دروس حرب غزة: هل لدينا ما هو أكثر من أبي عبيدة والمسيري؟

دروس حرب غزة: هل لدينا ما هو أكثر من أبي عبيدة والمسيري؟

ونحن على أعتاب اكتمال شهر، من حرب مدمرة على الأراضي الفلسطينية، أنتجت كثيرا من المآسي إلى حدود اللحظة، لا بد أن طرح مجموعة من الأسئلة الراهنة، إذ تبدو القضية  الفلسطينية كأنها في لحظة “وجودية”، ستقرر مصيرها المستقبلي.

لكنّ عودة “القضية” إلى صدارة الحيز العام، جاءت بوجه آخر، يمكن وصفه بأنه “أقل جدلا”، وأكثر “تكثيفا” للشعارات والرموز في اتجاه واحد، مع محاولة لإعادة بعثها وكأنها مقولات مكتفية بذاتها، ومحصّنة عن النقاش، محسومٌ فيها مَنْ “الأخيار” ومَنْ “الأشرار”، وليست سوى مسألة وقت “حتى يعود الحقّ لأصحابه”.

وفي الجهة المقابلة، يحاول عديد من المتتبعين جعل القضية “تمشي على الأرض” مجددا، والتذكير بإطارها التاريخي والسياسي المعقد، وأنها ليست “محسومة” مثلما تبدو عليه في البلاغة السائدة، وربما من مصلحتها أن تصبح خاضعة للنقاش والجدل، اليوم أكثر من أي وقت مضى.

تعيد “القضية الفلسطينية” طرح مقولات، باتت مستهلكة للغاية، مثل ”ازدواجية غربية”؛ و”شرق  جريح”، مجسّد في فلسطين، مقابل ”غرب متناقض”؛ و”سكان أصليون” يواجهون دولة حديثة؛ الخ. ما يدفعنا للتساؤل عن الرموز والأفكار والصور، التي طرحتها حرب غزة الأخيرة: هل من المعقول أن حدثا بهذه الضخامة، غير قادر على طرح علامات مختلفة، محفّزة على إعادة التفكير؟ ولماذا لا يملك كثير من العاملين في المجال السياسي والثقافي، والمهتمين بالشأن العام، إلا تكرار القول نفسه؟

الحق البيّن: كيف باتت القضية أقلّ ذكاء؟

ظلت المسألة الفلسطينية حُبلى بالخطابات السياسية، أو ما يمكن وصفه بنوع من إنتاج “فعل سياسي فلسطيني” خاص، وهو ما قامت به منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها المختلفة، وكانت أبرز سمات ذلك الفعل الجمع بين العمل ”الفدائي”، بمختلف رمزياته؛ والفعل السياسي، المبني على المفاوضات، وتسيير الصراع، حتى داخل القوى الفلسطينية نفسها؛ والفعل النظري، الذي عمل عليه كثير من المفكرين والأدباء والمؤرخين.

يبدو العمل السياسي الفلسطيني منذ اتفاقية “أوسلو” شبه متوقف، نتيجة الصراعات السياسية بين الفصائل الفلسطينية. ومع غياب البعد السياسي لـ”لقضية”، والجدل السياسي والفكري، الذي كان دائما مرافقا لها، أخدت منعطفا أخر، يميل لتبسيط كل التعقيد والتشابك السياسي والتاريخي، الذي راكمته لسنوات، لمصلحة شعارات دينية وعاطفية.

بإمكان المتتبّع لتاريخ “القضية الفلسطينية” أن يلحظ أنه، مع بروز الشكل السياسي لهذه القضية، أي “منظمة التحرير الفلسطينة”، أُنتج عديد من المفاهيم السياسية والحقوقية والقانونية، من قبيل “حق العودة للاجئين”، و”استقلال القرار السياسي الفلسطيني”، إضافة إلى النقاشات التي لا تنتهي، حول هوية “الشعب الفلسطيني”، وتكوينه الاجتماعي والطبقي، وطبيعة الدولة الفلسطينية المرتقبة، من الناحية السياسية، والأيديولوجية كذلك. اليوم لم تعد لدينا إلا المقولات العامة، والشعارات الفضفاضة..

