اعتقلت السلطات العراقية، خلال الأيام الماضية، اثنين من صنّاع المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي، وهما تيسير العراقية ومرتضى العبودي. خرجت تيسير بعد عدة أيام، بينما حُكِم بالسجن ثلاثة أشهر على العبودي، وهو منشد إسلامي، تحوّل فيما بعد إلى مغني ملاهٍ وأعراس. وقد جاء اعتقالهما، هما وعشرات آخرين، نتيجة حملة، تصاعدت منذ شهر كانون الثاني/يناير 2023، أي منذ تشكيل وزارة الداخلية العراقية لجنة لـ”ضبط وملاحقة المحتوى البذيء والهابط”. والتهمة هي “نشر أفلام وفيديوهات تتضمن أقوالا فاحشة ومخلّة بالحياء والآداب العامة، وعرضها على الجمهور عبر مواقع التواصل الاجتماعي”، بالاستناد إلى المادة 403 من قانون العقوبات العراقي، والذي ينصّ على” الحبس مدة لا تزيد على سنتين، وبغرامة لا تقل عن مئتي دينار، أو بإحدى هاتين العقوبتين، لكل من صنع أو استورد أو صدّر أو حاز أو أحرز أو نقل، بقصد الاستغلال أو التوزيع، كتابا أو مطبوعات أو كتابات أخرى أو رسوما أو صورا أو أفلاما أو رموزا، أو غير ذلك من الأشياء، إذا كانت مخلّة بالحياء أو الآداب العامة”.
ولكن ماذا يعني “المحتوى الهابط” فعلا؟ ومَنْ يحدد الهبوط والسمو في الأعمال الفنية، وما يشاركه الناس على مواقع التواصل؟ ألا يعني هذا إعطاء سلطة التقييم للدولة، أو فئات معيّنة فيها، لفرز الجيد عن الرديء، وفق عبارات غامضة عن “الحياء والآداب”؟ هل مهمة الدولة أن تكون ناقدا فنيا، أو واعظا أخلاقيا؟ وهل الدولة العراقية بالتحديد مؤهّلة لهذا؟
بالتأكيد لا ترمي معظم الأسئلة السابقة جديّا إلى الاستفهام، فمن البيّن أن الموضوع ليس أكثر من ترتيبات سلطوية، لزيادة نفوذ قوى معينة. ربما الأجدى أن نبحث فيما وراء مصطلح “المحتوى الهابط”، علّنا نتعرّف على تلك الترتيبات، ودور الدولة نفسها، في التأسيس لـ”الهابط” في الثقافة العراقية المعاصرة.
سياسات العفة: كيف تنتج الدولة الصالح والفاسد؟
شهد العراق في الفترة الماضية عشرات الاحتفالات لتكريم النساء “الزينبيات”، أو اللواتي يرتدين زي العباءة. لا يمرّ شهر، دون أن تشهد إحدى الجامعات العراقية احتفالا بالنساء الملتزمات دينيا، سواء في داخل حرم الجامعة، أو بين الحرمين في كربلاء. وفي بعض الأحيان لا يكن طالبات، بل مجرد فتيات لا تزيد أعمارهن عن عشر سنوات، يكرّمن لبلوغهن سن الحجاب. ولا يقتصر الأمر على النساء فقط، فقد تم تكريم كثير من الرجال لأنهم “حسينيون”، أي لأنهم “يخدمون الحسين” في الجامعات. فقد أصدرت جامعة بغداد، قبل فترة وجيزة، كتابا رسميا لتكريم ومكافأة العاملين من أجل “خدمة الحسين”، عبر منحهم درجات تفضيلية.
