وسط دمار غزة: هل تنفعنا العودة إلى “تأملات في شقاء العرب”؟

قد تدفعنا الأحداث، التي مرت على المنطقة العربية، بعد عام 2011، وما يجري اليوم في غزة، والحرب الإسرائيلية، التي تبعت “طوفان الأقصى”، إلى العودة لقراءة كتاب سمير قصير “تأملات في شقاء العرب” (2005)، علّنا ندرك كيف فهم جيل أقدم من الكتّاب والمفكرين أسباب هذا الشقاء واستمراريته، والأفق المسدود، على ما يبدو، للخروج منه؛ وهل ما زالت مساهماتهم صالحة حتى اليوم؟
وقد يبدو سؤال “هل من حاجة لوصف شقاء العرب؟” زائدا على اللزوم، فذلك “الشقاء”، هو الذي أودى بمؤلف الكتاب للاغتيال، في الثاني من حزيران/يونيو عام 2005، لمجرّد أنه، بحسب كاتب مقدمة الكتاب، إلياس خوري، “كان يبحث عن بداية، تواصل الفكر التنويري الذي صنعته النهضة العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فقاده الشقاء العربي إلى نهايته المأسوية”.
“لا خير في أن تكون عربيا هذه الأيام”، قد تكون جملة قصير هذه أصدق ما يمكن أن يقال عن “اللعنة”، التي تلاحقنا، وتمد أذرعها في كل تفاصيل حياتنا. كيف حدد قصير تلك اللعنة؟ وهل استطاع فعلا أن يخرج من أسرها؟
في تحليله للإسلام السياسي يرى قصير أن “هذا المنحى الديني هو في حد ذاته من علامات الشقاء العربي“، ولم يكن ليتم لولا الأنظمة الدكتاتورية والشمولية التي تحكم المنطقة العربية، وتضطّهد شعوبها، التي باتت، في غالبها، ترى الدين حلا لمشاكلها وهمومها. وفي هذا السياق يؤكد: “لئن كان صعود الإسلام السياسي نتيجة للإفلاس الديمقراطي، فإنه لا يمكن اعتباره حلاً لمأزق الدول والمجتمعات العربية، بل إنه، نظرا إلى كونه شكلا من أشكال مقاومة القمع، يُولد كذلك من فشل قيام الدولة الحديثة، والفرص المتكافئة التي وعدت فيها إيديولوجيات التطور، وبذلك فإنه يشبه نهضة الفاشيات في أوروبا“. والحال أن “السلوك المجتمعي للحركات الإسلامية، وبمجرد أن تنزع عنها الطابع الديني الذي ترتديه، تنمّ عن الكثير من أوجه الشبه بينها وبين الدكتاتوريات الفاشية“.
رغم كل هذا النقد، الذي يبدو لاذعا، للنزعة الإسلامية، واعتبارها نتيجة لـ”فشل” الدولة العربية وقمعها، إلا أننا لا نجد لدى قصير، ولدى معظم مفكري جيله، أي محاولة للربط البنيوي بين الإسلام السياسي والقومية العربية، التي حكمت غالبا “الدولة العربية”، وكلاهما حركتان منتميتان لنموذج “التحرر الوطني” العربي؛ ورغم أن كليهما، بوضوح، قد وجّهتهما الهوية الأحادية، ورفض التعددية في مجتمعاتهما.
ربما يمكن القول، من هذه الزاوية، أن صعود الإسلام السياسي لم يكن بسبب “فشل الدولة العربية”، أيديولوجيا على الأقل، بل ربما لنجاحها أكثر من اللازم؛ كما أنه ليس “مقاومة لقمعها”، وإنما استمرارا وتوسيعا له.
ورغم ما قد يبدو من تباعد إيديولوجي نظري بين القوميتين الإسلامية والعربية، إلا أنه من المستغرب عدم ملاحظة تشابكهما، وتداخلهما بطرائق مختلفة، فمن المفارقات التاريخية أن عبد الناصر عام 1952 وصل إلى السلطة، بعد انقلاب “الضباط الأحرار”، بدعم من الإخوان المسلمين، ليصبح البطل القومي العربي؛ وكذلك أن المؤسس الأيديولوجي لحزب البعث، المسيحي الأصل، ميشيل عفلق، أشار إلى أنه “قد تم إحياء قوة الإسلام، لتظهر في أيامنا في شكل جديد، ألا وهو القومية العربية”.
وربما غاب عن الكاتب أيضا أن الصراع بين هاتين القوميتين لا يبدو أكثر من صراع على السلطة وزعامة “الأمة”، وإن كان إيديولوجيا في ظاهره، والمفارقة أيضا أن القوميين العرب استخدموا المؤسسات الدينية، أداةً لحشد الدعم المحلي والإقليمي لأجندتهم وسياساتهم في المنطقة، مثل دور الإفتاء، وجامعة الأزهر، والمرجعيات، والحوزات الدينية.
قد يدفعنا هذا للقول إن بروز النزعة الإسلامية، على حساب النزعة القومية العربية، لم يكن تغيرا بنيويا في العقلية الشوفينية السائدة، بل انقلابا فكريا في داخل العقلية نفسها، وفّر له النظام العربي بيئة خصبة للتنامي، مثل الفقر، والأمية، ونشر النزعة الإمبراطورية/القومية.
يبدو، بالنسبة لقصير، أن هنالك صيرورة تاريخية، تدفع لـ”إنجاح” الدول، وواضحة الاتجاه. وبالتالي فإن نقده يقوم على التحسّر على عدم انحيازنا للجانب الصحيح من التاريخ، وليس على ملاحظة العوامل البنيوية، المنتجة للتفكير الشوفيني العربي. قد يكون قوله مناسبا للعقد الأول من الألفية، إلا أن الظرف الآن، و”صيروات التاريخ” نفسها، تبدو أكثر تعقيدا.
في تركيزه على قضية الإرهاب الإسلامي، ينبّه الكاتب إلى “مقدار الخطأ في التوهّم بإمكان الإسلام السياسي أن يوفر فرصة للخروج من الشقاء العربي، وهو سبب من الأسباب المؤسّسة لهذا الشقاء“. ولكنه في الوقت نفسه، يميز بين “الإسلاموية” و “الجهادية”، ولا يعتبرهما مترادفتين: “ليست القومية الإسلامية، مرادفة للجهادية، فهي بشكل أساسي ذات طابع دفاعي، بينما قد يصل الأمر بالجهادية إلى حد اعتبار نفسها فتحا جديدا للعالم، والفرق بينهما دقيق جدا“. ولكنه لا يُنكر أيضا أن “القومية الإسلامية تمهّد الطريق إلى الجهادية، لأنها، وإن كانت لا تنفي حال الشقاء بخلاف نظيرتها، إلا أنها تهيّء أولئك، الذين يتذمرون منها، للانسياق ورائها، وذلك إلى حد عدم الرغبة في الخروج منها، إلا بما يشبهها، أي بثقافة الموت، هذه الثقافة، التي يريد هذا الاتحاد بين القومية العربية المتحجّرة والإسلام السياسي اختصار عمل المقاومة بها“.
بل وأكثر من ذلك، يرى أن الجهادية الجديدة “لم تعد ترى في الموت ثمنا ممكناً أو محتملا، بل الوسيلة الحتمية للهدف المنشود، بل الهدف ذاته“.
هنا، قد يمكن لكثيرين اليوم أن يؤكدوا مع قصير أن “ثقافة الموت” هذه غدت وسيلة مبرَّرة للتنظيمات الإسلامية، وهذا قد يتجسّد في غزة الآن، بعد عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حماس، وقبلها في حرب تموز/يوليو 2006، مع تنفيذ حزب الله لعملية أسر الجنود الإسرائيليين، على سبيل المثال لا الحصر. “الأصولية الإسلامية إن لم تكن، أو لم تعد، عميلة للأجنبي، فإنها تجعل هذا الأجنبي على حق، حيث أنها حين تبرر صدام الحضارات إلى حد ممارسته، وتقدم لمؤيدي الصليبية فرصة اللقاء، وتعطي الغرب فرصة استخدام مختلف الوسائل، التي تسمح بها قدراته التكنولوجية، كي تحافظ على تفوقه على العرب، مؤبّدا عجزهم“. يقول قصير.
يمكن إذن، بحسب ما يمكننا استقراؤه من الكتاب، أن نحدد أربعة عوامل للشقاء العربي واستمراريته: أولها الأنظمة الدكتاتورية، التي أخذت طابعا “توتاليتاريا”، خاصة الأنظمة التي اعتلت السلطة على ظهر القومية العربية؛ وثانيها الإسلام السياسي، والذي أصبح الواجهة السياسية للجهادية؛ وثالثها بنية العقل العربي المتحجّر الرافض، في معظمه، لكل جديد، والذي مازال يعيش على “أمجاد الماضي”؛ أما رابعها، قد يكون تبعية الأنظمة العربية للقوى الإقليمية والدولية المؤثّرة في المنطقة، وانقسامها إلى محاور متصارعة.
ربما يكون تحديد هذه العوامل، ولو حتى على مستوى العناوين الرئيسية، مفيدا للجدل حول أسباب شقائنا، مهما اتفقنا أو اختلفنا مع الكاتب المغدور، أو طرق ربطه بينا؛ ومهما كان رأينا في منهجه.