وقد يُفسر الانتقال من طرح الجدل السياسي والقانوني والفكري فيما يخص القضية، إلى حصرها في زاوية الصراع الحضاري والديني، والتفاعل “الوجداني” فقط، إلى مجموعة من العوامل، منها ما هو داخلي، يخصّ بالأساس تفكك منظمة التحرير الفلسطينية، وتشرذم فصائلها؛ ومنها ما يتعلق بـ”المنطقة العربية”، إذ لم تُنتج إيديولوجيا ”التحرر الوطني”، التي كانت حاضنة “القضية”، سوى أنظمة قمعية وسلطوية، مما جعل الحراك السياسي الفلسطيني يتيما، وربما مُنكرا، في معظم محيطه الأقرب.

وبإمكاننا أن نضيف إلى هذه العوامل، التغييب الكبير للحقوق السياسية والمدنية على مستوى العالم، بمقابل التركيز على الحقوق الفردية والذاتية، ما جعل الخطاب “المتعاطف” يركز على احتياجات الفلسطينيين “الطبيعية”، بوصفهم مبعدين ولاجئين، ويتناسى أنهم حاملون لقضايا سياسية وحقوقية كبرى.

كل هذا لا بد أن تكون له انعكاساته على مستوى الرموز التي تنتجها “القضية”، والتي أصبحت أشد تبسيطا، وأكثر تطرّفا في الآن نفسه.

سياسات الحرب وثقافتها: من “بطولات” أبي عبيدة إلى “عمق” المسيري

بوسعنا قراءة الرموز والخطابات المتداولة، منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر ضمن هذا السياق، ولعل أشهرها “أبا عبيدة”، الرجل الذي يصرّ أن يبقى ملثّما، وأن يحيط نفسه بهالة من الغموض، رغم أن جهات إسرائيلية متعددة نشرت اسمه الكامل: حذيفة سمير عبد الله الكحلوت، بل وتفاصيل عن حياته، إلا أن هذا لم ينتقص من إثارته لخيال كثير من المؤيدين للحركة، فظل رمزا متداولا لهذه الحرب، رغم أن خطابه لا يعدوا أن يكون مجرّد خطاب حماسي، موجّه لرفع المعنويات، وإذا كان هذا نوعا من البروباغاندا المتوقّعة في الحروب، فمن المستغرب أن المسؤولين السياسيين لحركة حماس، مثل إسماعيل هنية وخالد مشغل، لا يملكون خطابا أكثر تحديدا، أو أقل حماسية، فيتكلّمون كثيرا عن “معركة الأمة” و”النصر”، دون المرور بما هو متوقّع منهم، أي الأفق السياسي المحتمل للحرب، والمكاسب السياسية التي يمكن تحقيقها، أو طريقة تخفيف الخسائر.

وإذا كان هذا هو الحال على مستوى الرموز السياسية والعسكرية، فإن الوضع على المستوى الثقافي والفكري ليس بأفضل، فمن بين أكثر “المفكرين”، الذين تلقى مقولاتهم رواجا هذه الأيام، عبد الوهاب المسيري، أحد المبشرين بنهاية إسرائيل الوشيكة، قبل سنوات من وفاته عام 2008.

في إحدى المقولات المنسوبة إليه، والمستخدمة بشكل كثيف على وسائل التواصل الاجتماعي، للدلالة على الوضع الحالي، يقول المسيري: ”لا ينظر لنا الغرب كيانا مستقلا، لنا طموحاتنا المشروعة وأهدافنا المختلفة، وإنما على أننا مادة استعمالية، لابد من تنميطها، وحتى ندخل القفص الحديدي، قفص الإنتاج والاستهلاك، دون هدف أو غاية، سوى المنفعة واللذة”.

بمثل هذه المقولة، وغيرها، يتصوّر كثيرون أن معادلة القضية الفلسطينية بسيطة، إذ تساوي ”غربا شريرا”، يعتدى على حقوق ” شرق مستضعف”. ولكن من يمثّل “الشرق” ومن يمثّل “الغرب” في هذه المعادلة؟

مفهوم “الغرب” يشير في مخيلة حامليه، في هذه الأيام، إلى مستوى جغرافي، يُقصد به بالأساس أوروبا وأميركا؛ ومستوى فكري، يُقصد به كل ما تم إنتاجه من أفكار في التاريخ الحديث، التي يتم تقديمها كأنها إنتاج غربي خالص، من قبيل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وغيرها. وينقسم نقّاد ذلك “الغرب” إلى قسم يبدي خيبة أمله من “نفاقه”؛ وقسم آخر، يؤكد أنه كان يدرك من البداية مدى “زيف” قيمه. وفي الحالتين يبدو أن المسيري هو أحد أهم الآباء الروحيين لهذا الخطاب.

