صدر فيلم “ناقة” السعودي هذا العام 2023، للمخرج الشاب مشعل الجاسر، الذي أتى من خلفية فنيّة بسيطة، قامت على صناعه فيديوهات موقعي يوتيوب وتيكتوك، ثم تحوّل منذ ستة أعوام لصناعة السينما الروائية، وحقق نجاحا مقبولا، نقديا وجماهيرا، خاصة في فيلمه القصير الأخير” كائن فضائي عربي”، الذي عُرض ضمن مهرجاني “ساندانس” و”أتلانتا” بأميركا، وفاز بجائزة أفضل فيلم قصير في “أتلانتا”.
في “ناقة”، الذي أنتجته شبكة “نيتفلكس”، بالتعاون مع عدد من شركات الإنتاج السعودية، أثار الجاسر كثيرا من الجدل، وبالطبع النجاح، فالفيلم كان من ضمن ثلاثة أفلام مثّلت السعودية في مهرجان تورنتو الدولي بكندا، العام المنقضي، حيث عُرض ضمن مسابقه “عروض منتصف الليل”؛ وكذلك عُرض بمهرجان البحر الأحمر في السعودية، إلى جانب اصداره على شبكه نيتفلكس منذ أسابيع، وتصدّره قائمة المشاهدات.
فهل يمكن القول إن الفيلم وضع السعودية على خارطة إنتاج الأفلام العالمية، بعد فترة قصيرة نسبيا من محاولات إحياء، أو استيلاد، سينما سعودية؟ أم أن هنالك مبالغة في تقدير نجاح الفيلم وأهميته، وما زال الوقت مبكرا للحديث عن صناعة سينمائية في الخليج العربي؟ ثم ماذا يخبرنا “ناقة” عن السعودية المعاصرة؟
الناقة المُهلوِسة: لذّة أفلام B العميقة
يُظهر فيلم الجاسر تأثّرا بالغا بتيمة “أفلام الطريق”، والأفلام السريالية أيضا، فالبناء الفني للفيلم يقوم على رحلة، تبدو أقرب للحلم، ويتشابه مع عدد من التجارب الأميركية، لدرجة تصل أحيانا للنسخ، مثل فلم مارتن سكورسيزي After hours، وفيلم Good time للإخوة سافدي.
يحافظ الفيلم على إيقاع سريع، جاذب للمشاهد العادي، عن طريق قصة تقليدية للغاية، عن يوم في حياة “سارة”، الفتاة السعودية التي تريد مقابلة حبيبها، لقضاء يوم لا ينسى في حفلة سريّة، وهي تكذب قبلها على أهلها بالطبع، وتقول لهم إنها تتسوّق مع إحدى صديقاتها. فيتحول ذلك اليوم لجحيم ينتهي، إذ تجد نفسها تتعرّض لمطارده ناقة ناقمة. تمضي الوقت وهي تهرب كي تستطيع النجاة بحياتها، بدلا من الاستمتاع بتحررها، المُنتزع من قبضة العادات الإسلامية السعودية المحافظة.
إنها قصة بسيطة للغاية في بنائها، وقد تكون مناسبة لفيلم كوميدي خفيف، ولكن الأساليب الفنيّة، التي جمع بينها المخرج، جعلت الفيلم أقرب لأجواء أفلام ديفيد لينش المعقّدة، ولكن بعد تطعيمها بكل مقومات السينما “التجارية”، وأفلام الأكشن، المنتمية لنوع أفلام B (أفلام الميزانية المنخفضة) التي اشتُهرت في أميركا في الثمانينات من القرن الماضي. وتحقيق ذلك المزج صعب جدا، فيكفي أن نعرف أن المخرج الوحيد في العالم العربي، الذي حاول أن يفعل ذلك، كان المصري رأفت الميهي، وكثير من أفلامه فشل جماهيريا، إما لإفراطها في السريالية، أو لأن “تجاريتها” بدت غير متسقة مع “عمق” موضوعها. فيما ينجح الجاسر اليوم بتحقيق هذه المعادلة الصعبة.
