تُفتح النسخة الثمانون من “مهرجان فينيسيا السينمائي”، في الثلاثين من آب/أعسطس 2023، وهو المهرجان السينمائي الأقدم في التاريخ، بدأ عام 1932، بمبادرة من الكونت جوزيبي فولبي، رفقة النحاتين أنطونيو ماريني ولوتشيانو دي فيو. ويصنّف بوصفه “مهرجان صف أول”، جنبا الي جنب مع مهرجانات “ساندانس”، و”كان” و”تورنتو” و”برلين”، التي تعتبر “الخمسة الكبار” بين المهرجانات السينمائية.
من المثير أيضا التذكير أن المهرجان توقّف لمدة ست سنوات، منها ثلاث أثناء الحرب العالمية الثانية، وأقيمت فعالياته ثلاث مرات أيضا، بدون أن تحمل رقما للدورة، كما لم يُقم مسابقة رسمية ويمنح الجوائز في دورتين، وذلك يفسّر الفارق بين عدد دوراته وتاريخ تأسيسه، فبعد واحد وتسعين سنة من الانطلاقة، لدينا ثمانون مسابقة فقط.
كان لسينما العالم العربي حضور كبير في “فينيسيا”، إذ نالت كثير من الأفلام العربية جوائز متنوّعة فيه، لدرجة أن كثيرين يعتبرونه الراعي الأول لـ”أفلام المهرجانات” العربية، إلى جانب مهرجاني برلين وكان. ما يجعل الوصول إلى فينيسيا حلما لكثير من السينمائيين العرب.
يشارك في الدورة الحالية من المهرجان، الفيلم المصري الوثائقي Hollywoodgate، للمخرج ابراهيم نشأت؛ كذلك يُشارك، ضمن قسم “افاق”، الفيلم الروائي التونسي الطويل “وراء الجبال”، للمخرج محمد بن عطيه، في عرضه العالمي الأول. ويبدو أن هذين الفيلمين هما الأكثر “مهرجانية” عربيا في الفترة الأخيرة.
يقودنا هذا للحديث عن مصطلح “سينما المهرجات”، الذي بات سائدا عربيا يشكل كبير مؤخرا، مع العلم أن التفريق بين الفيلم الجماهري/التجاري، والفيلم “الفني”، مطروح عالميا منذ سبعينات القرن الماضي، إلا أن مفردة “مهرجانات”، التي لا يقتصر استعمالها على صنّاع السينما، بل يستخدمها الناس بكثرة، للسخرية أو الانتقاص من أفلام معيّنة، لا تبدو واضحة المعنى، أو محددة المفهوم. على الصعيد العالمي توجد مصطلحات متعددة، تصف أنواعا مختلفة من الأفلام، فهنالك مثلا ما يدعي بأفلام الـ”آرت هاوس” Arthouse ، وهي مختلفة بعض الشيء عن “الأفلام المستقلة” Independent film، والمزج بين النوعين خطأ شائع، دائما ما يقع فيه المتابعون، وحتي كثير من ممتهني صناعه السينما. لأن فيلم الـ”آرت هاوس” ليس بالضرورة منخفض التكلفة، أو مستقلا إنتاجيا عن الشركات الكبرى، وهنالك كثير من الأفلام، التي جمعت من بين كونها أفلاما “تجارية” و”آرت هاوس” في الوقت نفسه، ومن أبرز أمثلتها مؤخّرا فيلم Everything Everywhere All at Once، الحائز علي جائزة الأوسكار؛ أما “الأفلام المستقلة” فلا يقوم تعريفها على الابتكار في اللغة السينمائية، بقدر استقلال آلياتها الإنتاجية.
وبهذا المعنى فعلينا، لكي نفهم المقصود بتهمة “سينما المهرجانات”، استعراض بعض الأفلام العربية، التي حصدت الجوائز عالميا، ومعرفة سماتها الفنية والأيديولوجية والإنتاجية، وربما كان “فينيسيا” مناسبة ممتازة لخوض هذا النقاش، فهو أكثر من توجّه إليه “المهرجانيون” العرب، فهل يمكن إيجاد سمات مشتركة للأفلام الفائزة بجوائز المهرجان؟ وهل تماهى بعض صنّاع الأفلام عمدا مع أجندات وأساليب معيّنة، كي ينالوا تلك الجوائز؟
خارج الصناعة: “الشاهينية” بوصفها سفيراً في فينيسيا
تعتبر مصر أول دولة عربيه، شاركت في فعاليات “فينسيا”، عبر فيلم “وداد” عام 1936، وهو من بطوله أم كلثوم، وإنتاج “استوديو مصر”، وإخراج الألماني فريتز كرامب. إلا أن المشاركات المصرية ازدادت وتكثّفت بقوة، ابتداء من خمسينيات القرن الماضي.
