سواء كان المرء متابعا جيدا لكرة القدم أم لا، فبالتأكيد سمع بصفقات انتقالات اللاعبين التاريخية، التي عقدتها أندية سعودية، مستقطبةً النجوم العالميين من كل حدب وصوب.
كثير من الحوارات دارت، حول الفريق الأقوى في الدوري السعودي الآن، بعد كل هذه الانتقالات، فضلا عن التنبؤات حول الفريق الذي سيحسم اللقب في نهاية الموسم: نادي “النصر” بقيادة كريستيانو رونالدو، أم “الهلال” بقيادة نيمار، أم “الاتحاد” بقيادة كريم بنزيما.
بكل الأحوال تبدو هذه الحوارات عامة جدا، وبعيدة عن الحياة اليومية للمشجّعين والمهتمين بكرة القدم، وتتعلق بنجوم وأساطير كبار، لا علاقة لهم بالحياة اليومية للناس “العاديين”.
ولكن لحظة! ماذا لو عُرض على أحد “العاديين” الانضمام لمشجعي إحدى الفرق، مقابل مبلغ محترم من المال، شريطة أن يتخلّى عن تشجيع فريقه، الذي ينتمي إليه منذ نعومة أظفاره؟ هنا ستتخذ الظاهرة أبعادا أكبر، إذ يصبح الجميع، وكل شيء، قابلا للتداول في “سوق الانتقالات”.
الموضوع ليس مجرد خيالات، بل بات واقعا إلى حد كبير، وتوجد كثير من الوقائع التي تدعم اعتباره مستقبل التشجيع الرياضي، و”الانتماء” في كرة القدم وغيرها.
هل يمكن فعلا أن تصل صفقات المؤسسات الرياضية الأكبر إلى حياتنا اليومية، بوصفنا مشجعين ومهتمين بكرة القدم؟ وهل يمكن أن تتحول مفاهيم الانتماء والهوية والولاء لفريق ما، إلى أمور قابلة للتداول عبر صفقات كبرى؟ ماذا سيبقى عندها من كرة القدم؟
صناعة تحرّكها العواطف: هل يمكن الاستثمار في “الهوية الكروية”؟
يمكننا القول إن كرة القدم صناعة حرّكتها العواطف دائما، ولذلك جذبت، طيلة تاريخها، اهتماما في مختلف المجالات، وحققت إيرادات كبيرة، من المشجعين والمعلنين وشركات الرعاية.
يختبر مشجعو كرة القدم مشاعر عدة، خاصةً في أيام مباريات فرقهم. وتُعتبر المشاعر والحماسة والولاء، على حد قول علماء النفس، العملات الأهم في عالم كرة القدم والمشجعين.
يُعرّف نيو سون، عالم الاجتماع الإنجليزي، التشجيع في عالم كرة القدم، بأنه الحب الأعمى، الذي تبديه مجموعة من الأشخاص لفريق ما، لا تربطهم به أي صلة نفعية. ولذلك فإن مشجعي كرة القدم خير مثال على نظرية الهوية الاجتماعية، وهي النظرية التي تتبنّى مبدأً أساسيا، وهو أن هوية بعض الأشخاص قد تتحدد بكيان ما أكبر، مثل الأحزاب السياسية والمؤسسات الدينية، وفرق كرة القدم بطبيعة الحال، وإن كانت الأخيرة أكثر تلك الروابط طوعية وعاطفية، فتصير هناك قواسم مشتركة، بين مشجعي فريق ما، تولّد لديهم شعور التوحّد بالجماعة، بدلا من الفرادنية.
الموضوع يتطوّر في بعض الأحيان لما يُسمى بـ”التعصب لكرة القدم”، وهو إحدى الثقافات الفرعية في عالم التشجيع، ينتشر على نطاق واسع بين محبي اللعبة في مختلف أنحاء العالم، مؤسّسا نواة ظهور ما يُعرف بروابط الألتراس، والتي قد تصير في بعض الأحيان كيانات منفصلة عن النادي والفريق نفسه، تغذّي تواجدها بالأساس مبادئ، مثل الولاء المطلق للفريق وجماعة مشجعيه، ما يمثّل هوية بحد ذاتها للأشخاص المنتمين إليها، أقرب للقومية الكلاسيكية، بل قد تصير أسلوب حياة لبعضهم.
والسؤال الآن: هل يمكن شراء ولاء هؤلاء المشجعين، أو تحويله لمهنة؟
في الواقع هذا السؤال لم تثره الوقائع الأخيرة لصفقات النوادي الكبرى، ولا الجدل المحتدم حول تطورات الدوري السعودي، الذي لم يخترع أمورا جديدة في عالم صناعة الكرة، فالموضوع أعمق مما قد نظن، وقد يثير أسئلة أخرى عن مفهوم الهوية نفسه في عالمنا المعاصر.
الجماهير/الأصول: هل يمكننا أن “نبقى أصليين”؟
في مطلع القرن الحالي، ومع تغيّر شكل ومضمون كرة القدم، لتتحوّل إلى رياضة تهدف للربح في المقام الأول، وليس تحقيق أهداف اجتماعية، توجّهت أنظار وأموال رجال الأعمال إلى أندية كرة القدم، باعتبارها منفذا مضمونا للربح والشهرة، وما بينهما من نفوذ وسلطة، إذا ما تم استغلالها بطريقة صحيحة.
كان المشجّعون فيما مضى “المُستهدف” الأساسي في السياسات الرياضية، وكذلك المستهلك الأول للمنتجات الرياضية، من تذاكر الملاعب، والملابس، والمنتجات الثانوية لكرة القدم، إلا أن تحوّلا مهما حدث في النظرة للمشجعين منذ مطلع القرن الحالي، إذ لم يعودا مستهدفين أو مستهلكين فحسب، بل أصلا استثماريا، يمكن تحقيق أرباح كبيرة من خلاله. فالنادي، الذي يحوز على عدد معلوم من المشجعين، يمكن قياسه كميّا بدقة، يوسّع أصوله، ويزيد من قيمته السوقية. وبهذا يكون المشجعون جانبا من “رأسمال” أي نادي، في معادلة مادية أساسا، ولكن يتداخل بها الرمزي والعاطفي، اللذان أصبحا، بدورهما، منتجين للقيم المادية.
في بداية العقد المنصرم، توجّه مستثمرون، روس وصينيون وخليجيون، للاستثمار في سوق كرة القدم الأوروبية، في محاولة لتحقيق مكاسب تتخطّى كرة القدم برمتها، وهو الأمر الذي قُوبل باستهجان بعض من مشجعي الفرق، التي سيطرت، أو حاولت السيطرة عليها، صناديق استثمار، المرتبطة بدول أجنبية.
في عام 2022، كان فريق NAC Breda،، وهو نادٍ قديم، يمتلك شعبية كبيرة في هولندا، يبحث عن مستثمر لإنقاذه من الإفلاس، ومن بين ستة وثلاثين، من مقدمي العروض المحتملين، بدا أن مجموعة “سيتي لكرة القدم”، تمتلك الفرص الأكبر للاستحواذ على النادي. وهي شركة قابضة، مملوكة لإمارة أبو ظبي، أُنشئت حول نادي مانشستر سيتي، الفائز بأربعة من آخر خمسة ألقاب في الدوري الإنجليزي الممتاز. تحت هذا الفريق الرائد، استحوذت الشركة بالفعل على تسعة أندية أخرى، معظمها متوسطة الحجم، في خمس قارات.
لكن مشجعي NAC شعروا بالفزع إزاء احتمال دمجهم في شركة متعددة الجنسيات، وسرعان ما حشدوا قواهم ضد عملية الاستحواذ، لأنهم شعروا أن ناديهم هو نادٍ تاريخي، ومؤسسة فولكلورية، تضم ثلاثة عشر ألفا من حاملي التذاكر الموسمية، وخامس أكبر نادي في هولندا، على الرغم من أن عقودا من سوء الإدارة قد دفعته إلى الدرجة الثانية. لذلك، في غضون أيام، اتخذوا موقفا هجوميا، ونظّموا احتجاجات، ورفعوا لافتات ضد عملية الاستحواذ، بعنوان: “ابق خارج أراضينا، حتى نكون أصليين”.
قد يبدو مثل هذا الشعار عنصريا في الثقافة السياسية لبلد مثل هولندا، إلا أنه يتفق كثيرا مع “روح” كرة القدم التي نعرفها، كما أنه مفتوح بشدة للتأويل، فمن يُطلب منه البقاء خارجا هذه المرة ليس لاجئا أو مهاجرا ضعيفا، وإنما مستثمرا يملك مئات الملايين، و”الأصليون” هم المتمسكون بـ”شعبية” النادي. وطبعا هذا التمسّك قد يؤدي لمواقف في أقصى اليمين أو أقصى اليسار.
هناك عشرات من المواقف المماثلة، لجماهير بعض الأندية، التي رفضت استحواذ رجال الأعمال على أنديتها، لكنه هناك جماهير رضخت في النهاية، لما يُعدّ أمرا واقعا في كرة القدم الحديثة، مثلما حدث مع جمهور نادي مانشستر سيتي في إنجلترا، الذي احتفلت جماهيره، العام الحالي 2023، بلقب دوري أبطال أوروبا للمرة الأولى في تاريخها، وهو إنجاز لم يكن ليتحقق سوى بأموال المستثمرين الإماراتيين.
إلا أن الاستثمار في أصول استثمارية، بضخامة ما توفّره كرة القدم، لا يمكن أن يترك لأمزجة الجماهير، وقدرتها على المقاومة والتضامن، أو ميلها للرضوخ والاستسلام، أو حتى الاقتناع بأهمية النمط الجديد من الاستثمارات في اللعبة، ولذلك يبدو أن تجربة جديدة تطبّق اليوم في عالم اللعبة، قد تضمن مشجعين/أصولا أكثر استقرارا
“الكابو” المحترف: ما المتطلبات الوظيفية لمهنة “المشجّع”؟
يشير لفظ “كابو” في ثقافة جماهير الألتراس، إلى الشخص الذي يقود مجموعة مشجعين، وكما ذكرنا سالفا، فإن روابط الألتراس هي الفئات الأكثر تعصبا لفرقها، مما يعني أنها الفئة الأكثر مقاومة للتطورات الاستثمارية في كرة القدم. إلا أن هذا في طريقه للتغيّر.
في سابقة هي الأولى من نوعها، أعلنت إدارة نادي الأهلي السعودي، التعاقد مع زكرياء بلقاضي، القائد السابق لأنصار نادي “الرجاء البيضاوي” المغربي، الملقّب بـ”سكوادرا”، لقيادة إحدى مدرّجات فريقها.
وقالت الهيئة الإعلامية، التابعة لإدارة نادي الأهلي السعودي، عبر صفحتها الرسمية على تويتر، أنها تعاقدت مع بلقاضي ليكون “capo” جديدا للمدرج الجنوبي لملعبها.
ويعتبر “سكوادرا” أشهر “capo” عربي، و هو الذي سيّر أنصار نادي الرجاء، ونظّم طريقة غنائهم وصياحهم ورقصهم، وهي الخبرة التي سينقلها إلى أنصار الأهلي، بموجب العقد.
سيقف التاريخ الكروي والرياضي كثيرا عند هذه الواقعة، باعتبارها أول إعلان رسمي عن انتقال مشجع من فريق لفريق، وفي العلن أيضا. لكننا سنزيدك من الشعر بيتا، ونخبرك أن الجماهير نفسها، وليس فقط قادتها، سيمكنها مستقبلا التربّح من كرة القدم.
