“تمثلات المجتمع المصري”.. أو النقود الرديئة لعالم ما بعد يناير

ما الأبعاد الجديدة لمشاعر الخوف والسعادة؟ لماذا يميل الناس إلى نشر صور كثيرة على مواقع التواصل؟ وكيف يتم التعامل مع أجساد البشر وعمران المدينة؟ عبر هذا النوع من الأسئلة، يسعى الباحث المصري أحمد عبد الحليم، في كتابه “تمثّلات المجتمع المصري في الذات والجسد والهُوية”، لتدوين نوع من التأريخ لحياة المصريين بعد عام 2011. كثير من الدراسات والكتب ركّزت على الجوانب السياسية أو الثقافية أو العمرانية، لتطورات المجتمع المصري بعد ثورة يناير، فيما يحاول عبد الحليم قراءة علاقات القوة، والوجود في الحيز المديني، والتصورات الأيديولوجية حول الذات والعالم، بمنهج عابر للتخصصات، قد يكون شديدة الأهمية، لإدراك ما تغيّر في تمثّلات الوجود الاجتماعي في مصر، بعد اثني عشر عاما من ثورة، لم تعد الحياة قبلها كما كانت.
يبدو أن هنالك عناصر ما، تتكرّر بشكل دائم في التاريخ المصري، إذ يمكن أن نجد في الواقع الحالي أشياء مشابهة لما وصفه مؤرخون مصريون قدماء، مثل تقي الدين المقريزي، من اضطرابات اجتماعية وسياسية، وأزمات معيشية واقتصادية، تصل لدرجة المجاعة والفوضى. وإذا كان المقريزي قد فسّر كل ذلك بـ“سوء تدبير الزعماء والحكام، وغفلتهم عن النظر في مصالح العباد”، فإن عبد الحليم، في كتابه، الصادر حديثا عن دار “رياض الريّس” في بيروت، يوسّع دلالة “التدبير”، لتشمل كل العوامل السلطوية، الداخلية والخارجية؛ والمؤثّرة بعمق، سياسيا، واجتماعيا، وثقافيا، ونفسيا، وعمرانيا، وتقنيا. عبر أدوات، تتفاعل، وتشكّل حيوات وطبائع وثقافات وممارسات المُجتمعات، ما قد يجعل الكتاب محاولة لكتابة “خطط” جديدة لمصر، على نمط “خطط المقريزي”، ولكن بعد الاستفادة من أهم مناهج العلوم الإنسانية المعاصرة.
لاحظ المقريزي، في كتابه النوعي والمتفرّد، “إغاثة الأمّة بكشف الغمّة”، بعد أن رأى ما أصاب المصريين في وقته، من مجاعة متقطّعة، تبعها طاعون فتّاك، تراجع النقود الذهبية “الجيدة” من التداول، أمام النقود النحاسية “الرديئة”، بسبب ارتفاع الأسعار، وانخفاض القيمة الشرائيّة للنقود، فشاع استخدام الذهب والفضة في صناعة الحلي والمشغولات، بدلا من وضعهما في التداول. وبعيدا عن المعاني الاقتصادية المباشرة لهذه الملاحظة، فربما يمكننا أن نقرأ في المدوّنة المعاصرة، التي أنشأها أحمد عبد الحليم، وقائع مشابهة، عن “النقود الجيدة والرديئة”، إلا أن معيار القيمة، للحكم على النقود، ليس المعدن الثمين أو الخسيس، وإنما عوامل سلطوية ومادية وثقافية، شديدة التعقيد والتشابك، تنتج دلالات القيمة، وربما لذلك عنون الباحث كتابه بـ”التمثّلات”. فكيف سيطرت “النقود الرديئة”، منعدمة القيمة، على مجالات الحياة العامة في مصر بعد 2011، حاملة معها مفاهيم وقيم، تبدو فارغة، ومتضخّمة، ولا معنى لها؟ وكيف استطاعت طرد “النقود الجيدة”؟ وما الماهية الفعلية لما كنا نظنه جيدا وقيّما، وبات اليوم شبه معدوم في حياتنا؟
يخصص عبد الحليم أولى فصول كتابه الخمسة لـ”تمثّلات الإنسان”، ويتناول فيها المشاعر، مركّزا على شعورَي السعادة والخوف، وما طرأ على أحاسيس الأفراد من تغيّرات، وتخبّط يومي مستمر، وهي ميزةُ تُمهد للقارئ فهم ذاته والمجتمع، قبل الغوص في تفكيك الممارسات المجتمعية.
