فيلم El conde.. أو كيف “نتصالح” مع فكرة الديكتاتورية التي لا تموت؟

هل يحتاج الإنسان إلى شجاعة لكي يشاهد فيلما؟ سؤال غريب ولكنه قد يراودك بمجرد الانتهاء من فيلم El conde، الصادر العام الحالي 2023، للمخرج التشيلي بابلو لارين، والمتوفّر على شبكة نيتفليكس. والسبب أن هذا الفيلم ينتمي إلى الأفلام المُرهقة ذهنيا، التي تحتاج لقدر من المعلومات والخلفيات السياسية، لكي نفهم العلاقات المتشابكة داخله، إضافة إلى شجاعة تحمّل مشاهد شق الصدور وشرب الدماء، التي نُفّذت ببراعة شديدة، تجعلك تتحسّس فمك وصدرك، وأنت تشاهد لحظات فرم القلوب وشرب عُصارتها.
تقوم فكرة الفيلم على فرضية خيالية: “ماذا لو لم يرحل الدكتاتور أوغستو بينوشيه؟”، حاكم تشيلي، منذ انقلابه العسكري عام 1973، وحتى عام 1990، قبل أن يتوفى عام 2006. ويقدّمه المخرج بوصفه مصاص دماء، كان يتربّص في الظل السياسي منذ الثورة الفرنسية، ويظهر ليأكل قلوب ضحاياه، مستمرا على قيد الحياة لعدة قرون، إلى أن اختلق قصة رحيله عام 2006، واختبأ في قرية نائية في تشيلي بعيدا عن الأنظار، مع زوجته لوسيا والخادم الروسي فيودور، ويقع في حالة اكتئاب شديدة، مستاءً من إجباره على رؤية رواية التاريخ السائدة، التي تصفه باللص والديكتاتور والطاغية.
بينوشيه أكثر من ديكتاتور فرد، وإنما شبح يتنقّل بين العصور، وفي أزمنة مختلفة، ليدعم الدكتاتوريات ويقمع الحريات، وهو ابن غير شرعي لشخصية مشهورة تاريخيا، تظهر هي الأخرى في الفيلم مصاصة دماء، ولن نذكر اسمها الآن.
ولكن لماذا قدّم المخرج الديكتاتور الشهير بوصفه مصاص دماء يتمتع بالخلود؟ وكيف عبّر عن هذه الفكرة في لغته السينمائية؟ وما علاقة فكرة الديكتاتورية الخالدة بسياساتنا المعاصرة منذ الثورة الفرنسية؟
اعتمد لارين في فيلمه على أسلوب سينمائي يعود لبدايات القرن العشرين، وهو “التعبيرية الألمانية” هو مصطلح راج في ألمانيا مطلع عام 1910، وارتبط بما يُعرف بـ”سينما فايمار”، نسبة لجمهورية فايمار الألمانية (1919-1933) والتي اتسمت بضعف سلطة الدولة، في ظل تضخّم اقتصادي حاد، ونفوذ ميليشيات سياسية متطرفة، واستياء عام، بسبب توقيع معاهدة فرساي، بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. ولكن على المستوى الثقافي، تميّزت هذه الفترة بازدهار شديد، وأُنتجت فيها أفلام شديدة الأهمية في تاريخ السينما العالمية، مثل الأفلام التي أخرجها المخرج الشهير فريتز لانغ، وتروي قصصا حول طغاة متخيّلين. ومن أبرز أفلام الحقبة “خزنة الدكتور كاليغاري” (1920، إخراج روبرت وين)، “الدكتور مابوسي المقامر” (1922، فريتز لانغ)، “نوسفيراتو: سيمفونية رعب” (1922، ف.و. مورنو)، و “م: مدينة تبحث عن قاتل” (1931، فريتز لانغ)، وكانت جميعها أفلام تطغى عليها أجواء الرّعب والقتل والتلاعب.
“توجه التعبيرية رؤيتها دوما إلى الاضطراب والتشظّي، وإلى التعارض والانفصال”، بحسب ما ورد في كتاب “السينما التعبيرية الألمانية” للمخرج إيان روبرتس، ويستخدم هذا الأسلوب الظل والضوء للتعبير عن ذلك التشظّي والتعارض. اتبع لارين كل هذه القواعد، بل صوّر فيلمه بالأبيض والأسود، لزيادة حالة الغموض والكابوسية، التي يتسم بها الفيلم.
نحن أمام قصة مُتخيّلة عن شخص حقيقي، ولكن الجانب التاريخي في الفيلم لا يتعدى المشاهد الافتتاحية الأولى، التي تصوّر لحظات انقلاب تشيلي الأولى، الذي قاده بينوشيه، عندما قصف قصر الرئاسة، وقتل الرئيس المنتخب سلفادور أليندي (وهنالك روايات أخرى عن انتحاره)، واستولى على الحكم، وكل هذه الدقائق تُروى بصوت سيدة مجهولة، لا نكتشف هويتها إلا في الثلث الأخير من الفيلم. أما الجزء الأكبر منه فهو ينتمي إلى خيال مؤلفيه جييرمو كالديرون وبابلو لارين.
