ظهرت، قبل أيام، صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي العراقية، تعرض ماكينتها الإعلامية للبيع، لمصلحة مرشحي انتخابات مجالس المحافظات المقبلة في العراق، وهذا ليس بالأمر الغريب في أسواق العرض والطلب في الانتخابات، إذ تصبح كل أدوات الفوز معروضة للبيع: أصوات الناس، عرقياتهم وطوائفهم، مخاوفهم، وطرق الوصول إليهم. لكن ما تم تقديمه هذه المرة، إضافة لكل ذلك، وبصورة جليّة ومضحكة، كان “العرض الغنائي الخاص”، الذي يُمكّن المرشحين من تسجيل أغنيات بأسمائهم، أو بأسماء كتلهم السياسية، والحصول على كلمات وألحان أغانٍ، تمجّد إنجازاتهم، التي لم يسمع بها أحد، مقابل مبلغ “مناسب”، حسب تعبير تلك الصفحات.
ربما تستحضر لنا مثل تلك العروض الذاكرة الغنائية العراقية، التي كانت، وما تزال، أداة بيد السلطة، تسيّرها وفق مصالحها وأيديولوجيتها، والتي تركّزت، طوال عقود، على مبدأي التمجيد والتعبئة.
منذ ظهور الفن الغنائي العراقي الحديث، بشكله المعروف، في بداية القرن الماضي، وحتى إعلان الدولة العراقية، لم يسجّل التاريخ العراقي أغانٍ كثيرة تمجد الحاكم، وربما يمكن الإشارة إلى نموذج أغنية “تسلم”، بصوت ناظم الغزالي، والمهداة لعبد الكريم قاسم، بعد تسلّمه مقاليد السلطة (1958-1963)، بوصفها نموذجا أوليا وممهدا لما هو قادم، في حين لم يسجل عهد الأخوين عبد السلام وعبد الرحمن عارف، اللذَين حكما العراق بعده، أية أغاني مدح معروفة.
تغيّرت معادلة الغناء والسلطة بعد تسلّم صدام حسين الحكم، فقد كان على دراية كاملة بأهمية الفن والإعلام في التأثير على الناس، والتحكّم بمزاجهم، لذا استولى على الحيز السمعي العام في العراق، منذ دخوله إلى هيكل الحكومة العراقية، من خلال ترؤس المكاتب، التي تدير وتخطط للسياسة الإعلامية والأيديولوجية لحزب البعث، وبعدها الدولة، عند تسلّمه الحكم.
ومن خلال السيطرة على وسائل الإعلام المحدودة في العراق (الإذاعة والتلفاز)، أصبح مسيطرا على الثقافة الجماهيرية بأكملها، ومن ضمن ذلك الأغنية العراقية، التي تستند لتراث موسيقي وثقافي شديد الغنى، وممتد في التاريخ، لينخرط غالبية الفنانين في آلته الدعائية، خوفا منه، أو طمعا في رعايته. وهكذا نشأ نمط جديد من “الوطنية العراقية”، ما زالت آلياته تعمل حتى اليوم. كيف ساهمت الموسيقى بإنتاج تلك “الوطنية”؟ ولماذا ما تزال “الصدّامية الغنائية”، إن صح التعبير، فعّالة في الحياة السياسية، والأيديولوجيا العراقية والعربية المعاصرة؟
وطن الحروب المجيدة: ثلاثية القائد والوطن والشعب
عرف العالم بأكمله الأغنية العسكرية، المخصّصة لأغراض التعبئة، إلا أن الأغنية العسكرية العراقية لم تنفتح على فكرة عبادة الفرد إلا بعد تسلّم صدام الحكم، ثم دخوله حروبا متعددة، وظهور ثلاثية (القائد، الوطن، الشعب). ويمكن تمييز هذه الثلاثية بجلاء في فترة الثمانينيات، حين تسيّدت الأغاني الحربية مسامع العراقيين، في فترة الحرب العراقية الإيرانية، وربما أشهرها أغنية “يا كاع ترابج كافور”، المغناة من قبل مجموعة فنانين عراقيين، وكانت تُعاد يوميا عشرات المرات على التلفاز، طوال فترة الحرب، بمفرداتها المليئة بالبنادق والموت و”الشاجور”، وهي دلالات تشير إلى أهمية الدفاع عن الوطن والاستشهاد من أجله، أراد من خلالها صدام، ومن يعملون معه، خلق نوع من التطبيع مع الحرب الطويلة في مخيلة الشعب: “يا كاع ترابج كافوري، عَالساتر هلهل شاجوري”. فالوطن، من أجل أن يستمر، يحتاج إلى احتضان جثث أبنائه.