أما على الجانب الآخر، فقد اعتقلت الحكومة ذاتها مجموعة من النسوة، ومنهن عارضات أزياء، وراقصات ملاهٍ، ومغنيات، وصانعات محتوى، بتهمة “المحتوى الهابط”. اللافت أن بعض تلك المعتقلات قد صرّح بارتباطه بجهات حكومية، مثل أم فهد، وهي بلوغر اعتقلت نتيجة إشارتها إلى علاقاتها بجهات أمنية مهمة؛ فيما كان للبعض الآخر علاقات جيدة مع التيار الصدري، إذ إن تيسير العراقية صرّحت في أكثر من فيديو لها بأنها “من محبي السيد”.
في حالة مرتضى العبودي فقد “خرج عن النص”، في إحدى أغانيه المشهورة، والتي بلغت مشاهدتها 16 مليونا، إذ أشار إلى أن الراقصات في الحفل سوف يُؤخَذن بعد انتهائه: “صورهن قبل لا ياخذوهن”، إشارة إلى عمل تلك الراقصات في الجنس.
وبالطبع، عندما تقدّم الدولة نموذجين متناقضين للعراقيين، أي “الزينبيات” و”الحسينيون” من جهة؛ و”الهابطون” من جهة أخرى، فقد يُفهم أن النموذج الأول هو المعيار في الأخلاق العراقية، والآخر نقيضه اللاأخلاقي. إلا أن هذه المقارنة لا محل لها، إذ يدرك جميع العراقيين مدى اختراق الفساد لكل النماذج، مهما بدا صلاحها، ومهما نالت من جوائز. في الواقع هذان النموذجان صنيعتان سياسيتان، تدخلان في أساس صياغة خطاب السلطة الأيديولوجي، وتشكيلها لمظاهر المجال العام، كما تهدفان إلى إبراز الهيمنة الدينية. ففي حين يصدّر النموذج الأول مشهد التشيّع الإسلامي، الذي يتغنّى بحب آل البيت،؛ يبقى النموذج الثاني موجودا، وله ارتباطاته بجهات وقوى متعددة، تؤمّن له البقاء، والسيطرة على جوانب مهمة من المشهد الاجتماعي والثقافي العراقي، باعتباره “العالم السفلي” للسلطة.
حين تستخدم الدولة مصطلح “العفة”، لتضعه في تقابل صارم مع “الهبوط”، فذلك لأنها تعرف أهمية المصطلحات، وضرورة صياغتها، لاستخدامها كما تشتهي. وعندما يصبح مصطلح “العفة” صك الغفران الذي تصدره الدولة، وتسعى له آلاف من النساء، كي لا يصبحن “هابطات”، فإنها تضيّق بذلك مساحات التفكير والجدل، وتزيد الثنائية الدينية في عقول المواطنين. فبعد وطني وعميل، مؤمن وكافر، بات لدينا ثنائية جديدة، تساهم في زيادة تعصّب المجتمع، وهي ثنائية العفيف والهابط.
يمكن فهم ضرورة هذه الثنائية الحديدة، بعد انتهاء فعالية الثنائيات السابقة، وتفرّعاتها، مثل ثنائية السني والشيعي، والحشداوي وابن الزنا الذي لا يعترف ببطولات الحشد الشعبي، وهي ثنائيات فقدت قوتها، بعد أن لعبت دورها في تصعيد الحروب والاقتتال الطائفي. لذا أصبح من الملزم صناعة ثنائية أخلاقية، تكون فيها الدولة الحامي لآداب المجتمع وثقافته. وقد يكون هذا تفسيرا لحرص حكومة محمد شياع السوداني، بعد تسلّمها زمام الأمور بأشهر قليلة، على إصدار تشريع “المحتوى الهابط”.
يجادل كثيرون بأن الثنائيات الأخلاقية تمييع للوضع الاقتصادي والسياسي المتهالك في العراق، من خلال خلط الغضب المجتمعي بالتصورات الدينية، وصناعة موقف أخلاقي، تكون الحكومة قادرة فيه على تغطية فشلها في إدارة كافة شؤون الدولة، ومحاججة المجتمع عبر الضرب على وتره الحساس. فكيف يمكن للدولة الدينية التحرّك في ظل كل الغضب الإلهي، الذي يحلّ على الناس، نتيجة الفساد في الملاهي؟ وكيف للمجتمع أن ينصلح وهو يرى فتاة ترقص، أو مطربا يغني في ملهى؟ بل كيف يحافظ الأهالي على أبنائهم من مصطلحات شيطانية غربية، مثل الجندر والنسوية؟ نعم الدولة فاشلة في كل الملفات الحياتية، ولكنها تتحرّك لحماية الأخلاق، ويكفيها فخرا.
كلها طروحات تبدو منطقية، إذا ما صنعنا لغة لا تجعلنا نخرج من ثنائية الخير والشر. التي تجعل فهم أسباب الفساد والمشاكل الاجتماعية صعبا على الناس. وهذا التفكير لا يقع فيه فقط المواطنون العاديون، بل حتى من يمكن اعتبارهم جزءا من الطبقة المثقفة، والذين لا يملكون أي تحليل أو فهم لما يحدث داخل الملاهي. هل هو فعلا مجرّد “محتوى هابط”؟
ترفيه الميليشيات: لماذا بات مغنو العراق هابطين؟
تُعتبر المهرجانات والمسارح والحفلات مصدر الدخل الرئيسي لكثير من الفنانين حول العالم، وغالبا ما تكون الثقافة مدعومة من قبل الدولة، لكن ماذا عن العراق؟ حقيقة الأمر لا يمتلك الفنانون العراقيون تلك الرفاهية، إذ لا يمكن لحنجرة، مهما بلغت قوتها، الغناء على مسرح جيد. العراق خالٍ من المسارح والاحتفاليات، وليس لديه سوى “مهرجان بابل”، الذي نظّم دورتين له؛ والأمكنة المتوفرة في بغداد وأربيل، وهي مخصصة غالبا لفنانين عرب، أو لعراقيي الخارج، أما من لم يحقق مشاهدات مليونيةـ أو شهرة عالية، فلا يمكنه الغناء إلا في الملاهي. حتى المطربون الكبار، الذين ساء وضعهم الاقتصادي، مثل ياس خضر ورعد الناصري وغيرهما، اضطروا للعودة إلى الغناء في البارات والملاهي. إذ كيف يمكن لمطربين، ليس لديهم سبيل للعيش سوى الغناء، أن لا يتصرفوا ويتحدّثوا ويتبعوا أسلوب عمل الملاهي، الذي يعتمد على “الكولات” و”التحيات” و”الكيت”؟
من جهة أخرى فإن لتلك الملاهي أهمية اقتصادية لكثير من الميليشيات، خصوصا المدعومة من جهات خارجية، تتعرض لعقوبات اقتصادية. وهو أمر بات مؤكدا، خصوصا بعد عدة تصريحات لسياسيين، أشهرها كان تصريح النائب الصدري السابق حاكم الزاملي، الذي أكّد “وجود عقود بين النوادي الليلية والأحزب”، وأن قلة توافد الفنانين على تلك الملاهي ستؤدي إلى خسائر مالية للقوى السياسية. لذا فربما بات إجبار الفنانين على العمل في الملاهي أمرا طبيعيا، ضمن البنية الحالية للثقافة والدولة العراقية. أما معاقبة بعضهم، من أجل أن تظهر الدولة برداء الأخلاق، فهو جزء من مسرحية، يقتنع بها المجتمع العراقي، ويحبها.
نساء هابطات: اقتصاد الفرار من الأخلاق
عندما نتحدث عن عدم قدرة المطربين على إعالة أنفسهم أو أسرهم، ما يجبرهم على العمل في الملاهي، يبدو الأمر مقنعا لكثيرين، لكن عندما نذكر الراقصات، يبدو الأمر وكأنه هز لثوابت المجتمع، خصوصا عندما تقتنع أغلبيته بأن النساء ليس عليهن إعالة أنفسهن، متناسيا آلاف النساء اللواتي ينفقن على عوائلهن، في ظل الانهيار الاقتصادي في البلد.
