ما بعد “القضية”: إلى أين نمضي بعد فشل القومية العربية والصهيونية العلمانية؟

ما بعد “القضية”: إلى أين نمضي بعد فشل القومية العربية والصهيونية العلمانية؟

في خضم الأحداث الدامية والمأساوية، إنسانيا وسياسيا، التي يمرّ بها أهالي الأراضي الفلسطينية في كل من الضفة الغربية، وبالأخص في قطاع غزة، بعد ما سُمي “طوفان الأقصى”، وما تبعه من عدوان ومجازر إسرائيلية ضد المدنيين، ارتفعت الحالة المزاجية الإسلامية في الأقطار العربية، ومعها شعاراتها ومفرداتها، التي تهيمن على الحيز العام، في الشارع العربي والفضاء الإلكتروني، ومنها إحياء نبوءات زوال إسرائيل، أو “هزيمة اليهود”. ورغم انحسار النزعة الإسلامية في فترة ما بعد الربيع العربي، في سوريا ومصر وتونس وليبيا؛ وتكيفها مع أنظمة الحكم في بلدان أخرى مثل الأردن والمغرب والكويت، لكن يبدو أن استمرار المحور الإيراني، في العراق واليمن ولبنان، كان طوق النجاة للإسلام السياسي الفلسطيني، في ظل إعلانه الاستقلال التنظيمي عن جماعة الإخوان المسلمين، لذا كانت هيمنة حركة حماس الإسلامية على مفاصل قضية التحرر الوطني الفلسطيني، تعبيرا عن التفكك السياسي الداخلي والإقليمي.

وعلى الجانب الأخر، تتصاعد في الحياة السياسية داخل إسرائيل، الرواية الدينية وأحزابها، حتى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتينياهو، رئيس حزب الليكود اليميني، يلوّح بـ”نبوءة أشعيا”، في إشارة إلى انتصار القومية اليهودية. إذ تلفّظ بكلمات تصف الحكومة الإسرائيلية بـ”أهل النور، مقابل أهل الظلام، والحضارة في مقابل البربرية”، وهي تذكّر جزئيا بكلمات تيودور هرتزل، أحد مؤسسي الصهيونية (1) بأن “اليهود لو مُنحوا أرض فلسطين، سيكونون سورا واقيا لأوروبا ضد آسيا، وحائط صد للحضارة ضد البربرية”. هنا تقدّم كلمات نتينياهو خطابا متعدد الاتجاهات: نحو الداخل، إذ تشغله مقولات “الشعب”، في الرواية العابرة للتاريخ ضمن المخيلة القومية للإسرائيليين؛ وإلى الخارج الأوروبي والغربي، باعتبار أن بقاء الدولة العلمانية الإسرائيلية، له بعد عضوي ووظيفي للحضارة والديمقراطية. وما بين الداخل والخارج، تتصاعد الأصولية اليهودية، وتكاد تبتلع كامل دولة إسرائيل.

هنا يتبادر للذهن تساؤلان أساسيان، الأول: هل المسألة العربية-الإسرائيلية باتت محكومة نهائيا بتصاعد الأصولية الدينية الإسلامية واليهودية؟ والثاني: ما تأثير اضمحلال قوميات المنطقة، ومنها القومية الصهيونية، على مسارات الصراع، وخاصة في الشرط العالمي القائم؟  

اليهود والعرب في العالم: هل يوجد “حل نهائي” للمسألة القومية؟

عندما ذهب تيودور هرتزل إلى السلطان العثماني وبابا الفاتيكان، ليعرض مشروع الصهيونية حلا للمسألة اليهودية، لم يقابل بالجديّة، بل رفضه حتى كثير من الأرثوذكس اليهود، وكان ذلك في ظل النظام العالمي لما قبل الحرب العالمية الأولى، بما كانت تمثله الهوية اليهودية من موضع كره وتجريم في المخيلة الأوروبية، خاصة في ظل صعود نموذج الدولة القومية الحديثة. ويشير هذا إلى اللاهوت السياسي في ذلك النموذج، إذ لابد من وجود الشر لاكتمال الرواية القومية، كما على النمط الديني، لذلك تملك كل دولة بالضرورة رواية تسوّغ مشروعية بقاءها، وتلحم تماسك أعضاءها في الخيال المشترك، وتحدد عدوها، وقد كان اليهود، في كثير من الأحيان، ذلك العدو المُشيطَن.

من جهة أخرى كانت المنطقة العربية تشهد مشاكل التأسيس القومي الخاص بها، وكان الحل الأوروبي، أي البريطاني والفرنسي، للمسألة القومية بمنطقتنا في العشرينات، مرتبطا بإعادة رسم ملامحها، بما يتفق مع نفوذ تلك الدولتين، ومصالحها الجيوسياسية والاقتصادية، في خضم تهاوي الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، فدعمتا الثورة العربية، ووعود الاستقلال العربي.

وفي السياق نفسه، نجحت الحركة الصهيونية، بكوادرها الحداثيين والبرجوازيين، بإقناع الساسة البريطانيين بالحل الصهيوني، على نمط النفع المتبادل، عبر تسخير اليهود، كما كانوا قبل الدولة الحديثة، أي جماعات وظيفية، مثل أقنان البلاط، والمرابين، وجباة الضرائب، ونقلهم إلى وظيفة حداثية واستعمارية في منطقة الشرق الأوسط. فخاطبوا رغبة إزاحة الشر المُتخيّل لليهود، عبر نقلهم من الدول القومية الأوروبية إلى المنطقة العربية، التي لم تتبلور قومياتها آنذاك بعد.

ظلت أهداف الصهيونية بين أخذ ورد مع الدول المختلفة، في ظل توطيد النفوذ والعلاقات الغربية مع قادة المناطق العربية الجدد. رغم ذلك يبدو أن القراءة الصهيونية للنظام العالمي، كانت أبعد من القراءة العربية الوليدة، لذا لعبت الأيديولوجية الصهيونية على نسج أسطورتها القومية من المظلمة التاريخية (معاداة السامية)، ووحدة الشعب، ويوتوبيا أرض الميعاد، بوصف ذلك إنتاجا لمعنى مفقود، كي تؤسس لجمهورها الخيال المشترك، وهو أساس كل اجتماع بشري. كما ساهمت الأيديولوجيات الفاشية في تكريس الأسطورة، في ظل نظام عالمي آيل للسقوط، مما دفع اليهود المضطهدين والمهمشين في بعض البلدان الأوروبية إلى الإيمان التام بالصهيونية، بوصفها طوق نجاة من الهولوكوست، الذي أصبح لاهوتا سياسيا للقومية اليهودية، أشبه بالانتقال الطقسي للأضحية من المدنّس إلى المقدس.

ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وخاصة مع عقد مؤتمر بريتون وودز 1944، الذي أرسى قواعد النظام العالمي الجديد، صار بإمكان الصهيونية التوسّع، من أيديولوجية شتات إلى قوة سيدة على الأرض، وعضو في نظام عالمي ناشئ.

مثلّ انقسام العالم إلى قطبين، أثناء الحرب الباردة والخطر النووي، فرصة للدولة الإسرائيلية الناشئة لإثبات الولاء للقوى الرأسمالية، في خضم صعود حركات التحرر الوطني في المنطقة العربية؛ وكانت إسرائيل، بالنسبة لتلك الحركات، الشر الجديد، الذي يمنح الفكرة القومية العربية بريقها وثباتها، ولذلك فقد بدا، في تلك الفترة المهمة لكل من القوميتين، أن امتزاج لاهوت الشر بينهما ضروري، فكل منهما تقوّي نفسها بتعيين الأخرى شيطانا مُهدِّدا، تؤكد مواجهته الرواية المؤسسة للذات، في وقت كان فيه الشرق الأوسط أحد أهم مناطق الصراع في النظام العالمي المستجد.

