ماذا يحدث عندما ينغمس الإنسان في الواقع أكثر من اللازم؟ هل يمكن أن يطرده هذا الواقع إلى أقصى درجات الانعزال، ويدفعه لأغرب القرارات؟ ثم ما “الواقع” فعلا؟ هل هو يومياتنا “البسيطة”، أم ما وراءها من أنظمة ووقائع، أكثر تعقيدا وشمولا؟ السؤال الأخير مهم بشكل خاص، في ظروف الحروب شديدة الهول والدموية المحيطة بنا. أيهما نصدّق، ما يبدو أنه المظهر المستقر لحياتنا الفعلية، أم أخبار ومشاهد القتل والدمار، التي تبدو قريبة جدا، ومتداخلة بحياتنا، بشكل لا يمكن فهمه؟

يمكن أن نجد معالجة لهذه الأسئلة، التي باتت جزءا أساسيا من حاضرنا، في فيلم قديم هو “شحاتين ونبلاء” 1991، للمخرجة أسماء البكري، والمأخوذ من رواية بالاسم نفسه للكاتب المصري الفرانكفوني ألبير قصيري، تقدّم لنا مستوىً لا تصوّره الأعمال التاريخية كثيرا عن حياة القاهرة، في نهاية النصف الأول من القرن الماضي، وبعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية: عالم مليء بالفقراء والمتشردين والحشاشين و”فتيات الليل”، كل شيء فيه يبدو شديد الزيف، وحقيقيا بشكل ساحق في الوقت نفسه. ما الذي قاله الفيلم عن الحياة في مجتمع تحاصره حروب بعيدة-قريبة؟ ولماذا قد تكون إعادة مشاهدته ضرورية؟

فيضان الصابون: إلى أين يمكن أن يوصلنا البحث عن “رفع المزاج”؟

يبدأ الفيلم بقصاصة من صحيفة، عنوانها الرئيسي “جيوش الحلفاء تقتحم برلين”، ثم يأتي عامل نظافة، ويجمعها ضمن أكوام القمامة الأخرى، ويتحرّك في حواري القاهرة. يظهر بعدها “الأستاذ جوهر” (صلاح السعدني)، والمياه المحمّلة بمواد التنظيف تغرق غرفته، وهو نائم على الأرض، ما يجعله يستيقظ مذعورا، ويتساءل: ” فيضان بصابون!”. إلا أن ذلك الفيضان ليس إلا ماء غسل جثة جاره المتوفى. هكذا يبدأ يوم جوهر بألعن مزاج ممكن، يبحث عن المخدرات، التي يدمن تعاطيها، فلا يجدها، فيمضي في الشوارع بحثا عن “يكن” (أحمد آدم)، صديقه المقرّب، الذي يملك “المزاج” أي الحشيش، وهذه الرحلة تقوده إلى “كرخانة”، تديرها سيدة تشغّل كثيرا من الفتيات في تجارتها. وأثناء انتظاره “يكن”، يجتمع مع إحدى فتيات المنزل، ويرتكب جريمة قتل، هي الحدث الرئيسي في الفيلم.

تضع المخرجة جريمة القتل في سياق دلالي غرائبي: “أرنبة” (لبنى ونس)، الفتاة التي يقتلها البطل، تجلس أمامه، وتطالبه بكتابة خطاب لعائلتها، وهي تحرك “غوايش” يدها (اكسسوارتها)، بكل سعادة، وتردد كلمات: “أنا عال العال، وصحتي زي الفل، والجو جميل، والبلد حلوة أوي، وشغلي عاجبني”. لا يبدو أن الأستاذ جوهر يسمع أي شيء من هذا، يظل ينظر إلى حركة يدها، ثم يطبق على رقبتها ويقتلها. تلعب الكاميرا في هذا السياق لعبة أخرى من الوهم، تمنحنا المخرجة إيحاءً بأن جوهر انخرط في علاقة جنسية مع “أرنبة”، قفز فوق جسدها، وابتعدت الكاميرا، ولم نسمع سوى تأوهاتها، وفجأة تعود الكاميرا إليها، ونجدها قد فارقت الحياة.

النظافة ماء غسيل الموتى؛ والسعي لرفع المعنويات مخدرات؛ والحياة الطيبة عاملة جنس مُستغَلّة بإكسسوارات مزيّفة؛ والجنس جريمة قتل. هل يضعنا الفيلم منذ البداية في قلب “الواقع”؟ ربما لا يحتاج الأمر قنبلة نووية، مثل التي ألقيت على مدينة هيروشيما اليابانية، كي نشعر بالدمار.

