يُعرض حاليا على منصة watch it، مسلسل “على باب العمارة”، من تأليف مصطفى حمدي وإخراج خيري سالم، وبطولة الممثل الكوميدي حاتم صلاح، في أول بطولة مطلقة له، بالاشتراك مع محمد محمود، ومحمد رضوان، وعزة لبيب، وآية سماحة، وريهام الشنواني، ومحمد عبدالعظيم، وغيرهم من النجوم. ومن المفترض أن أحداثه تدور في إطار كوميدي، حول شخصية “عوض”، التي يلعبها صلاح، وهو شاب مدلل من الصعيد، يقرر والده اتخاذ موقف حاد ضده، بحرمانه من الميراث، وجعله يعمل بوابا في إحدى العمارات بالقاهرة، بوصف ذلك نوعا من العقاب، لكي تتغير شخصيته المستهترة الضعيفة غير المسؤولة، ويصبح “راجل”، كما يقول والد الشخصية.
الملاحظة الأولى لدى المشاهدة، أننا في عام 2023، ووسط كل الحديث عن تصاعد “الصواب السياسي” عالميا، ما نزال نشاهد كثيرا من الأعمال المصرية والعربية تتعامل مع النساء بوصفهن المادة الخام لصناعة الضحك، ليس من خلال مفارقات مبتكرة مثلا، وإنما عبر تصويرهن في مواقف، تعبّر عن أدوارهن المفترضة، ضمن رؤى رجعية بطريركية، تضع النساء في أقفاص، من حق جميع الرجال أن يكونوا رقباء عليها، من “أكبر راجل” وحتى بواب العمارة.
ربما يمكن تناول هذا العمل من زوايا نقدية متعددة، إلا أننا سنهتم أساسا بالخطاب المتضمن فيه حول النساء، والحريات الفردية والاجتماعية، وذلك لفهم كيف يعيد جانب مهم من “الثقافة الجماهيرية” العربية إنتاج أيديولوجيا ذكورية، في محاولة لضبط الأمور في مجتمع يزداد تعقيدا، وربما تفسّخا. فما الذي يقوله هذا المسلسل عن “الراجل” و”الست” في المجتمع المصري المعاصر؟ وكيف نصبح غير ضعفاء، وغير مستهترين، ومسؤولين، كما يصرّ أبونا الصعيدي؟
القوس المسطّح: ما الفائدة من مهنة البوّاب؟
في هذا السياق، ربما كان أول سؤال يتبادر إلى الذهن، بعد مشاهدة أحداث المسلسل: هل تصبح شخصية الإنسان أفضل فعلا من خلال اقتحام حياة الآخرين؟ إن ما نراه على الشاشة، أثناء مشاهدة مسلسل “على باب العمارة”، ليست مواقف كوميدية، كُتبت بطريقة السرد التقليدي، كأي عمل درامي، مبني على شخصيات وحبكة وتطور للأحداث، يرسم “قوس الشخصيات”، خاصة شخصية البطل، التي تتغير، من خلال مقدمة ووسط (ذروة) ونهاية؛ بل على العكس، البطل هو الذي يغيّر شخصيات الأفراد في المسلسل، من خلال فرض سيطرته، بوصفه رجلا وذكرا فحلا، ما يمنحه سلطة ممارسة الوصاية على سكان العقار الذي يعمل فيه. وما التطوّر الذي يُرتجى من شخص، كل عمله هو انتقاد الآخرين، واتهامهم باتهامات متعددة، والسيطرة على حياتهم؟ ذكر يعرف سلفا الأخلاق الصحيحة، ومعايير الخطأ والصواب؟ يمكن القول أن ما يفعله البطل هو فقط أن يكون “رجلا”، كما هو محدد سلفا في أيديولوجيا سائدة، وليس أن يبرع في مهنته بوصفه حارس عقار مثلا؛ أو حتى أن يكون فاعلا اجتماعيا، يعيش مع غيره ظروفهم ومشكلاتهم، ويتواصل معهم للتعامل معها، على قاعدة حقوق متساوية.
