رقص فتاة النوبة: هل تنقذنا الثقافات “الهامشية” من تزمّت المركزية؟

بدأ الأمر بسيطا وتلقائيا، وبلا أي تصوّر لما سيجلبه من هجوم ونقاشات: فتاة مصرية تحتفل بتسلّمها شهادة تخرّجها الجامعية، في كلية الآداب بجامعة القاهرة، محاطة بزملاء يشاركونها الفرحة، عبر التصفيق والتشجيع، وهي ترقص على أنغام إحدى الأغنيات، التي اختارتها من تراث النوبة، المنطقة التي جاءت منها، والواقعة أقصى جنوب مصر.
كانت دقائق الاحتفال مُبهجة للطالبة شادن مصطفى، لكن تبعها، وبمجرد انتشار الفيديو على السوشال ميديا، هجوم شديد عليها، بدعاوى مختلفة، ومنها مخالفتها للأصول والتقاليد و”قيم المجتمع”، إلى حد أنها اضطرت للرد والتوضيح. لتلقى في المقابل، وعلى غير المعتاد أو المتوقّع في مثل هذه الأحوال، دعما كبيرا، وليس فقط من الفئات المناصرة عادة لحقوق النساء والحريات الشخصية. كان السؤال الأساسي في حالة شادن: ما “قيم المجتمع” التي خالفتها، وهي ترقص على طريقة وتراث النوبة، منطقتها الأصلية؟
الأمر كان مجرّد احتفال بسيط، بمبادرة شخصية، بينما الغاضبون منه هم المنتمون للثقافة المركزية الحاكمة على الجميع في مصر، التي تمزج عناصر من “الإسلام” والعروبة والوطنية المصرية، المعرّفة بمركزية العاصمة القاهرة. هؤلاء رأوا أنه لا يصحّ، في مكان مثل الجامعة، الرقص “الخليع”، لما لذلك المكان من احترام، بوصفه “محرابا” للعلم والوطنية. ربما كان الأكثر صراحة القول إن الفرح والسعادة، خاصة للنساء، لا يتناسبان مع ثقافة وتقاليد جمهورية مصر العربية.
حدث هذا في واحدة من أعرق الجامعات في المنطقة، التي قد يناهز تاريخها قرنين من الزمان، وأمام أساتذة محترمين، منهم مَن يشارك الطلّاب البهجة، بل أن بعض الجامعات ينشر الاحتفالات عبر مواقعه الرسمية، لكن رد أنصار الثقافة العريقة كان حاضرا بشكل بديهي: “نحن لسنا كالخارج”.
ولكن من “نحن” فعلا، إذا كنا نعيش في مجتمع ووطن لا يستطيع قبول مظهر اعتيادي للفرح؟ ما الذي أثار كل هذا الغضب في مشهد عادي جدا لفتاة ترقص؟ والأهم لماذا استطاعت شادن مصطفى بالذات تجاوز عواصف التعصّب و”الأخلاق الحميدة”، في حين فشلت أخريات بذلك؟ هل استطاعت أصول مصطفى، و”خصوصيتها الثقافية”، حمايتها إلى حد ما من الأحكام والقيود القاسية، التي تثقل بقية المصريات؟ وماذا لو كانت “مجرّد” فتاة قاهرية أو مصرية “عادية”؟
الهجوم على شادن مصطفى كان هجوم “ثقافة” مبنية على النظرة الدينية والجندرية، التي تشكّل جانبا هاما من الوطنية المصرية المعاصرة، والتي تُعرّف المصري الصالح، والأهم المصرية الصالحة، بوصفه/ا المسلم/ة المعياري، الذي يجب أن يلتزم بقيود صارمة في كل قول أو فعل، وتعبير لفظي وجسدي وفكري، وبالتالي فإن ارتداء المصريات المسلمات لثوب مفتوح عند الساقين، هو “خروج عن الدين والحياء”، وبالتالي خروج عن الوطنية. وهذه كانت من أقسى الاتهامات، التي واجهتها شادن مصطفى ضمنا.
إذن، شادن “مُخطئة” في نظر هؤلاء، لدرجة تم معها استدعاء فيديوهات أخرى، لفتيات مصريات صالحات يوم تخرجّهن، بهدف المقارنة، واستثارة مزيد من الهجوم والانتقادات، والمشترك بين كل تلك الفيديوهات، التزام الفتيات بقواعد الثقافة المركزية، ابتداء من الزي (الحجاب، بل والنقاب)، وصولا لطريقة الاحتفال، التي وصلت في أحد الفيديوهات إلى حد تقبيل قدم الأب.
مع مثل تلك النماذج، ماذا تفعل فتاة غير مُحجّبة، ترتدي فستانا مفتوحا من الأسفل، وترقص؟ لا بد أن تنكسر تماما، كما انكسرت قبلها عشرات الفتيات والسيدات المصريات، أمام حملات السوشال ميديا، بل ودعاوى الأجهزة القضائية، وممارسات الأجهزة الأمنية. ولكن شادن مصطفى لم تنكسر. لماذا؟
على خلاف المتوقع، ظهرت أصوات عديدة، تساند الفتاة وتدافع عنها، القاسم المشترك بين مرافعات المدافعين كان أنها لم تفعل شيئا يخالف ثقافة منطقتها. إنها فتاة نوبية، ترقص رقصا نوبيا يوم تخرّجها. وبالتالي فإن التخفيف من “مصرية” الفتاة، أو بالأصح تقليل هيمنة المركزية المصرية عليها، ساعدها على النجاة، والانتصار أمام عاصفة الكراهية. هل يمكن استخلاص نتائج ما من هذا؟
رغم هجوم بعض النوبيين على الفتاة، إلّا أن كثيرا من الأصوات النوبية دعمتها، باعتبارها قدّمت ما يُمثّل ثقافتها: ثقافة مستقلّة بذاتها، لها موسيقاها وأغنياتها وطريقتها في الرقص. بل ربما “رفعت رأس” أبناء المنطقة، أمام بقية المصريين، إذ أعادت لفت النظر إلى النوبة وحضارتها، التي بدأت المنشورات المتعاطفة تتحدث عن تاريخها، الذي يعود إلى آلاف السنين.
هذه المنطقة، التي اشتُق اسمها من كلمة “نب”، التي تعني باللغة المصرية القديمة “الذهب”، ليصبح معنى الاسم “أرض الذهب”، كان لها علاقة سياسية متوترة مع السلطة المركزية، منذ تأسيس الدولة المصرية الحديثة، مرّت بفصول عديدة، كان من أهمها ترحيل ونقل مساكن كثير من النوبيين، التي غمرتها “بحيرة ناصر”، مع بناء السد العالي في ستينيات القرن الماضي.
لا يكثر في تلك البقعة من مصر الذهب والمعادن الثمينة فحسب، بل تتميز بتراث ثقافي ولغة وفنون وموسيقى شديدة الثراء، حاول النوبيون الدفاع عنها ضد الغرق، الذي أصاب مساكنهم وقراهم، وبذلك وجد نوبيون كثر، في تريند شادن مصطفى، فرصة جديدة لكسر الصورة النمطية عن منطقتهم، وإعادة طرح قضيتها، وكذلك الضغط لأجل تقبّل الآخرين، في أي محافظة مصرية أخرى، لثقافتهم، دون تأطيرهم في صور مُحددة، بناءً على تمييز عرقي أو جغرافي أو جندري، ترسمه لهم العاصمة وأبناؤها.
مثل تلك الصور والنظرات المركزية القاهرية، تم رسمها وترسيخها، دون اهتمام بالكيفية التي أثّرت بها على أبناء المنطقة، ففي السينما المصرية ظهر “النوبي” دوما بهيئة الخادم في قصور الباشوات، أو العامل الفقير. كما اشتُهر عبر شخصية “عثمان عبد الباسط”، التي تخصص في تقديمها الممثل علي الكسار، عبر أفلام عديدة، وهي شخصية نوبي طيب ساذج، وتابع لسادته القاهريين. وحتى حين تم تقديم مسلسل كارتون للأطفال، لإبراز صورة النوبيين، وغنى شارته الشهيرة الفنان محمد منير، كان بطل المسلسل “بكّار”، نموذجا يتناسب تماما مع ما يريده أبناء المركز من النوبة: منطقة مهملة تنمويا، أهلها بسطاء وساذجون، ورغم تهميشهم فإن ابنهم بكّار “من قلبه وروحه مصري، والنيل جواه بيسري”.
شادن مصطفى لم تكن الخادم النوبي المخلص، ولا المصرية المعيارية الخاضعة للقيود، بل أثبتت أنها تمتلك حرية وانطلاقا، ربما قد تحسدها عليهما بقية بنات المركز المسيطر.
سواء في الماضي البعيد، حين حاولت النوبة الحفاظ على فنونها وثقافتها المميزة؛ أو في الماضي القريب، حين بلغ ترسّخ الفن النوبي درجة، جعل أهل المنطقة يتظاهرون ويحتجون باستخدام الدفوف، فإن للمنطقة وضعها المتميز، الذي ربما كان عاملا في حماية الفتاة، باعتبارها لم تخل بحياء الجماعة، بل على العكس، أوصلت بفرحها ورقصها صوت تلك الجماعة وتراثها.
لكن ماذا عن غير النوبيات؟ ماذا لو كانت بطلة التريند فتاة من القاهرة، أو ذات أصول من الصعيد أو الدلتا، ترقص بصورة عادية، كأبناء جيلها من الطُلاب الذكور، المصريين أو الأجانب؟ ربما كان احتفالها سيجلب لها ما هو أشد من الهجوم الافتراضي، إلى درجة قد تصل إلى تقديم بلاغات ضدها، والمطالبة بسحب شهادتها أو سجنها، دون أن تجد جماعة تدافع عنها.
الدليل على ذلك، ما لاقته فتيات مصريات، سجّلن مقاطع راقصة على تطبيق “تيك توك”، تسبّبت لهن بلعنات مجتمعية، وبلاغات أمام السلطة، وأحكام بالسجن، فيما عُرف بقضية “فتيات تيك توك”؛
أو كما حدث مع منى البرنس، الأستاذة في جامعة السويس، التي فُصلت من منصبها الجامعي، بسبب فيديو انتشر لها، وهي ترقص في مناسبة خاصة.
هذا التباين في التعامل مع النساء، والذي استفادت منه شادن مصطفى نسبيا، سببه الجليّ والواضح هو مركزية الثقافة المصرية، وحكمها على عديد من الأمور، بناء على هوية فاعلها، الثقافية والجندرية، ومدى قربه من “الوطنية المصرية”، التي تؤسس لهرمية من التصنيفات، بين “رجل جدع”، و”شاب طائش”، و”فلاح بيئة”، و”صعيدي شهم”، و”نوبي راقص”، وأجانب، يمكن التسامح مع أفعالهم وأزيائهم وأقوالهم، لأنهم لا يحملون دمغة الوطن.
أمّا النساء، فتخصص لهن تلك الثقافة أحكاما أكثر تزمّتا، لأنهن الموطن الأساسي لكل الرمزيات الوطنية الهوياتية، وتصارعت على أجسادهن التيارات الأيديولوجية، واعتبر وجودهن في الحيز العام القضية السياسية الأبرز والأخطر، فمن معارك “السفور والحجاب” مطلع القرن الماضي؛ مرورا بسعي الإسلام السياسي لتحجيب كل المصريات، للدلالة على هيمنته الثقافية والحيوية على الشارع المصري؛ وصولا لمحاولة دولة ما بعد الثلاثين من يونيو/حزيران 2013 لاستعادة “قيم الأسرة” و”الآداب العامة”، كانت النساء المصريات دوما “قنبلة سياسية” يجب نزع فتيلها، أو على الأقل تفجيرها في “المكان الصحيح”.
لهذا، ورغم أن شادن مصطفى لم تكن تنوي إلا الابتهاج، والاحتفال البسيط بإنجازها الدراسي، إلا أن “التريند” الذي ثار حولها، كشف عن قسوة المجتمع، واضطهاده للنساء المصريات، ومدى تصلّب ثقافته المركزية، التي تروح ضحيتها أولا بنات “المركز” نفسه.
لا يتوفر لكل المصريات مجموعات ثقافية مترسّخة، مثل الناشطين النوبيين، وما يمتلكونه من تعاطف وخصوصية، للدفاع عنهن، وربما قد يعني هذا أن الحل، لانتزاع الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية للنساء، هو مواجهة الثقافة الذكورية المركزية المصرية، ومحاولة تفكيك نمط من “الوطنية”، لا تحقق نفسها إلا برقابة وقمع أبسط تفاصيل الجسد والأداء الأنثوي.
ليس بالضرورة أن نكون نوبيات، كي يحقّ لنا الرقص في مناسباتنا السعيدة، فالرقص ثقافة مصرية وعالمية وإنسانية، وبالتأكيد لن نكون مواطنات في وطن سعيد ومزدهر، إذا كان رقصنا يهدد عقيدته، وهويته القويمة، ورؤيته لذاته.
شكرا لهذا المقال ولكاتبته