النبل الوجودي: كيف نهرب من سقوط القنبلة على رأسنا؟

جوهر بالأصل أستاذ تاريخ، ترك منصبه الجامعي، بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، لأسباب تتعلق بمواقفه السياسية، وعاش في غرفة شديدة الفقر، مدمنا على المخدرات. اعتبر نفسه أنبل من التأقلم مع “زيف العالم”، وهو الزيف الذي رآه في “غوايش” أرنبة الرخيصة، ولذلك قتلها. لا يقبل الأستاذ إلا الحقيقة الكاملة، ويريد أن يلغي كل ما سواها، حتى لو أدى ذلك إلى إلغاء نفسه.

على الجانب الآخر يبرز الضابط “نور الدين” (عبد العزيز مخيون)، الذي يعيش بدوره صراعا حول الحقيقة والزيف، نراه ينظر لصورة والده المعلّقة على حائط غرفة نومه، وبجوارها مباشرة بذّته العسكرية، وكأنّ الأب ورموز سلطته، حتى بعد مماته، قادرة على محاصرة الابن. لا يقتنع الضابط الشاب بعمله، ولا يرى أن له أي دور في تحسين حياة الناس في المدينة البائسة، التي يتكدّس آلاف البشر في أحيائها الفقيرة، داخل “عشش” غير صالحة للحياة.

بعد تحقيقات طويلة في مقتل أرنبة، يلتقي الضابط نور مع الأستاذ جوهر، بصحبته يكن تاجر المخدرات، وأشخاص آخرين، وهو يظنهم مجرد مجموعة من المدمنين البسطاء “المنفصلين عن الواقع”. فيخوضون معه حوارا فلسفيا، عن مستويات الواقع، والتقدّم، والقانون، ومعنى العدالة، ودوافع الجريمة، وإرادة البشر. يسأله جوهر: “إنت عايز التقدّم ولا راحة البال؟”. ويسخر من عبثية محاولة إضفاء المعنى على النظام الاجتماعي باسم القانون: “الزلزال قضاء وقدر، الإنسان أبشع صور القضاء والقدر، إنت تقدر تمنع الزلزال؟”، فيضيف يكن: “تقدر تمنع القنبلة؟”

يؤثّر هذا اللقاء كثيرا في الضابط، الذي كان يعتبر نفسه الطرف “النبيل” في المحادثة، ليجد أنه عاجز عن الرد في حضرة “الشحاذين”. يعود إلى عمله شاعرا بعدم القيمة: يلاحق الفقراء الجانحين، وسط دهاليز الحواري والأسواق و”الكرخانات”، فيما الحرب العظمى، بكل ما فيها من إجرام، تدور في “الخارج”. وبعدها يقرر العودة لزيارة جوهر في غرفته، ونراه يتحوّل لشخص آخر، يستكين على الأرض، وكأنه وجد الراحة أخيرا.

أما محور التحوّل النهائي لشخصية نور الدين، فهي أخبار إلقاء القنبلة على هيروشيما، في مشهد يملأه الهرج والمرج من المارة، وصوت المذياع في الخلفية، وهتافات بائعي الجرائد: “أعلن اليوم الرئيس ترومان، أن طائرة أمريكية ألقت على قاعدة الجيش الياباني في هيروشيما أخطر قنبلة عُرفت في تاريخ الحروب”. يخرج الضابط من قسم الشرطة، وكأنه فقد عقله، وفي المشهد التالي مباشرة، نراه على هيئة قريبة من هيئة جوهر، يرتدي الملابس نفسها، ويلتقيه في مقهى شعبي، وفي الخلفية صوت المذياع وبائع الصحف.

الأصوات في العمل جزء أساسي من تكوين الفيلم، بل تبدو شخصية من شخصياته، تحرّك الأحداث، وتؤثّر بقرارات بقية الأبطال. إنها أخبار مرعبة قادمة من بعيد، ولكن ضجتها تملأ كل المساحات، وتدفع البشر للجنون. إلا أن بطلينا، الأستاذ جوهر والضابط نور الدين، ليسا “عاديين”، بل يران نفسيهما شديدي النبل، لدرجة أنهما صارا شحاذين. الأول يرتكب جريمة بشعة، لأنه يكره “الزيف”، والثاني يتسامح معها، لأنه اقتنع بـ”الحقيقة”، التي جعلته شحاذا.
إنه مفهوم وجودي غريب عن “النبل” في زمن الحروب والاضطرابات: تحقيق التوازن مع الذات يبدو أهم من أي شيء آخر، وحتى لو قادنا للإجرام بحق أنفسنا وحق الآخرين.