يُعتبر يوسف شاهين من أكثر المخرجين العرب ترشّحا لجوائز مهرجان فينسيا، فهو شارك فيه للمرة الأولى بفيلمه “ابن النيل” عام 1951، ولكن خارج المسابقة الرسمية. وبعد سنوات حظي بأول ترشيح لجائزة “الأسد الذهبي”، وهي أهم جائزة في “فينيسيا”، عن فيلم “رجل في حياتي” 1957.
عاد شاهين مجددا للمسابقة، بعد خمسة وعشرين عاما، عن فيلمه “حدوته مصرية” 1982، إلا أنه لم يفز بأية جائزة حتى عام 2002، عندما حصل على “جائزه اليونسكو”، بالمشاركة مع عدد من المخرجين، مثل المكسيكي اليخاندرو اينريتو، عن عمل بعنوان “11 سبتمبر”، مكوّن من عدة أفلام قصيرة، تظهر رؤية مخرجين متعددين للهجمات الإرهابية على برجي التجارة في نيويورك عام 2001.
كذلك تم ترشيح الفيلم الأخير ليوسف شاهين “هي فوضى؟” 2007 لجائزة “الأسد الذهبي”، رغم أن كثيرين يرون أنه لا ينتمي لسينما شاهين، ويحمل بصمات تلميذه خالد يوسف بشكل أكبر. وعلى الرغم من أن الفيلم لم يحصد الجائزة الكبرى في فينسيا، إلا أنه أثار كثيرا من الجدل، ورأى كثيرون أنه تنبّأ بثورة يناير عام 2011.
إضافة لكل ذلك ترأّس يوسف شاهين لجنة تحكيم العمل الأول والثاني في فينسيا عام 2004. وربما هذا ما جعل تهمة “المخرج المهرجاناتي” ملتصقة دائما به. رغم هذا فإن نظرة على مجمل أفلامه، المترشحة للجوائز، تظهر أنها شديدة التنوّع، من حيث المواضيع والخطاب واللغة السينمائية. وعموما يمكن نسبة عديد من أفلام شاهين لتصنيف الـ”آرت هاوس”، إلا أنه من الاختزالي جدا لتجربته السينمائية، التي تفاعلت مع مختلف مراحل التاريخ المصري المعاصر وقضاياه، القول إنها سينما مصنوعة فقط لنيل الجوائز الدولية.
عموما لم تقتصر المشاركة المصرية في فينيسيا على الأفلام “الفنية” المعقّدة، فقد حضر فيلم كوميدي بسيط للغاية، مثل “نساء في حياتي”، للمخرج فطين عبد الوهاب، في دورة عام 1957، إلا أنه يبقى أن معظم الأفلام المصرية المشاركة، سواء كانت طويلة أو قصيرة أو وثائقية، لم تكن نفسها الأفلام الأكثر جماهيرية، أو التي يعرفها المشاهدون المصريون جيدا، ولديهم ذاكرة معها في صالات السينما، وبالتالي فيوجد بالتأكيد فرق بين “السينما المصرية” والأفلام القابلة للعرض في فينيسيا.
“أسد المستقبل”: لذة أن تكون “الأول”
في عام 2012 تم إنتاج الفيلم السعودي “وجدة”، لمخرجته هيفاء منصور، الذي رُشح للأوسكار، ولكن لم يستطع دخول قائمتها النهائية، ونال في فينسيا جائزة “الاتحاد الدولي للسينما الفنية”، وهو ماوضع السعودية علي خريطة صناعه السينما.
يقول يانيس هاغمان عن الفيلم، وهو صحفي ومحرر الماني مهتم بشؤون العالم العربي، وعمل في “جامعة الملك عبد العزيز” في السعودية : “ليس فيلم وجدة أول فيلم سعودي فحسب، وأول فيلم من إنتاج ألماني-سعودي مشترك، ولكنه أيضا أول فيلم يُصوَّر كاملا في المملكة العربية السعودية، في بلد مُنعت فيه في دور عرض الأفلام منذ سبعينات القرن القرن الماضي، وفي بلد حظر على النساء قيادة السيارات فيه. والآن شاءت الأقدار أن تقوم امرأة، وهي المخرجة السعودية هيفاء منصور، بإخراج أول فيلم، يُصوَّر كليّا في السعودية”.
غير أنه لم يكن من السهل تصوير الفيلم، رغم أنه حصل على دعم الأمير السعودي الوليد بن طلال، وشركة الإنتاج السينمائي الألمانية “راتسور فيلم” