اغتيلت رهام يعقوب، وهي مواطنة عراقية من البصرة، طالبة دكتوراه في مجال التغذية، ومحاضرة في جامعة المدينة، وصاحبة ناد رياضي، في التاسع عشر من آب/أغسطس عام 2020. هذه الكلمات ربما تبدو “عادية” في بلد مثل العراق، يعجّ بالميليشيات والسلاح المنفلت والتوتر السياسي والطائفي، وشهد انتفاضة شعبية كبيرة عام 2019.
قد يظن كثيرون أن اغتيال يعقوب كان بسبب مشاركتها في الانتفاضة، إلا أن الأمر “أبسط” من هذا، وأكبر منه بكثير في الوقت نفسه. فقد أوقفت رهام يعقوب كل نشاطاتها السياسية قبل فترة من اغتيالها، ولكنها ظلّت مستهدفة رغم ذلك، وكأن وجودها نفسه كان المشكلة بالنسبة لقاتليها، وليس مشاركتها في هذه المظاهرة أو تلك.
لماذا كان يجب أن تموت؟ ربما يجب أن نحكي الحكاية من البداية، بأسلوب مستوحى من الكاتب الأميركي تشارلي كوفمان، الذي كتب في نهاية التسعينيات فيلما غرائبيا سرياليا، تدور أحداثه عن شخص اكتشف طريقة، تمكّنه من الوجود في عقل ممثل مشهور لمدة خمس عشرة دقيقة كل يوم، وهو الفيلم الذي صدر عام 1999 تحت عنوان “أن تكون جون مالكوفيتش”.
وعلى غرار هذا الفيلم قد تكون رؤية العالم من منظور رهام يعقوب، وآلاف الفتيات اللواتي يشبهنها، ويعشن ظروفا شبيهة بظروفها، في العالم السريالي للعراق المعاصر، ضروريا لمعرفة ما الذي حرّكها، ودفعها إلى نمط من “الوجود” الاجتماعي، جعل التخلّص منها على رأس أولويات تنظيمات ضخمة، مدججة بالسلاح.
أن تكون رهام يعقوب
بكسر الراء لا بكتابة الياء، هكذا يُكتب اسمها، وكان يزعجها أن يُكتب خطأً. تستيقظ رهام في الصباح الباكر، تقرأ ثم تتنزه قليلا قبل أن تمضي إلى الجامعة، وبعدها إلى النادي الرياضي، وتعود في المساء لتخلد إلى النوم مبكرا. نظام حياتها كان صحيّا بامتياز، يتغيّر في بعض الأحيان، إلا أنها كانت دائما تحافظ على هواية السير في شوارع البصرة.
بدأت هذه الهواية عام 2015، وكان ذلك بعد أن اكتشفت خوفها من المشي وحيدة في الشوارع، بسبب سيطرة الرجال مريبي المظهر على المساحات العامة، وهذا يتوافق بالتأكيد مع التخطيط العمراني لكل مدن العراق، ومنها “البصرة الفيحاء”، فهي مدن خُططت لأن تكون فضاءاتها العمومية للرجال، لا للنساء. لذا قررت كسر خوفها، والسير في مدينتها.
تجربة كسر الخوف هذه، تجاه واحد من أبسط الحقوق الإنسانية (المشي في الشارع)، دفعتها للتفكير بأهمية المساواة في الحيز العام، بين النساء والرجال، لذلك قررت دعوة النساء، اللواتي تعرفهن، إلى المشي سوية كل أسبوع، وبالفعل كان لها هذا. تحدّثت رهام كثيرا عن هذه التجربة، التي استمرت لفترة طويلة، حتى فترة انتشار وباء “كورونا” التي سبقت اغتيالها. فقد كان لذلك الفعل البسيط أثر كبير في تغيير رؤية نساء المدينة للشوارع، وزيادة شعورهن بالأمان، وكسب ثقة المجتمع البصري، من خلال فرض وجودهن، دون الاصطدام به.
لم يكن السير هو الطريقة الوحيدة، التي استطاعت من خلالها رهام إدخال أفواج من النساء إلى الحيز العام، فقد اكتسبت كثيرا من التأييد والمحبة من خلال النادي الرياضي الذي أنشأته، والذي فتحت أبوابه لجميع النساء بدون استثناء، ومن لم يكن لديها المال، ولا تستطيع الدفع، يمكنها ببساطة القدوم مجانا. خلقت رهام بيئة آمنة لكل اللواتي أتين إليها، خالية من الضغط، الذي يعانين منه في كل مكان، في البيت والشارع والمؤسسات التعليمية ومحاكم الأحوال الشخصية والهيئات العشائرية.
كانت النساء والفتيات يتناقشن في شؤون حياتهن في النادي، ويبُحن بمشاكلهن لرهام، التي تحاول إيجاد الكلمات والنصائح المناسبة لهن، والملائمة لحالتهن. كما استطاعت، في بعض الحالات، التواصل مع الأهالي، الذين يرفضون قدوم بناتهم إلى النادي، لطمأنتهم وكسب ثقتهم.
اكتسب التواجد في النادي أهمية كبيرة لكل المشتركات به، فقد جعلهن يتعرفن على عالم جديد، يساعدهن على إدراك أبسط حقوقهن، وطرق المطالبة بها. وبهذه الطريقة استطاعت الراحلة خلق شبكة دعم اجتماعي أولي، لعدد من نساء البصرة.
هكذا فقط، نادٍ رياضي، تديره متخصصة في التغذية، يجمع بعضا من النساء والفتيات، للتمرين واللعب والحديث والتواصل. هذا ما عناه أن تكوني رهام يعقوب، وهو يبدو عاديا جدا، إلا أن ذلك الفضاء الاجتماعي/التواصلي أدى لنتائج سياسية، لم يكن بإمكان الفئات المسيطرة على البصرة، والعراق كله، احتمالها.
عندما خرجت النساء من بيوتهن
في أيلول/سبتمبر عام 2018، ارتفعت نسبه ملوحة المياه في البصرة، لدرجة هددت الحياة اليومية للناس. رهام، التي انتزعت حق المشي في الشوارع، خرجت إليها مجددا، ولكن هذه المرة مع النساء اللواتي تجمعن حولها، وكن كثيرات. تظاهرن، صرخن، هتفن، وتحدثن عن سوء الخدمات، وطالبن باستقالة المسؤولين، وأثبتن أنهن قادرات على اجتياح شوارع المدينة، ليس فقط للمشي وإبراز الذات، بل لمطالبة السلطة بحقوق الناس.
هذه القدرة السياسية والاجتماعية، التي أثبتتها رهام ورفيقاتها، أخافت الممسكين بزمام السلطة، مما جعلها تتلقى كثيرا من التهديدات، فاختفت عن الأنظار عدة أيام، قبل أن تعاود الظهور، ولكن مع شعور أن كثيرا من الناشطين السياسيين المعروفين قد خذلوها، وخذلوا الحراك الذي كانت في مقدمته، ما جعلها تتخذ قرارا بالتركيز على قضايا النساء أكثر، وإعدادهن جسديا ونفسيا، للمشاركة في أي حدث عام قادم قد يشهده البلد.
ركزت نشاطها في السنة التالية على النادي الرياضي الخاص بها، وبعد أشهر، جاء وباء كورونا، فأغلقته، التزما بقرارات الدولة بإغلاق الأماكن العامة. وعلى عكس مما يظنّ كثيرون خارج العراق، لم تشارك رهام أبدا في تظاهرات تشرين بشكل مباشر، رغم أنها أصبحت، نتيجة عملها الاجتماعي، إحدى رموز الانتفاضة.
ولكن، حتى لو كانت رهام يعقوب شخصية محترمة لدى كثير من المنتفضين المعارضين للسلطة، فما الذي يدفع المسلحين لاغتيال فتاة لم تطالب مباشرة بإسقاط نظامهم السياسي مثلا، ولم تكن مشاركة في أي تنظيم، قد يهدد سلطة سلاحهم؟
ما الخطر الذي شكّلته على السلطة؟
لا يمكننا أن نجد جوابا على السؤال السابق، سوى أن رهام يعقوب أصرّت أن تكون موجودة في الحيز العام، وساعدت نساء أخريات على ذلك، والوجود في ذلك الحيز عار، على النساء عدم ارتكابه. يعمل النظام الطائفي الذكوري في العراق على تضخيم خوف النساء من وجودهن العام من جهة؛ ويعطي، من جهة أخرى، الأحقية لجهات مختلفة، من رجال الدين والعشيرة، وحتى المسلحين الطائفيين، بالسيطرة عليهن، وإعادتهن إلى الحيز الخاص أو المنزل. وجود امرأة قادرة على تذويب مخاوف النساء، واحتوائهن، ومساعدتهن في التواجد داخل الفضاءات العمومية، كان بحد ذاته تهديدا لسلطة ذلك النظام، ووضع الميليشيات في موقف المترقّب، الخائف من تنامي تلك الظاهرة، وتحوّلها إلى موجة نسائية واجتماعية.
قتل يعقوب هو “دعوة”، بصوت الرصاص، لعودة النساء لمنازلهن، كي يعشن، بكل خضوع، كل الانتهاكات التي يواجهنها هناك، من جرائم “شرف”، وعنف أسري، وعمل مجّاني، وحرمان من الحق في التعبير. ما أرعب السلطات من رهام إذن هو بالضبط أنها تمشي في الشارع، وتنشئ حيزا للكلام والنقاش، خارج المنازل المغلقة. تلك الأمور البسيطة، والقادرة على تهديد نظام بأكمله، هي ما قد يؤدي إلى مقتلِك في العراق المعاصر.
كان فعل رهام يعقوب الاجتماعي معنيا بأكثر الجوانب حساسية في النساء، بالنسبة للذكورية، وهو الجانب المرتبط بشعور المرأة بجسدها، صحته وجماله وحيويته، فهذا الجسد، إذ ما امتلك الثقة للخروج من المجالات المقيد بها، ربما “ينحلّ” عن الدور المعطى له، ويؤدي لثورة هادمة لكل نظام ديني/أبوي.
وبالتالي فإن سلطة الميلشيات الطائفية لا تقوم على ثقة بثقافة مجتمعية، أو رسوخ عقائد وأديان أنصارها، بل على إغلاق كامل للحيز العام، ومنع البشر من التلاقي والجدل وتداول شؤون عالمهم وحياتهم. وأدنى خرق لذلك الإغلاق يهدد السلطة جديّا، ويدفعها لرد فعل عنيف. ولذلك، فإن ما تتحدث عنه عن قيم راسخة، ليس إلا أيديولوجيات شديدة الهشاشة، يهددها اجتماع بعض النساء في نادْ رياضي. وربما كانت تلك السلطات على حق، فمنظومات سياسية وأيديولوجية قمعية لهذه الدرجة، يمكن أن تنكسر بسرعة، بمجرد أن يستنشق الناس أبسط أنفاس الحرية.
ماتت رهام يعقوب برصاص غادر، ولن يعزّي أهلها ومحبيها وزملاءها القول إنها صارت “رمزا”، ولكن ربما بات من الواضح أن سلطة، تسعى إلى خنق أبسط أشكال التعبير والحياة، لن يمكنها الاستمرار طويلا، ففي النهاية لا يمكن للنساء أن يبقين دائما في البيوت؛ أو أن تظل الشوارع حكرا عن الرجال، بل والرجال المسلحيّن؛ وأن يتوقف الناس عن اللقاء والكلام واللعب وممارسة حياتهم الطبيعية. كل ذلك الرصاص لن ينفع غالبا، إلا بتأجيل السقوط المحتوم لنظام بهذه الرثاثة، والعجز عن تقديم أي خطاب أو مشروع، وتحقيق أي إنجاز، وبالتالي فقريبا قد تمتلئ الشوارع مجددا بآلاف مؤلفة ممن يشبهون رهام، وعندها لن تكون كل ذخيرة القوى السلطوية قادرة على إغلاق ما فتحه البشر بأجسادهم.
يبقى أن يعقوب قد أعطت منظورا لكثيرين، ممن رأوا العالم بأعينها، وجرّبوا معنى “أن تكون رهام يعقوب”، وهي رؤيا، على بساطتها، وبديهيتها من ناحية الحقوق الإنسانية الأكثر أساسية، كانت ضرورية للعراق، وخاصة نساءه، بعد عشرين عاما من هيمنة نظام، جعل أقلّ الحريات حلما صعبا، لا يمكن الوصول إليه إلا بكثير من الدم.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
رِهام يعقوب لم تمت ، بل انها سجلت الخلود لنفسها بكونها كسرت الجليد بشجاعة وفتحت الطريق امام الآف النساء للخروج من سجنهن..
في بلادنا للاسف الطرقات لا تُمهَّد الا بارواح الشابات والشبان .. لهم كل المجد والخلود
روعة ❤️👍