بعد إسقاط جدار برلين، اتجه النظام العالمي لإعادة ترتيب ذاته، وبناء التحالفات في ظل نموذج اقتصاد السوق الصاعد، وانتشار فكرة صراع الحضارات، التي استعملها الخطاب الإسرائيلي كي يثبت أن جهاد المسلمين هو حرب إبادة ضد اليهود (2)؛ كما استعملتها الأيديولوجية العربية بضراوة، في ظل تراجع حركات التحرر الوطني، وتراجع اليسار وتفككه اجتماعيا، لتحلّ محله أطياف النزعة الإسلامية.

لكل هذا انعكاسه على المسألة القومية في بلداننا. وليس فقط القومية العربية، وإنما اليهودية أيضا.

تناقضات الحلم القومي: من “ما بعد الصهيونية” إلى “الصهيونية الجديد”

في ثمانينات القرن العشرين، نمت حركة ثقافية مناهضة للصهيونية داخل المجتمع الإسرائيلي، من مؤرخين أطلق عليهم اسم “المؤرخون الجدد،” وعلماء اجتماع وأثاريين وأنثروبولوجيين وفنانيين، في ظل صعود مقولات “الما بعدية”: ما بعد الحداثة، ما بعد الأيديولوجية، ما بعد البنيوية، الخ.

وبدأ، مع تلك الحركة، عصر تفكيك الرواية الصهيونية، من خلال إعادة قراءة الوثائق الإسرائيلية المُفرج عنها، لتكوين سردية نقدية للمقولات المؤسسة للدولة، مثل “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. كما انتقدت تلك الحركة الرواية الرسمية للمؤرخين الكلاسكيين، بداية من أحداث النكبة إلى النكسة، فعلاوة على تكوين سردية تتقارب مع الرؤية العربية الفلسطينية حول التهجير والاستيطان والاستعمار، توصلت أبحاثها الأركيولوجية والأنثروبولوجية إلى التشكيك بالدعامات التاريخية للدولة الإسرائيلية، ومنها القول بعبثية البحث عن الهيكل المقدس، وأثار الدولة القديمة المتخيّلة لليهود.

رغم ذلك فإن الصهيونية ليست مجرد أيديولوجيا تحرر وطني لليهود، يمكن تفكيكها ثقافيا، على طريقة “الما بعديات”، بل قامت على أكتاف تغيّرات اجتماعية، حصلت عبر عقود من الزمن، ما أدى إلى قيام دولة إسرائيل والنكبة العربية، خاصة التغيير الديمغرافي الذي شهدته المنطقة، منذ الهجرات الأولى لفلسطين، التي سمّيت بـ”العليَّا الأولى”، أي “العودة إلى أرض الميعاد” عام 1882، وإنشاء المستوطنات الزراعية واستملاك الأراضي والعقارات، وبناء القرى الاستيطانية على الطراز الأوروبي، التي تتمايز عن القرى العربية التقليدية. في وقت كانت فيه العمالة العربية خاضعة ومتنافسة فيما بينها، ضمن دورة المال الاستيطاني، “فالعرب في وضعية تبعية ودونية اقتصادية واجتماعية وثقافية” (3). وبعد تأسيس الدولة، التي اعتمدت رسميا في البداية على اليهود الأشكناز الأوروبيين، حدث تغيير ديمغرافي آخر، مع وصول اليهود السفارديم من الدول العربية، خاصة بعد أن لعبت القومية العربية الناشئة دورا في تهجيرهم القسري، إضافة إلى وجود الأقلية العربية، التي أُدمجت جزئيا في الدولة الناشئة. كل هذا أدى إلى تغيّر المنطقة ديمغرافيا واجتماعيا بشكل جذري.  

تزداد المسألة اليهودية في الأراضي العربية تعقيدا كلما تراكمت طبقات التاريخ والأجيال، في ظل تعقّد مسألة القومية العربية نفسها، وفشل مشاريع التحديث والتحرر الوطني. وعلى الرغم من المكاسب التي رسختها دولة الاحتلال بالقوة المادية، أيديولوجيا واجتماعيا، خاصة عبر تحويل المسألة اليهودية إلى مسألة إسرائيلية/عربية، إلا أن نبوءة الصهيونية الأيديولوجية، أي يوتوبيا الوطن اليهودي الآمن، القائم على المساواة والحرية وتقبّل الأخر، تبدو غير قابل للاستمرار، في ظل واقع التأسيس، الذي نحى اتجاه الاستعمار والإقصاء والإبادة، لذا كانت النسخة الصهيونية المثالية مُفتقدة، وخاصة أمنيا.

اعتاد الخطاب الصهيوني التستر أو تجاهل الاعتراف بانعدام الأمان الموجود في “وطن الأسلاف”، كما كان الحال عليه في المنفى والشتات، فيصبح الوعد الصهيوني بالأمان والاستقرار مؤجلا دائما إلى إشعار آخر غير معلوم، إذ بدأت الصراعات لثقافية والاجتماعية منذ “العليّا الأولى”؛ وتصاعدت مع الهجرات والاستيطان والتملّك ورسوخ المستوطنات في فترة ما قبل النكبة، وتكوين المليشيات الصهيونية، من “الهاشومير” إلى “الهاجاناه”؛ مرورا بالانتداب البريطاني، الراعي لحل المسألة اليهودية، وما رافقه من صراعات ومفاوضات؛ وصولا لـ”الثورة الفلسطينية الكبرى” في فلسطين عام 1936.

اعتقد كثيرون آنذاك، بسبب كل تلك الاضطرابات، أن تجميع يهود العالم في مكان واحد، قد يجعل مسألة التخلّص منهم أسهل. وكان ذلك الرأي مطروحا من قبل عديد من النخب، مثل مارتن بوبر فاينشتين، الذي رأى أن وجود دولة قومية لليهود، يحاط بالعداء، سوف يكون انتحارا قوميا (4)، ويستمر هذا الرأي حتى اليوم، إذ ترى المفكرة الأميركية من أصل يهودي جوديت باتلر أن نهج الإبادة والتهجير العرقي لدولة الاحتلال، هو تهديد مباشر لبقاء الدولة اليهودية (5)

اليوم، تبدو الرواية الصهيونية التقليدية لحزب العمل الإسرائيلي، الذي لعب دورا محوريا في تأسيس الدولة، مُتجاوزة إلى حد بعيد، ويشوبها تناقض ظاهر، بحسب المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، في كتابه “فكرة إسرائيل”، فهي تتراوح بين تصورين: الأول الاضطهاد والتهجير والإبادة العرقية والاستعمار؛ والأخر، الخلاص والبطولة وعدالة التاريخ. وعلى الرغم من أن نقد تيار ما بعد الصهيونية للذاكرة الجمعية والذات الأخلاقية الإسرائيلية، جاء بغية تصحيح المسار وإنقاذ إسرائيل من مآل استمرار الصراع، وبالتالي تصاعد عدم الاستقرار، فإن ذلك التيار قد هُزم، بعد أن تم وصمه بتهمة معاداة السامية.

ربما، بالعودة إلى خريطة الأحزاب السياسية في إسرائيل (6)، سنرصد التشرذم في قيادات الأحزاب التقليدية، مثل حزب العمل والليكود، وتفتت قوامها إلى كيانات أصغر، كما يمكن ملاحظة تراجع الكوادر الحزبية لصالح القيادة الكاريزماتية، وذلك ينطبق على نتنياهو. وكانت هذه فرصة مواتية لظهور تيار “الصهيونية الجديدة”، الذي عمّقته أزمة السلام والاستقرار، في فترة ما بعد اتفاقية أوسلو، واتجاه التصويت الانتخابي نحو الانتماء الإثني.

أعطت “الصهيونية الجديدة” مجالا واسعا للقوى الدينية والعرقية، التي تمثّل قاعدة أيديولوجية عنصرية ضد اليهود العلمانيين، الذين وصفوا بـ”حمار المسيح”، أي أنهم قاموا بدور نقل اليهود إلى أرض الأجداد، ولم يعد منهم فائدة، ويؤثر ذلك التيار، وعلى رأسه كتلة اليهود الأرثوذوكس “الحريديم”، على تحالف حزب الليكود الحاكم إلى الآن (7). وإذا كانت النسخة الجديدة للصهيونية نقوم على تحالف بين المستوطنين وبين “المهمّشين” المتدينين في إسرائيل، ودافعة للمزيد من الاستيطان، وداعية لفكرة إعادة بناء الهيكل، فهل يمكن لها أن تأمل باستمرار الدولة وأمانها، في محيط عربي مليء بالتطرف الإسلامي؟

الحل الفلسطيني: هل يمكن أن  يصبح “التطبيع” سبيلا؟

يردد عديد من المراقبين أن “القضية الفلسطينية” رجعت إلى الصدارة، مع عملية “طوفان الأقصى”، باعتبارها إعادة طرح للقضية الفلسطينية، ضد تصفيتها من جانب التطبيع العربي، الصريح والضمني، سياسيا وأمنيا واقتصاديا. ومع ذلك، عاجلا أم عاجلا، سوف يطرح الواقع أسئلته الملحة حول مصير المواجهة مع الاحتلال، في ظل تفاوت القوة؛ وعن مدى واقعية الهدف الحالي لـ”القضية”.

ربما يفيدنا شبح الربيع العربي، وما تعرّضت له ثوراته من فشل، بسبب غياب التنظيم السياسي، في إعادة طرح أهمية وجود برنامج سياسي فلسطيني، رغم أن البعض يحاجج أن الحصار والاستيطان يظلان عائقا أمام أي مشروع سياسي، ورغم أن هذا الطرح لا يخلو من وجاهة، لكن الاستسلام إليه بشكل مطلق يقزّم من الحلول الوطنية، التي ترتبط بالنظام العالمي والرأي العام والسياسة الدولية.

في كتابه، “إعادة نظر في النظام الدولي”، يتخذ الأكاديمي الدنماركي يورغ سورنسن، تحليلا تعدديا للنظام العالمي، بعيدا عن النظرة الأحادية المركزية، ففي ظل النظام الحالي، ازدادت هشاشة الدول، بالأخص دول الجنوب، ما يجعلها تنزوي على مشاكلها الداخلية، فترتبط بكل ما يسود في النظام العالمي تحت قبضة النفوذ الأمريكي. لكنّ الوضع تغيّر مؤخرا نسبيا، خاصة مع توسعات مصالح روسيا والصين ومجموعة البريكس، وفق نموذج لا يسعى لاستبدال النظام العالمي، بل يؤكد على مصالح دوله الوطنية في إطاره، وكذلك في ضوء توازن القوة النووية. ويرى سورنسن أنه بالرغم من انتصار اقتصاد السوق الرأسمالي، وما يسمى “حكم الشركات”، إلا أن الدول مازالت اللاعب الرئيس في السياسات الدولية. ربما نرى أن القرار السياسي مرتبط باعتبارات السوق والمصلحة، ولكنه في الآن نفسه منفصل لاعتبارات الاستقلال القومي، أو الحد الأدنى منها. وهكذا ربما يتيح الشرط العالمي المعاصر مجالا لعودة الحديث عن الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني.

في ضوء القراءة، التي تعطي منطقة الشرق الأوسط أهمية معيّنة، داخل النظام العالمي، ربما يكون من الضروري إعادة الاعتبار لضرورة وقوف المسألة الفلسطينية داخل إطار سياسي موحّد وشرعي، ومتصل مع الخارج على نحوين: الإقليم العربي؛ والإطار الدولي، خاصة بالاتصال مع المسألة اليهودية الأوروبية. وربما يمكن التعويل على التأثير داخل النظام العالمي، من خلال دمقرطة، وعولمة، و”تطبيع” قضية الفلسطينيين، ليس على طريقة “المطبعين العرب”، بل تطبيعها عالميا، عن طريق التأكيد على حقي العودة وتقرير المصير، وجعلها “طبيعيين” في أي حديث عن كل من المسألتين العربية واليهودية.

من الواضح، عبر رصد الأحداث، أن الفعل العسكري لحركة حماس في غزة منزوع السياسة، ما يجعل التفاوض عبر وسطاء سياسيين، مصريين أو قطرين، وليس فلسطينيين. ولا شك أن ذلك يرجع إلى عوامل التفكك الداخلي بين حركتي فتح وحماس، في ظل توسعات الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي. لكن لا يمكن الحديث عن أي “تحرر الوطني”، دون القالب السياسي الواضح. وقد يضيع كل ما شهدناه من تضامن، في أوساط الرأي العام العالمي، في مدن أوروبا وأمريكا بالأخص مادام تمثيل الفلسطينيين مشرذما وذاتيا وشخصيا، وليس سياسيا.

ربما يكون الفعل الأجدى هو الاعتماد على السياسة الجادة والتنظيم القائم على التعددية،  لإحياء كل من “ما بعد الصهيونية”، و”تطبيع” الحقوق الفلسطينية دوليا، للوصول إلى سرد رواية عربية-إسرائيلية جديدة، متصلة أيضا بعولمة القضية في نطاق عرب ويهود الشتات المناهضين للصهيونية، وبالشارع العالمي، وهذا بالضبط ما يمكن أن يوصلنا لما يمكن تسميته “ما بعد القضية الفلسطينية”، أي “القضية” في مرحلة ما بعد أزمات مشروعي القومية العربية واليهودية، واضمحلالهما الكارثي، نحو التطرف والهمجية.

 إن طريق “ما بعد القضية”، هو تجاوز الأفكار التي لجمت كل سبل تعددية النضال. عبر فتح حيز العمل السياسي، في الداخل والخارج، والاستعانة بجماعات ضغط في الشارع العالمي، تؤثر وتناوئ جماعات الضغط الصهيونية، لذا لابد له من ممثل شرعي موحد، يحمل برنامجا سياسيا، مطروحا طبقا لمفردات الواقع العالمي. ما قد يجعل من الضروري تجاوز كل من حركتي حماس وفتح.

طريق النكبة، لم يكن تاريخ استعمار فقط، بل كان تاريخ فشل حركات القومية العربية، بعد سقوط الخلافة، وربما كانت إجابة سؤال “ما العمل؟” هي محاولة الوقوف بوجه كل من الاستعمار والتطرف الديني، فيما قد تكون الدمقرطة والعولمة و”التطبيع”، وكل مسائل “ما بعد القضية”، مبادئ إنسانية، قبل أن تكون حلا سياسيا، وإن كانت طريقا إليه.

مصادر

  1. الدولة اليهودية، تيودور هرتزل.
  2. الحرب والسلام في الشرق الأوسط، آفي شلايم
  3. فكرة إسرائيل (تاريخ السلطة والمعرفة)، إيلان بابيه، ترجمة: محمد زيدان.
  4. تحديات ما بعد الصهيونية، إفرايم نيمني
  5. تفكيك الصهيونية (نقد ميتافيزيقا سياسية)، ف3 هل اليهودية هي الصهيونية؟ جوديث بتلر، تحرير جياني فاتيمو ومايكل ماردر
  6. الأحزاب السياسية في إسرائيل، أنطوان شلحت.
  7. تحديات ما بعد الصهيونية، ف2 الدائرة المفرغة/ الصهيونية التقليدية وصراع البقاء، ايلان بابيه.
4.5 6 أصوات
تقييم المقالة
2 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات
khaled abdalla
15 أيام

مقال محكم وملم بأهم الخيوط التي غضضنا الطرف عنها، شكرا عصام

محمد عادل زكي
14 أيام

تسلم ايدك والله