من هذا المنطلق فإن شهرة الفيلم ليست فقط لأنه “تجربة رائدة” من بلد محافظ، لم يعتد صناعة الأفلام، بل لها أسبابها الفنية القوية.
نقد “الانفتاح”: في استهداف كل ما هو سعودي
يعرض “ناقة” كثيرا من الأفكار الكبيرة، داخل قالبه التجاري، وهي ما أدى للجدل الواسع حول الفيلم في وسائل التواصل الاجتماعي، منذ إتاحته علي “نيتفلكس”، فالفيلم يبدأ بمشهد من عام 1975، يصوّر رجلا يقتل زوجته، لمجرد أنها سمحت لطبيب مصري ذكر بأن يساعدها في إنجاب ابنها. هكذا يدخل الفيلم، كالرصاصة، في عمق كل القضايا الإشكالية في السعودية والعالم العربي: الثقافة الدينية، مسألة الوافدين والمهاجرين إلى الخليج، العرف البدوي. إلا أن هذا كان مجرد تفصيل، لا يبني الفيلم كل خطابه عليه، إذ سرعان ما يتجاوزه ليسرد قصته، التي ليست لها أية علاقه بالمشهد الافتتاحي.
القصه تبدأ في الزمن الحالي، الذي من المفترض أنه يتجاوز تدريجيا كل انغلاق الربع الأخير من القرن الماضي، ولكننا ندرك أنه وراء قشرة التحديث، ما زالت الأمور تمضي على منوالها القديم؛ ونتعرّف على الأساطير الشعبية السعودية، بشكل قاسٍ وعنيف، يكشف ذكوريتها المفرطة، ونزعتها الاستهلاكية في الوقت نفسه.
يستمر الفيلم، لمدة تقترب من الساعتين، في نقد كل ما هو “سعودي” تقريبا، وليس فقط الأفكار الرجعية الواضحة، فهو ينتقد أيضا الشعراء والمثقفين، وكرة القدم، و”الناس البسطاء”، وكأنه يريد القول إن “الرجعية” ليست مجرد ممارسات مغلوطة، يمكن محاربتها ببعض الإجراءات الحكومية، بل هي بنية أكثر تعقيدا من ذلك بكثير. وبذلك ربما ينفي عن نفسه تهمة أنه مجرد ظاهرة أخرى من ظواهر “السياسات الإنفتاحية” في العهد السعودي الجديد. كل هذا بنبرة كوميدية، يحافظ عليها الفيلم حتى النهاية، وعبر لغة بصرية معاصرة جدا، تنجح في تحقيق الإبهار.
الرمزية اللاهثة: لماذا لا تنتهي الحكاية؟
بطلا الفيلم الأساسيان هما المونتاج والميكساج، فهو في نصفه الأول يقوم على السرد النمطي، من نقطة البداية حتى المنتصف، ثم يقرر المخرج أن يقلب خط السرد، لنراه يعود مجددا للخلف، شارحا لنا كيف وصلنا الي هنا، عن طريق تقطيعات سريعة جدا في المونتاج والتصوير.
لم تهدأ الكاميرا أبدا، على مدار ساعتين، فهي تتحرّك، وتهتز، وتتقلّب، فنشعر بالتوتر والخوف، وبعدم واقعية وعبثية كل ما يحدث. ونجد أنفسنا نركض هاربين مع سارة وحبيبها، وسط موسيقى، أبدع الميكساج في مزجها، بين نغمات أوبرالية، وأخرى حماسية، يستخدمها الجاسر وفريقه لخلق الكوميديا أصلا، ولتخفيف أجواء الفيلم، الناقدة والمتمرّدة، والكابوسية أحيانا.
إلا أنه على الرغم من بلاغة لغة الفيلم السينمائية، فإن طموحه للتجديد والإبهار يتحوّل، مع مضي الوقت، إلى عبء على أكتاف صانعيه، الذين يبدو أنهم يريدون تمرير عدد كبير من الأفكار، ما يثقل أحيانا على المشاهد، ويشعره بالملل من بعض المشاهد الطويلة جدا. إضافة لمبالغة الفيلم في المشاهد الرمزية الكثيفة جدا، التي يكررها مرارا وتكرارا. وعموما تأتي نهاية الفيلم أضعف من المأمول، فهي لا تضع خاتمة حقيقيه للقصة، ولا تشرح كل الغموض الذي راكمته، فيشعر المتلقي بأنه تعرّض لإثارة كاذبة، لمجرد الإثارة، ليس وراءها شيء كبير، ما يجعلها غريبة ودخيلة على العمل.
يمكن، من زاوية أخرى، التساؤل: هل أراد المخرج بنهايته المفتوحة، وإثارته العبثية، القول إن الفصل الحالي من حياة السعوديين ليس له نهاية أو معنى واضح؟ ربما. يتعلّق الأمر بقراءة المتلقي للعمل، وقدرته على التعاطي مع رمزياته الكثيرة.
هل سيفهم المشاهد غير السعودي، بل حتى السعودي، كل تلك الرمزيات؟ وهل تحمل معنى بالأصل؟ قد يكون هذان السؤالان غير مهمين كثيرا، ضمن المنظور الذي يعمل فيه الجاسر وفريقه، فهو يتوجّه إلى مشاهد محلي وإقليمي وعالمي، خَبِرَ كل القوالب والأنواع السينمائية، و”رأى كل شيء” تقريبا، وبالتالي فهو لا يبدأ من حيث يُفترض أن تنطلق صناعة سينما وليدة، تراعي مشاهديها، وتظن أنهم سينبهرون بأي شيء يقدّم لهم، بل من حيث وصلت السينما العالمية، وما تعوّد عليه مشاهدوها من تعقيد وسرد مركّب. وهو يخفق أحيانا في مسيرته، ولكن ينجح في كثير من الأحيان.
جدل الترفيه السعودي: هل كان الاحتفاء بالفيلم مبالغا به؟
قوبل الفيلم باحتفاء كبير علي المستوى الدولي والعربي، فمثلا أشاد به المخرج المصري الكبير يسري نصر الله، أثناء عرضه في مهرجان البحر الأحمر، إضافة لكثير من النقّاد الأوربيين والأميركيين في مهرجان تورنتو. بينما اثار كثيرا من اللغط في السعودية، ورأى البعض أنه فيلم ظالم للبلد، ويقدّم عن مجتمعه صورة سلبية، ما يجعله يغرق في أحادية المنظور.
ربما كان الاحتفاء، الذي يبدو مبالغا به، او النقد الشرس، من سمات الأفلام الرائدة في تاريخ السينما. وقد يكون ما حققه فيلم “ناقة” حلم أي صانع سينما في العالم: أن يصبح فيلمك حديث الساعة، وأن تكثر نسبه مشاهداتك.
أما على مستوى صناعة السينما السعودية، فربما في المستقبل سيُقسّم تاريخها إلى مرحلة ما قبل فيلم “ناقة” وما بعده، فهو قد نقلها إلى مرحلة جديدة فعلا، ورغم المشاكل الكثيرة في الفيلم، فإنه سيرفع المعايير في السينما السعودية، التي لن تعود بعده مجرّد “سينما تتلمّس طريقها”.
من ناحية أخرى، فإن هذا النمط من التجارب، سيساهم غالبا في إنعاش صناعة السينما في المنطقة كلها، إذ لم تعد السينما الناطقة بالعربية مقتصرة على بعض الجهات والأسماء والأنماط المتكررة، بل تبرز كل فترة مفاجأة سينمائية غير متوقّعة، من بلدان اعتُبرت، حتى وقت قريب، خارج اللعبة الفنية بأكملها. وهذا، فضلا عما سيقدّمه من تنوّع في الأصوات والثقافات والأفكار، سيخلق جمهورا متعطّشا للجديد، ارتفع سقف توقعاته، ولن يقبل بأفلام ضعيفة، بحجة أنها أفلام محلية، أُنتجت في ظروف صعبة ومنغلقة. باختصار، فيلم ناقة لا يجيء فقط لمصلحة هيئات “الترفيه السعودي”، بل لمصلحة صناعة السينما في المنطقة بأكملها.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.