أثواب الرجولة: لماذا نخاف من تشبّه الذكور بالإناث؟

أثواب الرجولة: لماذا نخاف من تشبّه الذكور بالإناث؟

يمكن اعتبار الجدل حول الملابس في المواقع الرقمية العربي، تعبيرا عن حالة قلق على الهوية الثقافية والجندرية، نظرا لما تمثّله الملابس من رمز للهوية، ومن مظهر لأبعاد اجتماعية متنوّعة، مثل الطبقة والدين والعرق والجندر.

اعتدنا أن يكون جدل الملابس متعلّقا بالنساء، فلطالما كان الجسد الأنثوي واحدا من أبرز القضايا السياسية والثقافية في العالم العربي، وكل ما يبديه أو يحجبه من مظاهر، ويقدّمه من رسائل، ويبرزه من رموز وعلامات، يعتبر في صلب الهوية ومفهوم الذات والعلاقة بالآخر، لدرجة أن حركات سياسية شديدة الجماهيرية، بنت خطاباتها على مسألة الجسد والملابس الأنثوية أساسا. إلا أنه في الفترة الأخيرة بدأت تظهر “تريندات”، تثير جدالات طويلة، حول ملابس الرجال أيضا، وطريقة تقديمهم لأجسادهم، خاصة بعد أن برز نجوم عرب بأزياء، اعتُبرت مخلّة بقيم الرجولة وهويتها، مثل قيام الفنانين المصريين عمرو سعد، وأحمد سعد، وويجز، بارتداء ملابس من خامة “الشيفون” الشفافة، التي تعتبر عادة من ملابس النساء “الخليعات”.  

تثير موجات الغضب والاستهجان حول أزياء الرجال عدة تساؤلات عن طبيعة علاقة الذكور بأجسادهم وما يلبسونه، إذ يبدو أن مفهوم “الرجولة” هو المحصلة النهائية، التي تجمع القيم “النبيلة” في التقليد العربي، الذي يربط الجسد والمظهر بالمنظومة القيمية، المتمثّلة في الشرف والعار، وهي المنظومة التي تحكم الرجال والنساء معا، بكيفيات متناسبة، مما يمنحها فاعلية في الضبط الإجتماعي والتمثيل السياسي.

وإذا كانت كينونة المرأة قد اختُزلت، على مدار التاريخ، في صورة الجسد الأنثوي والأمومي، تبعا لتقسيم العمل، وبنية الفضاء الاجتماعي، فماذا إذا فقد الرجال أنفسهم، الذين من المفترض أنهم الأمناء على “الشرف” بأكمله، رجولتهم، وباتوا يتشبّهون بالنساء، أو يرتدون ما يُعتبر “فاضحا”؟ لا بد أنها كارثة كبيرة، لدرجة أن دولا عربية، مثل العراق، تسعى لإصدار قوانين لمعاقبة “المتشبّهين بالنساء” عقابا شديدا.

ربما تكون القراءة المستقاة من الحياة اليومية، والخلفية التاريخية، أقدر على رسم صورة أوسع لمسألة الزي الرجولي، وإنتاج أجساد الذكور اجتماعيا، وعلاقة كل هذا بالقيم الثقافية والأخلاقية، والسلطات السياسية والاجتماعية القائمة. يمكن مبدئيا طرح الأسئلة التالية: مَنْ يتحدث، الثوب أم الجسد؟ هل ملابس الرجال مفروضة عليهم، مثلما تفرض ملابس معيّنة على النساء؟ ماذا يكمن وراء الملابس الرجالية؟ هل  يمكن للملابس أن تحرر الفكر أو تقيّده؟

كولاج الجسد: ما الذي تخفيه ملابسنا عنّا؟

يعود إرتداء الملابس إلى ما قبل ظهور الإنسان العاقل، فقد قام الإنسان المعروف باسم “النياندرتال”(1) بين 200 ألف إلى 30 ألف ق.م، بإنتاج الملابس الأولى، مع التغيرات المناخية والبيولوجية، في سبيل البحث عن طرق للتدفئة، والحفاظ على حرارة الجسم، وحمايته.