سيل الإشارات: هل يمكننا اتخاذ قرارات “وجودية” تجاه الحرب؟

تعيش شخصيات ألبير قصيري وأسماء البكري في زمن حرب عالمية، تائهة تبحث عن الراحة. في زمننا لا يُطلق على ما يجري تسمية “حرب عالمية”، ولكن أينما ولّينا وجهنا سنجد الجثث تحاصرنا. أحيانا نشعر أنها ستقفز علينا من شاشات وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. ولكن هل لدينا ترف التحوّل إلى شحاذين نبلاء، مثل أبطال فيلم أو رواية؟

في “شحاتين ونبلاء” نرى أن انعكاس الأحداث العالمية العاصفة لا يظهر إلا على عدد محدود من الأشخاص، الذين يحملون في أنفسهم “نبلا”، وقرروا الانغماس في “الواقع” حتى النهاية. ولكن في عصرنا يبدو الجميع متأثرين بشدة بما يحدث، يمرون بأزمات نفسية لأنهم لا يستطيعون “الانفصال عن الواقع”، حتى لو أرادوا. وهو ما عبّر عنه الفيلسوف الفرنسي جان بودريار بالقول: “لم يعد بوسع الفرد أن يضع حدودا لكيانه، ولم يعد بوسعه أن يلعب دوره، فقد أصبح صفحة ومعبرا لكل شبكات التأثير”. بمعنى أننا على تواصل دائم بالأخبار، والصور، والفيديوهات؛ عاجزون عن الابتعاد عنها، وعاجزون أيضا عن الفعل. لم يعد الأمر مجرد صوت يأتي من مذياع، ويمكن كتمه، ولا صرخة من بائع جوّال، وإنما إشارات تخترق كياننا في كل مكان، وكأنها جزء من جسدنا.

أصبح كياننا سياسيا جدا، تحت شبكات معقدة جدا من التأثير، نشاهد “محتوى” عن انفجار مرفأ بيروت؛ الغزو الروسي لأوكرانيا؛ حرب غزة؛ الحرب الأهلية في السودان. ولا ندري ماذا نفعل، اللهم إلا “التفاعل” مع ذلك المحتوى. ولكن، هل نستطيع فعلا، كما سأل يكن، أن “نمنع القنبلة” من السقوط علينا؟

انغماسنا في “واقع” القنبلة، هذا لا يجعلنا اليوم شحاذين نبلاء، مثل أبطال قصيري، إذ أننا لم نتخذ خيارا واعيا بالاهتمام بـ”قضايا الإنسانية”، كما كان حال مثقفي القرن الماضي، وبالتالي فإن ردات فعلنا لن تكون “فلسفية” أو “وجودية” مثلهم. ربما يكون الخطر الأساسي أن اقتحام “قضايا الإنسانية” لأجسادنا بشكل حتمي وغير واعٍ، سيدفعنا لاستجابات غرائزية، قد تكون لها نتائج تزيد الأحوال سوءا، وعندها فعلا سنصبح “أبشع صور القضاء والقدر”. ولهذا فإن إعادة مشاهدة أفلام من عصر آخر، ولكنها تتقاطع مع حاضرنا، مثل “شحاتين ونبلاء”، قد تكون ضرورية في وضعنا، لأنها تمنحنا بعض الانفصال والمسافة عن سيل الإشارات القادمة من “الواقع”، وتلك المسافة ضرورية جدا لكي نفكّر، وليس أن نكتفي بـ”الرياكشينز”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4.3 6 أصوات
تقييم المقالة
1 تعليق
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات
سمية يحيى رمضان
9 شهور

م
مفال اكثر من من ممناز يضع القارىء امام جوهر الزيف فى شتى الاحوال حتى ما كنا نظنه “‘نبل” لمجرد انه يعزل نفسه عما نسميه “‘الواقع” لنبىر ما لا يمكن تبريره من خلال معرفتنا بما يحدث ولا نملك سوى ردود الافعال التى طرحها فيلم من زمن مضى. رد الفعل الوحيد فى لواقع نعى مدى لا حتميته هو اعادة تقييم وربما اعادة تسمية كثير مما نعتبره مفروغ منه وهو لبس كذلك. اختيارات الافراد فى هذا الحال تكون هى المخلص الوحيد ولنعد لكبرجارد الذى نصحنا ذات يوم ان نتصرف فى امورنا ونسلك حياتنا على اساس انها القانون الذى يحكم كل الآخرين. لم بقصد بالطبع فرض اختياراتنا او سلوكنا على الآخرين قصد فقط المسئولية المهولة التى يحملها كل منا تجاه نفسه هو غقط لا غير. من تلك التفاصيل الصغيرة تنسج “الروايات” و “يصنع” العالم.