يمتهن كثير من الفتيات الرقص في الملاهي الليلية، إما لغياب المعيل؛ أو بعد هروبهن من معيليهن، نتيجة للعنف الأسري الذي يتعرضن له. فكثير من النسوة يأتين للعاصمة، أو يذهبن للشمال، بغرض النجاة، فتتعرّض كثيرات منهن لمضايقات معيشية، ويعجزن عن الاستمرار في الحياة بالمدن الكبيرة، بسبب فرض إجراءات، تمنع سكن الفتيات وحدهن في الفنادق، وتقيّد استئجارهن للشقق. هنا يقوم كثير من السماسرة باستقطاب تلك الفتيات إلى الملاهي. ولأن الحكومة العراقية لا توفّر دور إيواء للهاربات، لأنهن خارجات عن الأخلاق بنظرها، لا يبقى أمام الفتيات حلٌ سوى الخضوع لمغريات السماسرة.
تُدار الملاهي من قبل جهات لديها عقود مع ميليشيات، وتلك الميليشيات لديها قوة حكومية تمنع إصدار تشريعيات ضد العنف الأسري، أو إنشاء دور إيواء، لذا يصبح هروب النساء، وعدم توفير حماية لهن، عائدا اقتصاديا، يموّل السلاح المنفلت. وضمن هذه الدائرة المفرغة، يكون العجز الاقتصادي وعدم توفير الحماية للنساء مصدر دخل جيد، لا يمكن للميليشيات الاستغناء عنه، لكنها بالتأكيد تعيد استخدامه أخلاقيا بين فترة وأخرى، لغرض التغطية على تلك الدائرة الجهنمية.
بالطبع، لا يمكن القول إن جميع النساء العاملات في الملاهي هاربات أو مجبرات، فالرقص بالنهاية عمل، قد تختاره المرأة بإرادتها الكاملة، ويحقّ لها أن لا تتعرّض لأية محاكمة أخلاقية، من جمهور ودولة، ينتجان ويستهلكان منتجات ذلك الزقاق الخلفي للثقافة العراقية.
بعد خروجها من السجن، ظهرت تيسير العراقية في تسجيل مصوّر، وهي تبكي، وتتحدث عن رؤيتها لكل ما يحدث، وأشارت إلى نقطتين، ربما علينا التفكير بهما مليّا، ومراجعة أنفسنا أخلاقيا: الأولى أنها امرأة طيبة، لا تريد سوى العيش فقط، وهذا يظهر في كل فيديوهاتها السابقة. ربما كانت بسيطة وواسعة الخيال أكثر من اللازم، فقد سمعت مرة أن صوفيا لورين قالت إن “أجمل الفتيات هن المجريات”، فظنّت أنها تعني قضاء “المجر” في محافظة العمارة، الذي ولدت فيه، وتحمّست لتعمل وتعيل أسرتها، عبر جمالها المشهود له؛ أما الشيء الآخر فهو الأحكام التي أطلقها جمهورها عليها بعد توقيفها، فبعد أن كان يشجّعها، لدرجة أنها اعتبرته عائلتها الكبيرة، صُدمت بموقفه، الذين وصل لدرجة أن البعض تمنّى لها السجن مدى الحياة.
تيسير، بطيبتها الواضحة، لم تفهم أن المجتمع ربما كان يسخر منها، ويشجعها على الاستمرار من أجل مزيد من التسلية. لم تفهم أن كثيرين يستمعون لأغاني عنود الأسمر ومرتضى العبودي ويرقصون عليها، لكن عندما يأتي دور العباءة الأخلاقية، التي يحب ارتداؤها داخل منصات التواصل، فإن المواطن قد لا يختلف كثيرا عن حكومته، سوف يسعد بلبس تلك العباءة، فهي ربما آخر ما يعطيه أهمية أو معنى وجوده.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.