يمكن هنا أن ننتقل من المسلسل نفسه إلى سؤال آخر، حول وظيفة حارس العقار: ما هي في الأساس؟ هذه الوظيفة اكتسبت في مصر، بفضل السلطة الذكورية، دورا أكبر من حجمها، خاصة إذا ذكرنا أنها غير معروفة أو مطلوبة أصلا في عدد من دول الجوار. لقد تحوّل حارس العقار من رجل يقوم بدور في حماية المبنى من السرقة، ومعاونة السكّان في أمورهم اليومية، إلى رقيب يتحكّم بكل السكان، وتحديدا النساء، وهذه المهمة لا تبدو “وظيفية”، بقدر ما هي “سلطوية”، وبالتالي فإن البوّاب إفِراز طبيعي للنظام الأبوي المصري، ينوب عن “الرجال الأسوياء” في التحكّم في النساء، وكل البشر، الذين لا يطابقون معايير معيّنة. وتقوم مهمته على نظرة شبه مقدّسة للفحولة.
عود السوبرمان: كيف يخلّصنا الفحل من شرور أنفسنا؟
تصف الأديبة الأميركية مارلين فرينش النظام الأبوي بأنه “يتميّز بالعدوانية والبنية الهرمية، وقد صيغ هذا النظام بما يضمن النسب الأبوي، لوراثة الأملاك، ومنح الرجل السيطرة على الهوية الجنسية الأنثوية، إذ يتم تحديدها بوصفها مُلكا للرجل. ويصبح من الضروري للمرأة أن تكون ضعيفة ومضطهدة، فتتحوّل إلى كيان للمعاناة، في أمسّ الحاجة إلى من يدعمه، وتأخذ دور الكائن العاطفي، في حين يكون الرجل عقلانيا. هو رمز الفخر، وهي التابع المُتكل”. إذا نظرنا إلى الشخصيات التي رسمها العمل، فهو يطبّق كل ما قالته فرينش، في إطار، يبدو أنه ينتقد فكرة “المعايرة بإنجاب الفتيات”، ولكنه، في جوهره، يدعم بكل قوة ذلك النظام الأبوي، ويُبرر كل مواقفه.
في البداية يطرح المؤلف شخصية “عوض” على أنه الأخ الوحيد لفتاتين، وذلك ما يجعل الأب يراه الوريث الشرعي لكل ما يملك، ويشعر بالحزن بسبب فشل ابنه، وفي الوقت نفسه، يعتبر منح الميراث للبنتين عقابا للابن؛ ويصوّر الفتاتين باعتبارهما فاشلتين أيضا، تريدان الاستيلاء على مال الأب، ولكن ليس لمصلحتهما الشخصية، بل لمنحه لزوجيهما، وهي الفكرة المتأصّلة في الموروث الصعيدي، الذي يرى ميراث الفتيات للأراضي الزراعية “ضياعا” لها، لأنها سوف تذهب لمصلحة رجل، ليس من شجرة عائلة مالكها الأصلي.
ثم يقدّم العمل “عوض” شخصا يستطيع السيطرة على فتاة مراهقة، والتحكّم في حياتها، بدعم من أمها المتسلّطة، التي تفشل بمفردها في تربية ابنتها، حتى يأتي الذكر، في صورة حارس العقار، ويساعدها على قمع ابنتها ومراقبتها. هنا تزول الفوارق الطبقية بين السيدة في العمارة وبوابها، المهم هو إعادة البنت إلى رشدها.
ويستمر المؤلف في خلق شخصية فحولية لهذا “العوض”، وكأنه سوبرمان العقار، إذ يتسبّب في فضيحة للراقصة التي تسكن فيه، ويصمها بأبشع النعوت، ويعاملها بازدراء بسبب مهنتها، ولا يصفها إلا بـ”الغازيّة”، باعتبار ذلك نوعا من تقليل القيمة، من وجهة نظر المؤلّف، وكأن الرقص ليس مهنة، لا تقلّ “شرفا” عن مهنة البواب، تمتهنها إنسانة، يجب احترام مساحتها الخاصة وخياراتها. وبعد عدة مشاهد نكتشف أن ما قام به “عوض”، من اقتحام خصوصية الراقصة، حين قرر تصوير رجل جاء لزيارتها، عبر خاصية البث المباشر على “فيسبوك”، فعل جيد، وساعد الراقصة على كشف كذب ذلك الرجل. لقد أنقذها “الفحل” من نفسها!