يعتبر الكتاب “هوس التصوير”، سواء كان صورة ثابتة أو فيديو، أولى الممارسات الواجب تحليلها، ليس لكونها فقط من أكثر الأشياء المُلازمة لإنسان اليوم، بل أيضا لدورها الرئيسي في تحولات الأنا والذات، وخلق هُوية ثقافية واجتماعية. تلك التحولات دفعت الذات الإنسانية للبحث عن احتياجاتها العاطفية والاجتماعية في شاشة الهاتف، بدلا من قضاء وقتها في البحث عن احتياجاتها العاطفية والاجتماعية، في بيئة تنتمي إليها وتندمج فيها.
يواجه عبد الحليم قارئه، بعد تمهيد تحليلي للمشاعر وممارسات الصورة، بسؤال محوري، وهو لماذا تمتلئ فضاءات التواصل الاجتماعي بكل هذا الكم من المحتوى المرئي؟ بل ولماذا أصبحت تلك الممارسات تأتي من طبقات اجتماعية، متباينة ماديا وثقافيا واجتماعيا؟ يبني الكاتب وجه نظره، في تحليل تلك الممارسات، على مفهوم “التابع” للفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي، إذ لم يحظ معظم الناس في عصرنا بأيّ اعتراف اجتماعي منذ ولادتهم، سواء من الدولة أو المؤسسات الاجتماعية أو الثقافية، ولذلك رأوا في بثّ يومياتهم نوعا من “النضال من أجل الاعتراف” بهم اجتماعيا داخل الفضاء الاجتماعي. هكذا يبدو الحضور الافتراضي المبالغ به، عبر الصورة، نوعا من التعويض، عن تعطّل وظائف أنظمة المجتمع الأساسية، وعدم قدرتها على إدماج الأفراد، ومنحهم الاعتراف.
في الفصل الثاني، “تمثلات النيوليبرالية”، يبدأ عبد الحليم في شرح حالة “الاغتراب”، الذي يعيشه البشر وسط حياة استهلاكيّة سريعة، “يركضون على رمال متحركة”، ما يدفع الإنسان دفعا للهروب منها بشتى الطرق، ومنها النوستالجيا. يركز الكاتب على تلك النزعة الإنسانية العتيقة المتجددة، في الهروب من الواقع الأليم، نحو عوالم مُتخيلة، يظن فيها الخلاص. فالشخص المأزوم ينشئ داخل عقله تاريخا لا أساس له، حتّى وإن كان الزمن، الذين يحنّ إليه، هو زمن احتلال أو مأساة أخرى، لكن بالنسبة له، فمن المؤكد أنه سيكون أفضل مما يعيشه حاليا. تلك النزعة الإنسانية في الهروب من الواقع لاحظها المقريزي، في كتابه سالف الذكر: “الحالة المستقبلة تُتَصوّر في الوهم خيرا من الحالة الحاضرة، لأن مَلالة الحالة الحاضرة تزيّن في الوهم الحالة المستقبلة؛ فلذلك لا يزال الحاضر أبدا منقوصا حقه مجحودا قدره، لأن القليل من شرّه يُرى كثيرا؛ إذا القليل من المشاهدة أرسخ من الكثير من الخبر، وإذ مقاساة اليسير من الشدّة، أشق على النفس من تذكُّر الكثير مما سلف منها”.
ما يضيفه عبد الحليم حول تلك النزعة (النوستالجيا) أنه في حياة استهلاكيّة سائلة، لن يجد الهاربون صعوبة في الهرب إلى العوالم المتخيّلة، على خلاف ما كان الحال في زمن المقريزي، فقد وفّرت الحداثة لسكان هذا العصر أدوات عدّة للهروب من الواقع، فبعدما تحوّل الواقع إلى “العالم الافتراضي”، بتنا اليوم في عصر “الميتيافيرس”، وكل شيء يمكن القيام به، حتّى استحضار فنانين كبار غادروا عالمنا، ليس فقط عبر برامج الذكاء الصناعي لمحاكاة الصوت، بل صار من الممكن، من خلال تقنيّة “الهولوغرام”، حضور حفلات لأم كلثوم وعبد الحليم، ورؤية تفاعلهما مع الجمهور على المسرح.
ذلك التغيّر الكبير في مفاهيم الذاكرة والزمن، ترك، كما هو متوقّع، أثارا عميقة على الفنون. يصف أستاذ الفلسفة المغربي عبد الإله بلقزيز، ما أحدثته الرأسمالية المعاصرة بالقيم الرمزية والفنيّة، بالقول: “حولتها إلى موضوع للاستثمار، ولإنتاج سلع أو خدمات، تُشبع الحاجات الاجتماعية من القيم لدى الناس، بما فيها الافتراضيّة“.
وفي الفن المصري، حتّى بين الثوريين، أصحاب القضايا المنحازة للفقراء والمظلومين والمهمّشين، بات يمكن بث الفنون والرموز الثقافية “الثورية”، بعد فلترتها، بما لا يزعج كثيرا السلطويّة الحاكمة، والشركات المنتجة والمنظّمة، لكن الأهم من كل هذا، أن بيع هذه الرموز والفنون، للخارج والداخل، سيعود بربح عالٍ.
يشتبك عبد الحليم مع تمثّلات “الاستهلاك”، في الفصل الثالث من كتابه، المخصّص للحديث عن القيمة الفنيّة، والانتماء والعلاقات الأسرية. منتقدا تسليع “القيمة الفنيّة”، على أيدي فرق موسيقيّة، استمدّت قيمتها من ثورات شعبية، مثل “كايروكي” وغيرها، بعدما خرجت من مساحات، عدّت ثقافيّة، مثل “ساقية الصاوي”، إلى المساحات الاستهلاكيّة، والحفلات المنظّمة، ذات التذاكر باهظة الثمن.
ذلك النوع من المساحات، من أهم ما ينتج “تمثلّات الجسد”، التي يفرد لها عبد الحليم الفصل الرابع من كتابه، محللا ممارسات السُّلطة فيما يخصّ أجساد البشر، وهي ممارسات تعمل على تصورات نفسيه واجتماعية وسياسية. يشرح الكاتب كيف مثّل الجسد دائما سُلطة نفسية واجتماعية لصاحبه. إلا أنه، في ظرفنا الحالي، يطوف بين ثلاثة تمثّلات: البطولة والنبذ والموت. ومما يلفت النظر بشكل خاص ما سمّاه “الجسد المنبوذ”، محدّدا تمظهرات كثيرة له، وأمثلة كثيرة عليه، ومنها الأجساد الواقفة في الطابور، بمختلف أشكاله، في أفران الخبز، المستشفيات، المصالح الحكومية، وغيرها؛ وكذلك الأجساد المتكدّسة في المواصلات العامة، والمستلقية تحت الكباري والأرصفة والحدائق العامة. هذه الأجساد “تُمشّطها” الدولة، عبر نقلها من وسط المدينة، ونبذها إلى “أطراف”، أي مواضع هامشية، تنشئها سياسات سلطوية معقدة. تنظّف الدولة الشوارع، وتصنع “الكردونات” الأمنية، حتى يتم إخفاء هذه الأجساد، والعمران المنبوذ، الذي أتت منه، عن أعين الزائرين.
هذه الممارسات وغيرها، التي خلقت اكتئابا وجوديا عند المنبوذين (حسب أستاذ علم النفس اللبناني مصطفى حجازي)، أدت لحالة من تصاعد التمايز والصرع بين الطبقات، لا يوجد مَنْ يعبّر عنها بشكل فعلي، فالجسد وتمثلاته، يبقيان في خانة النبذ، ما لم يكن بالمستطاع تحويلها إلى فن “ثوري”، قادر على إنتاج “قيمة” تمويلية لنفسه.
في الفصل الأخير من الكتاب، يشتبك عبد الحليم مع ثلاثة مفاهيم: الهُوية والعمران والفردانية. ويرى مدى انكماشهِم وامتدادهم، ظهورهم والتفافهم، وجودهم وتيههِم، في المُجتمع المصري. في الهُوية، يستعرض عبد الحليم، بإيجاز، السياق التاريخي للهويات المصرية، الإسلامية والقومية العربية والليبرالية، ومن ثم يناقش كيف باتت هذه الهُويات، في ظل سُلطوية ما بعد الثلاثين من حزيران/يوليو 2013، في حالة موات تام.
يُعدد عبد الحليم أسباب حالة التيه الهُوياتي، ثم ينتقل لعلاقة العمران بالجسد واللسان، ويوضّح مدى تفكيك عمران ما بعد الثورة للهُويات اللسانية والجسدية في مصر. إذ يرى أن الثقافة مرتبطة بالعمران، وفق علاقة بناء متبادلة، “يتبع العمران بناء ثقافة، وتتبع الثقافة بناء العمران“، حسب أستاذ الاجتماع المغربي إدريس مقبول. بينما يتعمّق، في موضع آخر من الفصل نفسه، في علاقة الفردانية، بوصفها مفهوما وممارسة، بالمقاومة، إذ يرى أن الأولى تقاوم الثانية، أي أن الفردانية تقاوم المقاومة ذاتها، وتجعل البشر يركنون للاستسلام، وعيش الحياة بشكل أناني، وتُفكك أي معنى أو ممارسة، سواء المقاومة ضد الذات نفسها، أو المجتمع والسُلطة، وغير ذلك من أشكال الهيمنة، التي تُحيط بالإنسان.
للمرة الثانية يختم عبد الحليم كتبه بعنوان “بدلا من الخاتمة” (المرة الأولى في كتاب “من يمتلك حق الجسد”)، داعيا إلى ملاحظة ومتابعة ورصد كيفية التغيير والتحوّل فيما يتعلّق بذواتنا وأجسادنا وعلاقاتنا، والأفكار والأشياء من حولنا. مثل السياسة، نُظم الحكم، التاريخ، الاجتماع، الأخلاق، التقنية، الثقافة، المؤسسات بكافة أشكالها، الرسمية وغير الرسمية، وسوق العمل ومجالاته المُختلفة، سواء للرجل أو المرأة. فهذه الملاحظة قد تنتج عنها رؤيا، يمكن تُترجم إلى عمل واقعي، وممارسة سلوكية، ربما تُغيّر شيئا على المدى القريب أو البعيد، أو تنقلنا من الحالة الأسوأ إلى الأقل سوءا.
لا يمكن أن نميّز، من قراءة كتاب “تمثّلات المجتمع”، بين النقود الرديئة والجيدة، إذ أن الموضوع يتعلّق بقدرتها على فهم العوامل المختلفة، التي تؤثر في اجتماعنا وعلاقاتنا وثقافتنا. يريد الكاتب القول لنا إن “العالم الجديد”، الذي نعيشه بعد ثورة يناير، بإمكانه استنساخ ما لا نهاية له من العلامات والرموز وعلاقات السلطة والأوراق النقدية. القدرة الاجتماعية على التفلّت من عوامل الاستلاب والاقصاء والنبذ، هي وحدها ما قد ينتج قيمة ما ضمن هذه الفوضى، وعندها قد يمكن عكس العملية، التي تحدّث عنها المقريزي قبل مئات السنين، فربما تستطيع نقودٌ جيدة، يسكّها الناس، أن تفجّر كل الفقاعات الزائفة، التي تجعلنا منبوذين ومقيّدين وخاضعين للاستغلال.
ممتاز …اظن انه من الإنصاف أن يكون هذا المقال ..مقدمة الكتاب إذا كان هناك طبعة اخري
تحليل رااائع