لكنّ فكرة الاستشهاد من أجل الأرض، لم تشكّل وحدها أرضا صلبة لشرعية حروب صدام وحكمه، لذا كانت الأغاني دائما تربط الوطن ووجوده بوجود الحاكم، الأب الحارس، صاحب الشرعية الإلهية: “معمورة وبالعز مبنية، صدام شراع إي والله، وعونج يا كاع”. وحينما يحتاج الوطن، المتمثّل بالقائد الضرورة، أن يضحّي الشعب بنفسه، فسيكون الجميع مجبرين على طاعته والتغنّي به، وعلى الفنون تكريس نفسها خدمة لفكر القائد وتمجيده، واختزال الوطن والشعب فيه، لأنه المخلّص والمنتظر والقائد والأب و”العزيز”، كما غنى حسين نعمة؛ والسيد “الشگد رائع”، كما ردّد ياس خضر؛ المُبايع من قبل الشعب، كما في أغنية “بايعناك” لحاتم العراقي.
تنوّعت الأغاني وكلماتها، حسب الوضع العسكري للحرب، وتغيّر موازين القوى بين الطرفين، من أغنية “الله للنصر خطواتنا” لفرقة المسرح العسكري، و”رايات العز”، التي حملت الخطاب الأيديولوجي البعثي على كتفيها، مع بدء الحرب، وتحقيق بضعة انتصارات؛ مرورا بتوظيف أصوات الأطفال في الأغاني الحربية، إشارة إلى مستقبل مشرق، بعد أن خسر العراق كثيرا من أبنائه وعمرانه في منتصف الثمانينات، مثل أغاني “هسة يجي بابا البطل”، و”تروح وترد بالسلامة يا بابا”، واستعمال الرمزيات الشيعية، لإدامة الحرب، وصبغها بصبغة دينية، واستمالة عواطف الأغلبية الشيعية، مثل “لا والله والعباس”، لفرقة الإنشاد العراقية؛ وصولاً إلى نهايات الحرب، وعودة الأغاني المتمحورة حول تمجيد القائد، مثل أنشودة “من عمرنا على عمرك يا صدام”، واستمر هذا النوع من الأغاني طوال فترة التسعينات، وحتى سقوط النظام.
لم يتمكّن العراقيون من التعرّف على وطنهم وجدانيا، وعبر “الموسيقى الشعبية”، إلا بربطه لا شعوريا بصورة الحاكم، وبعض الرموز الدينية، وصور البنادق والجثث، والاستعارات عن الدم والتراب.
ربما كان كل الفنانين العراقيين مجبرين على ذلك، ليس فقط لأجل مصالحهم، وإنما لإنقاذ أرواحهم بحد ذاتها، لكن ماذا حدث للغناء “الوطني” بعد عام 2003؟ هل تغيّرت صورة “الوطنية العراقية”؟
ما بعد السقوط: من الصدّاميات إلى الصدريات
“قبل جان عدنا صدام واحد، هسه عدنا عشرة”، هذه الجملة البسيطة تتكرّر دائما على ألسنة العراقيين. فيما سبق كان هناك طاغية واحد، يتغنّى الفن بأمجاده، فكيف يمكن للفن العراقي أن يتغنى بأمجاد عشرات الطغاة دفعة واحدة؟
التنافس على الحيز السمعي للعراقيين بعد سقوط صدام، أدى إلى ظهور أنواع جديدة من الفنون، يتم فيها التغنّي بالقادة الجدد، وأهمها “الصدريات”، والصدرية مفردة مشتقة من مقتدى الصدر، تشير إلى نوع غنائي، على شكل أنشودة، تتغزّل بالسيد القائد/رجل الدين، وقدرته على إدارة الحرب، ولا تختلف كثيرا عن الأغاني العراقية الصداميّة، التي تغنّت بثلاثية القائد والوطن والشعب، إلا بالإشارة إلى نسب آل الصدر، ومقارعتهم للطاغية صدام.
وفي حين لجأ مقتدى الصدر، ومن خرج من عباءته، مثل قيس الخزعلي، أحد قادة “جيش المهدي”، إلى الأناشيد التمجيدية، التي تذكر رمزيات العقيدة الشيعية، مثل العباس والحسين؛ استمر رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي، رئيس “حزب الدعوة” الإسلامي، محافظا على طريقة صدام القديمة، بالتمجيد دون استخدام الأناشيد الدينية. ورغم أن كثيرا من العقائديين الشيعة يرفضون الغناء الاعتيادي، إلا أنهم في نهاية المطاف صاغوا وطنيتهم الغنائية، عبر مزجها باللطم و”الردح” العراقي.
تطوّرت فيما بعد الأغاني المخصصة للتعبئة الانتخابية، والتي بدأت بالانتشار منذ عام 2010 وإلى الآن، وبدأت تمتد إلى كل الطوائف والعرقيات، ولم يتهاون السياسيون، من المكوّن السني، في استعراض قدرتهم على تمويل الأغاني الموجّهة، إلا أنها لم تكن بقوة الفن الشيعي، البارز بشدة، والمحمّل بمرويات، قادرة على ترديد كلمات ضخمة، ومحرّكة للشعور الطائفي. وبما أن ما يمكن تسميته “الذاكرة السنية” في العراق ضعيف إلى حد كبير، ولا يمتلك تراثا طويلا من قصص المظالم، إضافة للحظر القانوني لاستخدام اسم البعث في أي دعاية انتخابية، لم يبق للمرشحين السنة سوى استخدام مفردات شعرية، مستنسخة عن مفردات زمن القائد صدّام.