الهاتف الذكي، في هذه الحكاية الدرامية السطحية، يصبح عاملا مساعدا، وداعما لسلطة الذكر الحارس. من خلاله قام بتصوير رجل دون رغبة منه، وصناعة هاشتاغ بعنوان: “شاهدوا فضيحة رجل مهم”، وأخبر الجميع في البث المباشر، أن الرجل سوف يصعد للراقصة التي تعيش بمفردها، في إيحاء واضح أن هذه الشخصية تسلك سلوكا مخالفا لـ”الآداب العامة”، كما توصف.
ومن خلال الهاتف أيضا، قام الحارس الفحل، بتصوير سيارة شاب، كان على علاقة غرامية بمراهقة، تسكن في العقار مع والدتها، التي تعاملها بشكل دكتاتوري وحاد، مما يجعل الفتاة تشعر بالنفور، وتريد الهرب. وفي هذا الموقف تحديدا نشاهد كيف منح الفحل لنفسه حق التجسّس، وتتبّع الشاب وتصوير سيارته، والتحقق من رقم السيارة، ومعرفة بيانات عن صاحبها، والذهاب إلى منزله للتجسس عليه. كل ذلك نابع بشكل أساسي من فعل الوصاية الذكورية المتجذرة، التي تصبح أقرب للوصاية الأمنية، وتستعمل كل الوسائل “الحديثة”، مثل الهاتف الذكي ومواقع التواصل، لتحقيق مهامها. لم يعد “الفحول” مجرّد رجال خشنين يحملون عصياً ونبابيت، بل يحملون اليوم أيضا هواتف ذكية.
سلطة الكليشيه: هل نحتاج لـ”عوض” في إنقاذ “العمارة”؟
تستند السلطة الأبوية إلى معنى اجتماعي، تم إضفاؤه على الفروق الجنسية البيولوجية بين الرجل والمرأة. لدرجة أنه في قطاعات من المجتمعات العربية يرى كثيرون أن “الرجل الفحل” لا يجب أن ينجب إلا الذكور، ولكن ثمّة ولادات ناقصة، تأتي الإناث نتيجتها. وهذا المعنى يتضح بجلاء في المسلسل، من خلال علاقة الأب مع ابنه “عوض” وشقيقتيه، اللتين ينظر إليهما نظرة دونية، بل تتم “معايرة الأب” بهما في المشاهد الأولى من العمل، وهي نظرة يعتمدها أهل القرية، وأيضا “عوض” نفسه، ولا يسعى المسلسل أبدا لنقدها أو تفكيكها، فهي الأكثر اتساقا مع شخصية البطل، لأنها تبرر تصرفاته تجاه النساء، عندما يعيش في مدينة القاهرة، فهو يرى أنهن يجب أن يكن تحت سطوة الرجال. على سبيل المثال وليس الحصر، عندما يذهب إلى مكتب محامٍ، ويرى السكرتيرة ترتدي ملابس غير متوافقة مع أفكاره (قصيرة بالنسبة له) يتحدث إلى المحامي، مستنكرا كيفية سماحه لها بارتداء هذه الملابس، ويقول: “دي لو أختي أقتلها”، وكأن الأنثى ملك لجميع الرجال الذين تتواصل معهم، بمن فيهم أرباب عملها. ومجددا، لا يطرح العمل هذه الصور للسخرية منها، وإنما لإظهار خصائص شخصية الفحل المنتظر، الذي سينقذ “العمارة”، أي ربما مصر كلها.
لا ينتج العمل الكوميديا إلا من خلال “الكليشيه”، ولهذا القالب المكرر وظيفة مهمة، وهي ترديد ما نعرفه جميعا، وما يفترض بنا أن نوافق عليه، فنخضع له ونمارسه في حياتنا اليومية. قد يكون “عوض” مضحكا لـ”حرّاس” آخرين، يستطيعون ممارسة فحولتهم، أو يتحسّرون عليها، ولكنه لن يكون طريفا أبدا بالنسبة لمن يعانون من هذا النمط من التحكّم الذكوري، المتضمّن في كل أنظمة المجتمع، من السياسة والقانون وحتى الإعلام والفن الجماهيري.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.