لعل أولى بوادر هذا التغيير تأتي من الولايات المتحدة الأميركية، ومن رياضة كرة القدم الأميركية بالتحديد، إذ يُفاجأ المطّلع على الموقع الالكتروني لاتحاد كرة القدم الأميركي، أنه يحدد “واجبات وظيفية” للمشجعين، منها: الأداء علنا في الألعاب والمناسبات المجتمعية، والمناسبات الخيرية، والعروض الترويجية، وغيرها من الأنشطة للترويج للفريق أو المنظمة؛ المشاركة في الممارسات الأسبوعية، التي قد تشمل التمارين، وعروض الرقص، وأعمال التشجيع المثيرة؛ الحفاظ على مستوى اللياقة البدنية الذي يلبّي متطلبات الوظيفة؛ توفير الترفيه أثناء وقت اللعب، من خلال أداء الهتافات والرقص مع تيمة الفريق الموسيقية؛ دعم الفريق داخل وخارج الملعب، من خلال حضور التدريبات، والمشاركة في الاجتماعات، واستضافة الأحداث الخاصة، وتعزيز مبادرات الفريق؛ بيع التذاكر في الألعاب أو الأحداث الأخرى التي تتطلب الحضور؛ الترويج لهوية العلامة التجارية للفريق، من خلال قنوات التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وأنستغرام وتويتر؛ المشاركة في المناسبات الخيرية، مثل العمل التطوعي في المستشفيات، أو أنشطة جمع التبرعات للمدارس المحلية.
يمكننا ببساطة إدراك أن كل هذه الواجبات المتعددة ليست مجّانية، بل مهنة مدفوعة الأجر، وهكذا انتقلنا من مهنة “اللاعب المحترف” إلى “المشجّع المحترف”.
وبحسب الموقع الرسمي للاتحاد، يتراوح راتب المشجّع اعتمادا على عدد من العوامل، بما في ذلك مستوى الخبرة التي يتمتّع بها، والفريق الذي يعمل به، والمدينة أو الولاية التي يعيش فيها.
و من المتوقّع أن ينمو توظيف مشجعي اتحاد كرة القدم الأميركي خلال العقد المقبل، وفق شروط وظيفية صارمة للتقدّم للوظيفة، يحددها الموقع، وكأنك تتقدم للعمل في بنك مثلا.
نموذج الأعمال هذا سينتقل حتما إلى كرة القدم التي نعرفها، وقريبا قد يجد آلاف المشجعون، من أبناء الأحياء الفقيرة، والعاطلين عن العمل، فرصة للحصول على “وظيفة”.
هل هذا أمر سيء أم جيد؟
يمكن أن نترك الإجابة لتوجهات كل قارئ، وميوله الاجتماعية والسياسية، وكذلك نظرته لكرة القدم والرياضة عموما. الأجدى التركيز على أن هذا “التطوّر” هو جزء من توجّه استثماري عالمي يشمل كل المجالات، بما فيها السياسة والنضال الحقوقي، اللذين ينهض بهما “ناشطون” محترفون يتقاضون أجرا؛ والدعم النفسي والاجتماعي، الذي بات يقوم به أساسا “مختصّون”، لديهم استثماراتهم في “الوعي الذاتي”؛ بل حتى “الحروب الوطنية”، التي صارت فرق المرتزقة، من مجندي الشركات الأمنية والعسكرية، تلعب دورا أساسيا فيها.
رغم كل هذا، من الصعب جدا تقبّل كرة قدم، تملأ الجماهير المأجورة مدرّجاتها، وربما قد يؤدي الاستثمار، الذي يبدو واعدا، في المشجعين/الأصول، إلى نتائج عكسية، تطيح بالرياضة الأكثر شعبية في العالم عن عرشها.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.