فن المهاويل: “التطبيل” العراقي المعاصر
إلا أن الأمر لا يقتصر على الحركات السياسية المنظّمة، بل يوجد في العراق فن لن تجد مثله في أي دولة أخرى، وهو فن “المهاويل”، والمهوال هو مغنٍ يقوم بمدح الأحياء أو الأموات من شيوخ العشائر، والشخصيات العادية أو السياسية، أثناء الاحتفالات، متوسّطا مجموعة من الشباب، يتلو بينها الكلمات المقفّاة، لينهيها بأهزوجة، يصاحبها ضرب كل الحاضرين أقدامهم على الأرض. وهذا مختصر لمفهوم “التطبيل”، كما يُسمّى في ثقافات عربية مجاورة، لأنه في حفلات المهاويل تُضرب الأرض، لإخراج صوت، يُعلن أهمية الشخص، الذي تقال عنه تلك الأهزوجة.
بطبيعة الحال، يتنوّع المهوال في مدحه بين الأموات والأحياء، كذلك بين زعيم القبيلة والزعيم السياسي، لكنه بالحالات كلها يبجّل ويمجّد شخصية معيّنة، أو عشيرة محددة، وقد انتشر هذا الفن بعد عام 2003، وخصوصا في السنوات الأخيرة، لما له من أهمية استعراضية للعشيرة، ولكونه جانبا من “بريستيج” الزعماء، الذين لم يعودوا يستغنون عنه في أي محفل سياسي.
الملفت أن فن المهاويل هذا استُهدف بقوة عام 2019، من قبل متظاهري انتفاضة تشرين.
سخرية “تشرين”: ما مآلات أغاني “الكاع”؟
حينما خرج آلاف المتظاهرين، في مدن الجنوب والوسط العراقي، في انتفاضة تشرين عام 2019 ، وجد الفنانون ضالتهم في ساحات التظاهرات. وأعيدت كتابة أغانٍ معروفة، مثل “يا كاع ترابج كافور”، لتعدّل وتردّد بتعبير آخر، “ثوري” كما وصفه مؤدّوه، ما يشير إلى محاولات، ربما تكون متعثّرة بعض الشيء، للخروج من النموذج التقليدي لـ”الوطنية العراقية”.
إلا أن الأمر لم يقتصر على إعادة أداء الأغاني القديمة، بل أصبح الغناء سلاحا فعالا، للتعبير عن رفض المتظاهرين لما وصفوه باستبداد النظام العراقي الحالي، وأنتجوا أغانٍ مهمة، مثل “بين الجسر والساحة” لغسان الشامي؛ و”ذيل أعوج” لأيمن حميد. ليلتحق بالانتفاضة بعد ذلك نخبة من الفنانين العراقيين، أشهرهم حسام الرسام، رحمة رياض، دموع تحسين، بسام مهدي، وغيرهم، وبذلك وجدوا طريقة أخرى لإظهار النقمة والغضب، بالموسيقى والكلمات المليئة بشتم النظام، ومن يدعمه من الدول الخارجية.
ربما يشكّل هذا الفن الجديد محاولة لإظهار احتجاج الناس، بعيدا عن أغاني فدائيات صدام، والسيد القائد مقتدى، حفظه الله ورعاه. ولكنه لم يستمر، وانتهى بانتهاء حالة الانتفاضة، وعادت الأغاني المجيّشة والحربية، والأناشيد المبجّلة للقادة، وفن المهاويل،
غير أن الانتفاضة خلّفت أداة مهمة، وهي السخرية، التي نشأت ونضجت بسبب التكتّل الشبابي في ساحات الاعتصام، وصنعت ما يشبه رأيا عاما جديدا، لا يستحي أو يخاف من التهكّم من أي فرد أو جهة، ويدين أي فنان يحاول التملّق لطرف سياسي، من أجل مكسب ما.
قد تكون السخرية، المستندة إلى الايقاعات العراقية، من أهم إنجازات الانتفاضة على صعيد الفن، فإذا كان “التطبيل” يمكن أن يوفّر لك ميّزات الغناء في ملاهي بغداد وأربيل، المحمية من قبل قادة الميليشيات، فإنه سيجعلك، في المقابل، تخسر جمهورا كبيرا، ويحوّلك إلى نكتة سخيفة، ويبقيك حبيسا داخل أسوار الملاهي الرخيصة. نعم، قد يكون انجازا إظهار تلك المفارقة الساخرة: “الوطنية” التقليدية، بكل ادعاءاتها عن “ساحات الوغى” و”الكاع”، باتت ابنةً بارةً للملاهي.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
مقالة جميلة ..
سرد طويل..
اهم ما تناوله ك ظواهر اجتماعية.
مقتدى الصدر حفظه الله و رعاه.
و تطبيل المهاويل.