ولكن ماذا عن فلسطين نفسها، التي تمحور حولها دائما كثير من “شقاء العرب”؟
يبدو الوضع اليوم في الأراضي الفلسطينية أشد مرارة مما وصفه سمير قصير في كتابه: “عند كل فصل من فصول القضية الفلسطينية كان العجز ماثلا، وقادرا على الإرباك“. وقد تجلّى على سبيل المثال في “قضايا مثل ضم إسرائيل القدس الشرقية، أو سياسة قضم المناطق المحيطة بالمدينة، أو السياسة الاستيطانية الدؤوبة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بعد توقيع اتفاق أوسلو“. والحال أن ذلك العجز “تحوّل إلى نوع من الحتمية، كما تبيّن في مسألة بناء جدار الفصل العنصري“.
ويرى قصير أن بداية هذا النهج الإسرائيلي كانت عندما “صُنع التفوق الإسرائيلي، الذي يكوِّن العرب نظرتهم إلى العالم وإلى أنفسهم على أساسه، نموذجه في حصار بيروت صيف 1982م، فقد بدا الطيران الإسرائيلي ، في سابقة الهجوم على عاصمة عربية، استعراضيا، مضاعفا قصفه المكثف، الذي لم ينج منه حتى الكنيس اليهودي في بيروت“، فيما “القادة العرب العاجزون عن تغيير موازين القوى، يتوجهون إلى الولايات المتحدة طالبين منها العمل على الحد من التطرف الإسرائيلي، ولا يحققون أي نجاح يُذكر إلا في بعض المطالب العابرة“.
يبدو كل هذا وصفا كلاسيكيا لـ”الهزيمة العربية” التي لم يخرج المؤلف عن تقليد الأدبيات التي حللتها، منذ عام 1967 على الأقل، إذ يربط الهزيمة بفشل عربي عام في كل المجالات، يمنع الدول العربية من فرض روايتها عن الحق في المنطقة.
لكن تغيير موازين القوى مع إسرائيل، لا يبدو من أولويات “العرب”، أو النظم العربية الحاكمة بصورة أدق، بقدر ما يبدو همّا للمثقفين، على اختلاف مشاربهم، اذ ذهبت الدول، التي تتبع المحور الغربي، ومنها دول الخليج على وجه خاص، باتجاه التطبيع مع إسرائيل، في مواجهة الهيمنة الإيرانية على العراق وسوريا، والحوثيين في اليمن؛ أما في دول “الممانعة”، ومنها سوريا، فيبدو أن الجيش الذي استهلك 80% من ميزانية الدولة على مدى عقود، بحجة العدو الرابض على حدود الجولان، قد تحوّل إلى ميليشيا في مواجهة بقية الميليشيات، ويتلقّى بصبر الضربات الإسرائيلية، شبه الأسبوعية، لمواقع سورية-إيرانية داخل أراضيه. فيما تُركت القضية الفلسطينية ورقة تتلاعب بها إيران، وتتغلغل في المنطقة من خلالها، بأذرعها المتطرفة. وبالتالي فإن “شقاء العرب” قد يبدو أكثر تعقيدا من مجرّد أنظمة مهزومة في مواجهة عسكرية مع دولة احتلال.
ربما كانت عملية “طوفان الأقصى”، بالنسبة لكثير من مؤيديها، محاولة للخروج من “العجز العربي”، الذي وصفه قصير وكثيرون غيره، ولكنها لم تنجح فعليا إلا بزيادته. والسؤال الذي يطرحه كثيرون هنا: هل كانت حماس غافلة عن طبيعة الرد الإسرائيلي؟ أم أنها تعرّضت لخديعة، وتم توريطها من قبل إيران؟
قد يصعب معرفة الإجابة في ضوء ما هو متوافر لدينا من معطيات حاليا، ولكن ربما يمكن القول إن الإغراق بالتفكير في “العجز العربي”، المطروح على أنه فشل عسكري واستراتيجي، سببه فشل حضاري، لم يساعد كثيرا على تجاوز “شقاء العرب”، بل ربما، في هذه النقطة بالذات، لا يبدو قصير مختلفا جذريا، في طرحه لـ”العجز”، عن طموحات ومنظورات من ينتقدهم من القوميين والإسلاميين. فالشعور الدائم بتأنيب الضمير، بسبب عجزنا تجاه فلسطين، قد يكون دافعا لمغامرات كثيرة، مؤدية للشقاء.
يبقى كتاب سمير قصير قراءة جريئة للشقاء العربي، وترجمته على الواقع لعام 2005، وربما لو لم تطل كاتبه يد الغدر، وبقي حيا، وعاصر الثورات العربية، وما تلاها من أحداث، حتى يومنا هذا، لكان كتب مجلدات أخرى عن الشقاء، مفردا فصلا لكل بلد، فطروحات الكتاب لم تعد كافية لوحدها لتفسير التراكب المعقد لطبقات الشقاء المتعددة.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.