لجأ لارين إلى هذا الأسلوب، لأنه جزء أصيل من الفكرة التي يعرضها: نحن نرى وجهة نظر دكتاتور من الداخل، بعد أن نفترض أنه ما زال حيا، ويرى نفسه متهما بالقتل والفساد والدكتاتورية، وحُرم من التقدير، فلم يجد تمثالا واحدا يمجّده في القصر الرئاسي (ظهر ذلك من خلال مشهد في النصف الثاني من الفيلم)، لأن التعبيرية “تحاول تصوير المشاعر الذاتية للفنان، بوصفها استجابة للواقع، وهي أيضا تعبير عن مفهوم أن العالم الخارجي هو تعبير عن العالم الداخلي للشخصية، ويُحقّق هذا المبدأ السينمائي عبر المبالغة والتشويه، وعرض ما هو غريب ومخيف ومروّع كالكابوس”، بحسب ما ورد في كتاب “تاريخ السينما الروائية”، للناقد ديفيد كوك. وبالفعل فيلمنا هنا ابن بيئة صانعه، وفي الوقت ذاته معبّر عن ذاتية الشخصية الرئيسية، التي هي محور الأحداث.
قال لارين، في حوارات صحفية سابقة: “لقد نشأت في بيئة محميّة، حيث لم أتعرض قط لأي من مخاطر الدكتاتورية، لأن أفراد الطبقة المتوسطة العليا في عائلتي، في ذلك الوقت، كانوا يمينيين، وما زالوا كذلك، لذلك كنت بحاجة إلى خلق وعي اجتماعي وطبقي خاص بي، والذي تطور بين المدرسة الثانوية والكلية”ـ وفي مقابلة مع صحيفة “غارديان” البريطانية، قال لارين إنه “مواطن تشيلي، وتشيلي هي عالمه، فكيف لا يُسمح له بالحديث عمّا حدث في الماضي!”.
لقد ظهرت فكرة تأثير الدكتاتورية على المجتمع التشيلي في أكثر من عمل للارين، ثلاثة من أفلامه السابقةTony Manero 8 عام 2008، و Post Mortem عام 2010 ، و No عام 2012، تشتمل على ثلاثية، تتتبّع دكتاتورية بينوشيه، منذ الانقلاب، وحتى الاستفتاء الذي صوّت لإخراجه من السلطة. يعتبر لارين سيرة الطاغية مفصلية في حياة تشيلي، لذلك يصوّر الدكتاتور حيّا حتى الآن، يتجوّل في شوارع البلد، ويقتل الناس، ينزع قلوبهم ويشرب عصارتها، في دلالة على استمرارية آثار الديكتاتورية، التي لا يمكن أن تنتهي ببساطة بمجرد رحيل الديكتاتور جسديا، إذ ما زالت لها تبعاتها الاقتصادية والثقافية، وكلفتها البشرية.
لم يخطط المخرج أبدا لأن يصبح بينوشيه شخصية أساسية في كثير من أعماله، على حد قوله، بل كان “منجذبا إليه”، وظل يقترب أكثر فأكثر منه مع كل فيلم، حتى جاءت اللحظة، التي قرر فيها الخروج بفيلمه “إل كوندي”، الذي يهتم فيه بكيفية تصوير الديكتاتور على الشاشة، وهي المرة الأولى التي يلعب فيها ممثل دور بينوشيه في عمل سينمائي روائي.
نحن أمام تعبير بالغ الدقة عن رؤية المخرج لتلك الشخصية، من خلال توظيف اللغة السينمائية، للحصول على عمل فني متكامل على مستوى الصورة. فنرى مشاهد بالأبيض والأسود، تصوّر منزلا في مكان ناءٍ، لكي يصل إليه المرء، عليه عبور بحيرة ضخمة وسط الضباب. وهو مصمّم وكأنه منزل خفاش ليلي، وتحته أنفاق كثيرة، يحفظ فيها الديكتاتور قلوب الضحايا، لكي تظل تخفق، ويصنع منها مشروبه المفضّل، إضافة إلى الكادرات التي جاء أغلبها قريبة close up و very close up. مثل مشهد الافتتاحية. عندما يستيقظ بينوشيه من نومه، ولا نرى سوى أسنانه، التي تراكم الدم بينها بشكل مقزّز، وهو يحاول تسليكها بأصابعه؛ وفي مشاهد أخرى نرى كيف يشرب الدماء، ويخرج القلوب من أجساد ضحاياه، الذين أظهر المخرج أن أغلبهم عمّال بسطاء. المكان في الفيلم يرتبط ذهنيا بأشكال منازل مصاصي الدماء في الأفلام الشهيرة، ويبدو أن الانجذاب، لهذه الدرجة، نحو الصورة المرعبة للديكتاتور، نوع من المصالحة الخيالية مع استمراريته، فبدلا من أن يبقى رعبه غير مدرك أو مسيطرا عليه، نصنع عنه صورا، قد تكون جذّابة في رعبها، ولكن نحن من صنعناها في النهاية، ونسيطر عليها. هكذا، ربما، يصوّر المخرج حقيقة استمرار الديكتاتور، ويحاول السيطرة عليها في الوقت نفسه.