ونظرا إلى أن الإنسان عموما كائن رمزي، لم تقف الأزياء عند وظيفتها العمليّة، وإنما لعبت دورا رمزيا، فكانت ملصقات collage للجسد، تحمل أبعادا ميتافيزيقية واجتماعية وأخلاقية. يحضر خلالها الإنسان أمام الطبيعة والمجتمع، أي “الآخر”، سواء كان آخر بشريا أم كيانا متعاليا، لذلك تعتبر الأزياء إحدى الأحافير، التي تحكي لنا جوانب عن الثقافة والتاريخ .

 مرّت الملابس والأزياء، الذكرية والأنثوية، بمراحل متعددة في التاريخ، ولطالما اعتبرت تعبيرا عن “حقائق” ثابتة، إلا أن شيئا، في النظرة لها، بدأ بالاختلاف مع تقدّم الحداثة، وبروز فلاسفة وأدباء وثوّار اجتماعيين، طرحوا أسئلة عميقة، عن كل ما كان يعتبر “طبيعيا”. في مقدمة كتابه “العلم المرح”، يتساءل الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه عن موقع الجسد في تاريخ الفكر والفلسفة الغربية، قائلا: ” كثيرا ما سألتُ نفسي إذا ما كانت الفلسفة، في المجمل وحتى اليوم، تأويلا للجسد، وفي الوقت نفسه سوء فهمٍ للجسد”. لم يكن الالتفات إلى معرفة الجسد، وإعلاء أهميته، قولا جديدا، بل نجده، برؤى مختلفة، في مذهب أبيقور ومقالات ميشيل مونتين وواحدية سبينوزا. لكن أهمية سؤال نيتشه، تكمن في مجابهة الفكرة السائدة عبر العصور، بإحلال الجسد في منزلة دونية، في مقابل النفس أو العقل أو الروح.

شاع اعتبار الجسد سجنا للنفس، في ثقافات عديدة في العالم القديم، إذ تأصلت ثنائية الجسد/النفس في العصر الذهبي للفلسفة اليونانية، مع ميتافيزيقا سقراط وأفلاطون وأرسطو، التي قامت على سمو النفس والعقل، لاتصالهما بالحقيقة. واستمر ذلك الموقف الفلسفي في العصور المسيحية والإسلامية، خاصة مع أوغسطين وابن سينا والفارابي والغزالي وتوما الإكويني. كما رسخه الموقف الديني المسيحي والإسلامي، بناء على أسطورة الخلق، التي  اعتبرت الجسد عورة، يجب تغطيتها، بعدما وقع آدم وحواء في الخطيئة، فالروح خالدة، أما الجسد فانٍ، وهو “سوءة”، أول ما فعله أبو البشر وأمهم، لدى هبوطهما إلى العالم، كان تغطيتها.

في ضوء ذلك، نجد أن الملابس، في المجتمعات التقليدية، كولاج لإخفاء العورات، وصورة اجتماعية عن النفس الخالدة.

ومع صعود النزعة الفردية، في مجتمعات الحداثة، ترسّخت ثنائية الفكر والجسد مع ديكارت، إلا أن الجسد ظل ضئيل الأهمية في الكوجيتو الديكارتي: “أنا أفكر، إذن أنا موجود”. إلا أن صرخة نيتشه ضد سوء فهم الجسد، كانت مواكبة لمواقف فلسفية وعلمية، أعادت القيمة للجسد المشوّه، وتطوّرت بعدها كثير من المنظورات الجديدة، مثل الفلسفة الظاهراتية لإدموند هوسرل؛ والكوجيتو المقلوب “أنا جسد، إذن أنا موجود”، للفيسلوف الفرنسي موريس ميرلو بونتي؛ إضافة إلى مفهوم العقل طبقا لعلم الأعصاب، الذي ليس متعاليا أو متحررا من الجسد، بل يتشكّل تبعا لخصوصية جسده، والبنية العصبيىة للذهن.(2)

موريس ميرلو بونتي

تراجعت التقاليد الشعبية إذن أمام تطور النزعة الفردانية الحداثية وبعد الحداثية، لدرجة أصبح فيها الجسد، بحسب الأنثروبولوجي وعالم الاجتماع الفرنسي ديفيد لوبروتون، في كتابه “أنثروبولجيا الجسد والحداثة”: “بوتقة قريبة جدا من الملصقات السريالية، فكل فاعل يُصلح التصور الذي يصنعه عن جسده، بطريقة فردية ومستقلة”.

لكن، رغم كل هذا، وكل ما يقال عن “إشاعة ما بعد الحداثة”، بفردانيتها المطلقة، ما يزال لا يمكننا فهم الجسد والملابس، سوى عبر وجودهما الاجتماعي والسياسي والقانوني، خاصة في الإطار الرأسمالي للسوق الاستهلاكي، الذي أصبح فيه الجسد وملابسه سلعة مربحة، ويعتبره لوبروتون شكلا من تمجيد الجسد ومظهره، بوصفه خلاصا فرديا، حلّ محل الروح في ظل المجتمع العلماني، لكنه أبقى على الثنائية بين فكر الإنسان وجسده، خاصة عندما يؤكد على “حرية الاختيار” الفردي في الملابس، وكأن الروح الإنساني الفردي يختار من عليائه ما يريد أن يكسي به الجسد.

تشكّل النزعة الفردية جسد الإنسان، كقطعة من صلصال، يدور حولها، مع التفافه حول ذاته المفردنة. وبذلك، وبالعودة إلى ملابس الذكور، باتت “الرجولة من الآن فصاعدا، لا تخشى شيئا، لقد غيّرت معاييرها وأبطال نظرتها”(3)،  والكلام للوبروتون دائما. يمكن القول إن الجسد قبل الحداثة اعُتبر سجنا للنفس، لكننا في عصر الحداثة وما بعدها، نجد أن الجسد أضحى سجينا لدى النفس، بل يتخفّى ويندثر في ظل الفضاء الرقمي، و”ترينداته” التي لا تنتهي.

عربيا، باتت النظرة لجسد الرجل حائرة وقلقة، بعدما اعتاد الناس مشاهد ترويج الجسد الذكوري جماليا وإغرائيا؛ و”الاختيارات” الغريبة لملابس الذكور حول العالم، التي قلبت وغيّرت مواطن “الرجولة” في الجسد، بدون منظومة واضحة، يمكن للذكور المعاصرين الحائرين فهمها بوضوح.

اختلال المعيار: عندما خلعنا العمامة وحلقنا الشارب

يُعرِّف الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور، في كتابه “المتخيلات الاجتماعية الحديثة”، مفهوم “المُتَخيّل الاجتماعي” بأنه الفهم المشترك، الذي يجعل من الممارسات الإجتماعية ممكنة وذات مشروعية. فالمتخيل ليس مجرد نظرية للواقع الاجتماعي، بل انخراط فيما هو مشترك بين الناس، في طريقة تخيّلهم للواقع الذي يعيشون فيه، وما يجري بينهم.

ومن تلك الزاوية، يبدو أن مفهوم الرجولة، القابع في مخيلة أبناء الأقطار العربية، محمول مع نسيج من الأثواب السائدة في كل عصر، فمع إلتزم الرجال حدود تقسيم العمل، الذي جعلهم يسيطرون على الفضاء العام، اجتماعيا وسياسيا، باتت الأزياء معبّرا عن بطشهم الذكوري، وموقعهم الطبقي، وانتماءهم الديني.

شاع في العصور الأموية والعباسية، تمييز صارم في الملبس، ليس فقط بين الرجال والنساء، بل بين العرب والعجم، المسلمين وأهل الذمة، والأحرار والعبيد، وذلك التمييز لم يكن طوعيا أو خاضعا فقط للظروف المادية، بل تؤمّن الالتزام به منظومة كاملة من الضوابط والرقابة الاجتماعية.

كان استمرار القيم مرتبطا بالفاعل الرئيسي في المجتمع، أي الرجل، من منظور المسؤولية في الدولة، والولاية في الأسرة والمجتمع، ويمكن القول إن انفرد تعريف الرجل بكل ما هو معياري وقياسي، لم يأت من الفراغ، بل هو ناتج عن ظروف تاريخية، تخصّ نشأة المدن والحضارة كلها،  بما تشمله من منظومات اللغة والدين والأخلاق والملكية والسياسة.

نجد أن ملابس الرجال العصرية، في العصور الإسلامية، “كان من غير السار أن تكون ذات ألوان زاهية، رغم الاهتمام بالمظهر الأنيق، فكان لابد من تجنّب إرتداء بعض الألوان، مثل الذهبي والأصفر”(4)، ظلت تصاميم الملابس واختيار الألوان، التي تقدم هيئة الجسد الرجولي بوصفه لغة اجتماعية، أميل للمحدودية والتقشّف، وظل ذلك عالقا بصورة الرجال في المخيلة واللاوعي الجمعي.

في تلك العصور، كانت أغطية الرأس العلامات الأساسية في الألبسة، التي كانت تختلف في مكوناتها ودرجة رفعتها، تبعا لموقع الرجل ومكانته الاجتماعية، من العساكر ورجال الدين والقضاة، إلى الأشراف والسلاطين، وترتبط بالكرامة والشرف، فهي كانت، بحسب الجاحظ، “تيجان العرب”. كما كانت القلنسوة غطاء رأس لأرباب الحرف والتجارة، وكانت تعرية الرأس ونزع العمامة طعنا في آداب وأخلاق الرجل، بحسب كل فئة. حتى أن تشويه غطاء الرأس استعمل ضد معارضي السلطة، خلال العصر الفاطمي في مصر والمغرب الكبير، مثل إلباسهم الطرطور(5).

عمامات متعددة الطيات (6)

ظلت مفاهيم الرجولة معتمدة على العمائم إلى العصر العثماني، الذي أدخل ملبس البذّة والطربوش، والأخير اتخذ أهمية رمزية لدى الرجال في المدن، فكانت كل المذلة في أن يقال لأحدهم: “اخلع الطربوش”. حتى أنه في عشرينات القرن العشرين، نشبت معركة ثقافية مصرية، في خضم الجدل حول “الأصالة والمعاصرة”، بين العمامة والطربوش والقبعة، فارتأى رجال الدين الالتزام بالعمامة، بينما نادى المحافظون بأصالة الطربوش، في مواجهة حداثة القبعة. مصطفى صادق الرافعي مثلا، في دفاعه عن الطربوش، طرد القبعة من عالم الأصالة والأخلاق والرجولة، معتبرا ارتداء القبعة؛ “مظهرا من التهتك الاجتماعي”، كما أنها “في الرجال مشتقة من المصدر نفسه، الذي يخرج منه التهتك في النساء (…) فهي تهتك أخلاقي وسياسي وديني”(7).

سقطت أغطية الرأس، بالتزامن مع التحولات الاجتماعية والسياسية في المنطقة العربية خلال القرن العشرين، مع دول ما بعد الاستعمار، التي التفتت إلى إسقاط رموز الهوية القديمة. ونجد أن هنالك عدة عوامل وقوى ساهمت في إعادة إنتاج المخيلة العامة حول اللبس الرجولي، منها الزي العسكري، الذي سيطرة على السلطة والخطاب الوطني، وجعل من الانضباط العسكري سمة الرجولة؛ وكذلك الخطاب الإسلامي، ابتداء من الصحوة الإسلامية الأولى في عشرينات القرن العشرين، والتي سعت لمجابهة الانتشار الثقافي الحداثي الغربي. من جهة أخرى عملت “الأقاليم”، والأماكن البعيدة عن السلطة المركزية، على الحفاظ على “خصوصيتها”، من خلال التزم أبنائها بالملابس المحلية، للمحافظة على صورة الرجولة، كما هي في المخيلة القروية والقبلية.

الجدير بالذكر أن المخيلة الاجتماعية عن الرجولة فيها مكوّنات متنوعة، تبعا للتقسيم الطبقي والجغرافي، فما يجب إخفاؤه أو إعلانه، وما يجب ارتداؤه أو نبذه، يختلف بحسب المكان والزمان، أي أن للرجولة إصدارات مختلفة، تبعا للبيئة والثقافة والمجتمع. فالأزياء الرجالية في بلاد الشام، كانت ترتبط بالشارب العربي، الذي عُدّ تفاخرا بالرجولة والشرف، وعندما هُزمت الدول العربية أمام إسرائيل، رسم فنان الكاركاتير الفلسطيني الشهير ناجي العلى رجلا عربيا، تدلى شاربه وعقاله إلى الأسفل(8) أما اليوم، فالشارب أصبح رمزا اختياريا، يظهر حينا ويختفي حينا، تبعا لصيحات الموضة، بل إنه بات من المألوف سخرية الأجيال الحديثة من شوارب الأجيال الأقدم، وهو أمر كان خطيرا، ويعتبر ذنبا عظيما، فيما مضى، أما اليوم، فهو من مواضيع “الميمز” المفضّلة.

مع سقوط أغلب العلامات المترسّخة في الثياب الرجالية، في عصر الموضة المعولمة، أصبحت علامات الملبس الرجولية رموزا ثقافية سلبية، بمعنى أن رجولة المظهر تكتسب رمزيتها بالمخالفة، وعدم التشبّه بمظاهر لا تعتبر ذكورية، كما عندما يرتدي الرجل موديلا مستهجنا، سواء كان بنطالا ضيقا أو مقطّعا، أو قميصا بألوان محسوبة على الأنوثة، أو خامة قماش شفافة.

ولكن إذا كان مفهوم الرجولة، في المتخيّل العربي، له وظائف اجتماعية أساسية، على رأسها حق الوصاية العائلية والمجتمعية، فكيف تعمل هذه الوظائف اليوم، مع تفكيك وتمييع جانب كبير من رمزيات الجسد الذكوري؟ 

الشرف الهجين: عندما لا تُعرّف “الرجولة” إلا بنقائضها

اكتسبت أزياء الرجولة دائما، في المتخيل الاجتماعي، جانبا مهمّا من تعريفها من خلال نقيضها، أي “الأنوثة”، فعلى الرغم من أن الذكور ينشؤون منذ الطفولة في حضن ورعاية العالم النسائي، متوغلين في التعرف على ذلك العالم، إلا أنه مع مرحلة البلوغ، يُطردون منه إلى عالم الرجال، لدرجة القطيعة مع كل الرموز والمظاهر النسائية، “فالصبي يصبح رجلا، بإنكار الأنوثة والتبرؤ منها”(9). وحتى في عالم الرجال توجد تحذيرات مبطّنة للحماية من الاعتداء المثلي الذكوري، فمشكلة المثلية الأساسية، في هذا الخيال، ليس فقط مخالفتها لـ”قيم الأسرة”، بل ربما أساسا أنها يمكن أن تجعل الذكور في مرتبة النساء، مفعولا بهم، ويمكن الاعتداء عليهم، وجعلهم موضوعا للرغبة. يكره “الرجال العرب” المثلي لأنه، في مخيلتهم، يذكّرهم بتصرفاتهم هم مع النساء، وقد ينزل بهم الانتهاكات نفسها، التي تعودوا على إنزالها بالإناث في أوساطهم.   

التنشئة الاجتماعية للذكور، نفسيا وجسديا، تقوم على هدف “ترجيلهم”، من خلال تجريدهم من كل ما هو أنثوي. إذ أن “العالم الاجتماعي يبني الجسد واقعا مجنّسا (…) كما تكون الرجولة، بمظهرها الإتيقي نفسه، وبإعتبارها ماهية القوة، والفضيلة ومناط الشرف”(10) هكذا يكون الإذلال الأسوأ للرجال، نفسيا واجتماعيا، التشبّه بالنساء والمثليين، ومظهرهم المدمج بالوصم والنكات، إذ تعمل مركزية الذكورية/الأنثوية، من خلال ثنائيات الهيمنة والخضوع، الخشن والناعم، الطبيعي والشاذ.

في مصر مثلا، وعلى المستوى الشعبي، يوصم أي ذكر غير نمطي، في الملبس والسلوك، بـ”الخول”(11) و”سيس” و”منسون”. وهكذا يمكن الاستنتاج أن التطرف الشديد، الذي نشهده حاليا، ضد المثلية والنساء، هو محاولة للإبقاء على الذكورية، المعرّفة بهيمنتها على نقائضها، وأذيتها لها، في ظرف تمييع واختلال كل البنى والرموز الأبوية المترسّخة.

مع انحسار الخطاب الإسلامي، اجتماعيا وسياسيا، بعد الربيع العربي، تراخت قبضة الضبط الاجتماعي نسبيا، ولفترة محدودة، مما سمح بتغيرات، كانت تثير الإستهجان في عيون الرجال والنساء على حد سواء، أبسطها إرتداء الشورت والتيشرت بالألوان الزاهية في المناطق الشعبية. إلا ان الدولة المصرية عادت لضبط الأمور، عبر قوانين وإجراءات شديدة القسوة.

رغم هذا، لم يعد بإمكان أية جهة الضبط الكامل لسيولة الرموز الاجتماعية والجندرية، المنتشرة عالميا عبر عولمة وسائل التواصل الاجتماعي. مؤخرا، تصاعدت موضة الشيفون الشفاف، والملابس المطرّزة، وحلق الأذنين، بين بعض الفنانين والمغنين العرب، ما أثار غضبا واستياء شديدا من الرجولة المفقودة.

فنانون عرب أثارت ملابسهم الجدل

يُستعمل مصطلح “الذكورية الهجينة”(12)، في بعض السياقات، لوصف التحولات، التي تحدث للهيمنة الذكورية التقليدية، بسبب التقارب بين الجنسين، وعلى الرغم من أن الرصد الاستقرائي لملابس الرجال، في الفئات العمرية الشبابية، خلال السنوات العشر السابقة، يظهر تنوّعا محدودا فقط، على حسب نطاق الشرط الاجتماعي، إلا أن هذه “الهجنة” تثير مخاوف كبيرة، لدى ذكورية لم يعد لديها كثير مما يسندها اقتصاديا واجتماعيا، تعيش في عالم تتغير رموزه وعلاماته، بسرعة لا يمكن لأحد استيعابها.

يمكن فهم تلك التحولات الحاصلة في مفهوم الرجولة المتخيّلة، باعتبارها مجموعة من الاستعدادات المكتسبة، التي توجه السلوك تلقائيا، تبعًا لمفهوم “الهابيتوس” Habitus لعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، أي التآلف مع نمط الأزياء، المتجاوزة لثوب الرجولة التقليدي المتخيّل، عبر التفاعل مع العوالم الرقمية المتعددة، مثل منصات التواصل البصري، يوتيوب وتيك توك وانستغرام، ومنصات الأفلام والمسلسلات“HBO” ، “Netflix” “Disney”، التي “تطبّع” المنتجات الثقافية العالمية في الذوات الفردية. بيد أن ذاك التفاعل “ينتج أفعالا، في الوقت الذي يكون مُنتجا هو نفسه من لدن التكيفات التاريخية والاجتماعية”(13) .

يبدو أن هابيتوس الأزياء العصرية، عصي على التحول إلى صيغة اجتماعية، قادرة على تفكيك البنية الرمزية للجسد والملابس الرجولية، بل من المتوقّع أن تترافق تلك “الهجنة” مع مزيد من العنف الذكوري، الذي يقوم بردة فعل فوضوية، على تغيّر عالمه وانهياره، وهذه من سمات عصرنا حول العالم، فكلما ازدادت المظاهر الجندرية والثقافية غير المعيارية، يزداد بالمقابل التطرّف، والمحاولات اليائسة لإعادة الأمور كما كانت. وفي كلتا الحالتين، الهجنة والتطرّف، نرى نمطا من الفردنة، المنبتة عن أي سياق اجتماعي راسخ، اللهم إلا ما يوفّره “السوق” من علامات، سواء كانت هجينة أو متطرفة.

نعم، يمكن للرجال أن يرتدوا ملابس خليعة، وأن يتسببوا بكثير من “العار”، ويمكن لهم أيضا أن يصبحوا قتلة ومرتكبين لأعمال عنف، لأجل مسح ذلك العار، ولكن بدون أن يكون هنالك، في الحالتين، أي مفهوم واضح لـ”الشرف” أو “الفضيلة”، سواءً كان مفهوما تقليديا أو مدنيا.    

مصادر وهوامش

https://www.textileschool.com/4639/origin-of-clothing/ (1)

         وأيضا: http://www.historyofclothing.com/

(2) يعني مفهوم “اللاوعي المعرفي”، أن معظم فكرنا لاواعي، وذلك اعتمادا على أن كل بنية الذهن، من الذاكرة واللغة والعصب والعمليات والسيرورات الحسية، أشكال تتم بدون مجهود ملاحظ من أدنى مستويات الوعي. أي أنه “يصف بدقة كل العمليات الذهنية اللاواعية، التي ترتبط بالأنسقة التصورية وبالمعنى وبالاستنتاج واللغة.”، هكذا يكون التفكير مجسّدا طبقا للبنية الذهنية العصبية للدماغ. جورج لايكوف، الفلسفة في الجسد.

(3) أنثربولوجيا الجسد والحداثة،دافيد لوبروتون.

(4) Arab Dress: A short history from the dawn of Islam to modern times, yedida kalfon stillman

(5) أغطية رأس الرجال بمصر الإسلامية في العصرين الفاطمي والأيوبي: دراسة أثرية (358-648هـ/909-1250م)، دينا سمير:

https://journals.openedition.org/anisl/10664

(6) تصاوير مخطــوط مقامات الحريري، المحفوظ بالمكتبة الوطنية بباريسBnF, Ms. (Ar 5847 f°131v°) :

(7) شاهد عيان على الحياة المصرية، جمال بدوي.

(8) الرجولة المتخيلة الهوية الذكرية والثقافة في الشرق الأوسط الحديث مي غصوب.

(9) المصدر نفسه

(10) الهيمنة الذكورية، بيير بورديو. المنظمة العربيى للترجمة.

(11) يعود أصل اللفظ الدارج إلى القرن التاسع عشر حين كان الرقص محظورًا على النساء، فكان من يطلق عليهم “الخولات” هم من يرقصون من الرجال.

(12) (Re)Fashioning Masculinity Social Identity and Context in Men’s Hybrid Masculinities through Dress Ben Barry Ryerson University, Canada

(13) معجم بورديو، ستيفان شوفاليه وكريستيان شوفيري

3.8 8 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات