادة الاهتمام، أو تقوية الروابط الاجتماعية، في الوقت التي يصبح فيها الحفاظ على المشتركات لا غنى عنه لاستمرار الفريق، وسط كل لمعان نجومه الأفراد، الذين يبذلون جهدا هائلا، كالماكينات.
إنها مشتركات قائمة على تحقيق “إنتاج” أفضل إذن، يتطلّبه تطور الرياضة، التي تحوّلت إلى استعراض واستثمار يدرّ الملايين، ولا يمكن ترك شيء فيه للصدف. على الأغلب، لا ينطبق هذا على الحالة العربية، ليست هذه “مشتركاتنا”.
في مواقف عديدة، لم يخجل الكابتن مدحت فقوسة من سرد حوادث، غلبت عليها روح الدعابة أو الفكاهة، سواء بينه وبين اللاعبين، أو بينه بين مساعديه. مثل حديثه عن تناول حبوب هلوسة عن طريق الخطأ، قبل لقاء فريقه مع فريق الزمالك؛ أو عن قيامه بشتم الحكم في إحدى المباريات.
يمكن للرياضيين، كما رأينا، استخدام الفكاهة في حياتهم المهنية، التي يغلب الضغط على معظم أوقاتها، فتعمل النكتة بوصفها استراتيجية للتكيّف مع هذه الضغوطات، ولمساعدة الرياضيين في السيطرة على المواقف الأصعب، إلا أن فكاهة فقوسة لم تكن في المجال الأدائي، أي تحسين أداء فريقه في مواجهة الضغوطات، بقدر ما تبدو تنفيسا، ضمن ظروف يسودها نوع من الفوضى، واضمحلال المعايير.
إلا أن لتلك الفكاهة جانبا آخر، متعلقا بالجماعة، وهو تعزيز القدرة على التحمّل، ضمن شرط يبدو عبثيا، وهذا “التحمّل” قد يزيد من عبثية المشهد، إذ أن شتم حكم مباراة، أو تعاطي المخدرات قبلها، لا يبدو نوعا من مقاومة الظروف الصعبة، بقدر ما هو اندماج كامل بها. وبما أن الفكاهة تزيد من تماسك الجماعة، فيبدو أن “التماسك” في حالتنا أقرب لتواطؤ مضمر مع منظومة منحلة، ربما بهدف أن “تمشي الأمور”؛ كما أن الدور “السلطوي” للفكاهة، في تامين الالتزام بالقواعد الاجتماعية بعد تخفيفها، ما يزال موجودا، وإن كانت قواعد لا تقوم على أسس الكفاءة أو الالتزام أو المسؤولية، بقدر ما تهتم باستمرار الوضع على ما هو عليه.
استخدم فقوسة الكوميديا بشكل ناجح، وحقّق بفضلها شيئا من التكيّف مع الظروف، ورغم كونه لم يصل إلى تدريب فريق مصري كبير، فقد فاز ببطولة معتبرة على المستوى الرياضي العسكري، وربما كان هذا تلخيصا مدهشا لدور الفكاهة في حياتنا حاليا.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.