نلاحظ هنا أن ذاتية شخصية بينوشيه طاغية، نحن نراه وهو يتحدث عن ذاته، وكيف خدم البلد، وأنه لم يسرق، ووصفه باللص هو الأمر الأكثر إزعاجا له. هو غير منزعج من اتهامه بالقاتل، ولكن كلمة “لص” أكثر ما يصيبه بخيبة أمل، تجاه ما يظن أنه قدمه لوطنه. إضافة لزياراته المتكررة لقصر الرئاسة، وسخطه على عدم تكريمه، وكل ذلك قُدّم في إطار كوميدي، قائم على المفارقة بين دلالة الكلام ومقصد القائل.
وفي إسقاط واضح على مدى دموية الحكم العسكري الانقلابي، يخصّص صناع العمل، كادرات واضحة، بأحجام مختلفة، لبيونشيه وخادمه، وهما يرتديان البدلة العسكرية، قبل الذهاب لصيد البشر وامتصاص دمائهم؛ وكادرات أخرى للديكتاتور، وهو يحلّق فوق مدينة سانتياغو ليلا، قبل الانقضاض على فرائسه.
جذّاب ومخيف وطاغي الذاتية، هكذا يبدو أحد أهم أشباح عصرنا.
نكتشف، في الثلث الأخير من الفيلم، أن الراوي، الذي سمعنا صوته في البداية، وصاحبنا في أجزاء مختلفة من الفيلم، كان “المرأة الحديدية”، كما تم وصفها، التي تولّت منصب رئيس وزراء بريطانيا لسنوات، مارغريت تاتشر، ولا يكتفي المخرج بكونها راوٍ خارج الأحداث، بل يدخلها إلى قلب الفرضية، التي يقوم عليها العمل. نشاهدها تطير في السماء أيضا، مثل مصاصي الدماء، وتهبط لوقف مهزلة انجذاب بينوشيه لراهبة، جاءت لتقضي عليه. وبالفعل تحاول السيطرة على الوضع، وتساند بينوشيه، الذي نكتشف أنه ابنها، نتيجة علاقة غرامية بينها، عندما كانت مزارعة فقيرة، وصياد مصاص دماء. وبعد أن أنجبت بينوشيه، تركته أمام إحدى دور الأيتام الفرنسية، وغادرت.
تسيطر تاتشر على الوضع، تنقذ ابنها، و”تحميه من نفسه”، ومن مؤامرة الخادم والزوجة الخائنة، وتأمره بالتخلّص من الراهبة، وبالفعل يتم قطع رأسها، وحرق جميع الجثث، ويعود الدكتاتور إلى قصره في سلام.
استخدم لارين لشخصية تاتشر إسقاط واضح وصريح على دعم الحكومة البريطانية لبينوشه في الماضي. ففي الحياة الواقعية، ناصرت تاتشر بينوشيه؛ وبعد خروجه من الحكم، ودعوة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب إلى إطلاق سراحه من الإقامة الجبرية في لندن عام 1999، بحجة أنه ينبغي السماح له بالعودة إلى تشيلي، بدلا من تسليمه إلى إسبانيا لمحاكمته، أرسلت تاتشر له، التي خرجت بدورها من الحكم آنذاك، زجاجة من الويسكي الفاخر، مع ملاحظة مفادها: “لن نخذلك أبدا”، بحسب ما ورد في صحيفة “تايم”.
الاستعارة المحورية للفيلم واضحة جدا، وهي أن بينوشيه ونظامه، وتداعيات ذلك النظام، مستمرة ولا تموت بسهولة، مثل مصاصي الدماء، وكذلك النظام العالمي، الذي دعمه، ودعم سياساته الاقتصادية، المعروفة باسم “النيوليبرالية”.
حسنا، ربما كان الفيلم ورمزياته واضحا ومباشرا أكثر من اللازم، فالديكتاتور شبح ومصاص دماء، يتربّص بنا منذ مطلع التاريخ المعاصر (الإشارة إلى الثورة الفرنسية) وبدء عمليات “التحديث”، التي كثيرا ما كانت تأتي على حساب حياة ودماء الفئات الأفقر والأضعف، ويجب دائما أن نحذر من هذا الشبح، ولا نتناساه، أو نظن أنه مات؛ كما يجب أن نعيد توطينه في ذاكرتنا، في المكانة التي يستحقها، والتي نستطيع السيطرة عليها، بعد فهمه، وإعادة إنتاج صورته. رغم كل هذا فإن هذه الرمزية المباشرة لم توقع الفيلم في الابتذال، فهو اعتيادي ومباشر فقط على مستوى الرسالة، فيما كل شيء آخر فيه مبهر ومبتكر: العودة لـ”التعبيرية الألمانية”؛ الصورة والكادر واللغة السينمائية؛ لعبة الظلال؛ المشاهد الفانتازية المرعبة؛ غرابة الحبكة؛ “التجرؤ على التاريخ”؛ الأداء التمثيلي. كل هذا يجعله فيلما متعبا، يستحق المشاهدة، ويُكسب مشاهده منظورات ورؤى جديدة.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.