غير أن المتتبّع لخطاب ما يسمى بـ”الغرب”، فيما يتعلّق بالحرب الإسرائيلية على غزة، سيكتشف تناقضات كبيرة، وتنوّعا شديدا، إذ أدت الأحداث الأخيرة إلى انقسام داخلي كبير، في عديد من الدول، ومنها فرنسا والولايات المتحدة وإسبانيا. وهذه الانقسامات، لا تشير فقط إلى عدم وجود وحدة متجانسة، يمكن تسميتها “الغرب”، فهذا أمر لا يحتاج نقاشا كبيرا، وإنما إلى قدرة “القضية”، في وعي المتحمسين لرموزها ومقولاتها، على تبسيط عوالم شديدة التعقيد والتناقض، مثل سياسات ومجتمعات الدول الواقعة في غرب هذا العالم.  

وإذا كان المقصود بـ”الغرب” كيانات اقتصادية كبرى، يسارع البعض لمقاطعتها اليوم، فإنه يتم تجاهل أسئلة كثيرة، عن اندراج “الشرق”، أي الدول العربية والإسلامية، ضمن المنظومة الاقتصادية العالمية، ومساهمتها بها. قد لا يكون السؤال هنا إن كان من الممكن “فك الارتباط” بتلك المنظومة، والمشاريع السياسية والاقتصادية التي يمكن طرحها بهذا الخصوص، فهذا جدل يبدو عتيقا وغير واقعي، بل عن الدور البنيوي لبعض الدول العربية والإسلامية، وعلى رأسها الداعمة والمموّلة لـ”حماس”، في تلك المنظومة.  

ضرورة تكرار البديهيات:  لماذا لم تعلّمنا الحروب شيئا؟

في الجهة المقابلة، فإن انتساب “القضية الفلسطينية” لـ”الشرق”، وبالضبط “المشرق العربي”، يطرح مجموعة من الأسئلة، فالقضية الفلسطينية أحد القضايا المؤسسة لمشروع “القومية العربية”، وهذه المشروع لم يكن دائما في موقع الضحية، فله أيضا سياساته القمعية، تجاه مجموعات بشرية أخرى، وهي سياسات لا يفكر أنصار “الشرق الجريح” كثيرا بإدانتها، أو حتى تحليلها، وربطها بالمنظومة الشريرة، التي ينتقدونها.

قد يبدو معظم ما نؤكده هنا أقرب لبديهات أي قول سياسي أو نظري حول “القضية”، إلا أن المُلاحظ أن الرموز التبسيطية، التي تُنتجها الحرب الحالية، تجعل مجرد قول هذه البديهيات فعلا “شجاعا”، وهذا أمر غريب، في منطقة شهدت كثيرا من الحروب والاضطرابات والثورات، التي من المفترض أن تجبر سكّانها على طرح كل الأسئلة، بل كل البديهيات، على بساط البحث.

نحن أمام “قضية”، أي في المحصلة بناء إيديولوجي وسياسي-جغرافي، ولا ينفع التعامل معها بمنطق الخلاصات الجاهزة، ولحظة السابع من تشرين الأول/أكتوبر ليست فجرا انبلجت فيه كرامة المقاومة، وفق رمز أبي عبيدة؛ أو العلامة الفاصلة على انكشاف “نفاق الغرب”، وفق ما تمليه اقتباسات عبد الوهاب المسيري، بل هي عنصر آخر في بناء متشابك، وشديد التعقيد، ولا يقوم على حق أو باطل، والأجدى أن يدفع لإعادة الجدل السياسي حول القضية الفلسطينية، وليس إخضاع الجميع للتبسيط الشامل، باسم رموز، لا يدري المرء كيف صارت فجأة بهذه القداسة.

ربما يكون كثير من الجدل حول تلك الرموز مضيعة للوقت، والأفضل تجاوز هالتها بأسرع وقت ممكن، وعدم أخذ المقولات المترتبة عنها على محمل الجد، للتفرّغ للأسئلة الأهم: كيف وصلنا إلى هنا؟ او بالأصح كيف عدنا إلى هذا الموضع، الذي من المفترض أنه كان علينا تجاوزه؟ وكيف يمكننا أن نخرج من هذه الدائرة المفرغة؟  

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4.3 7 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات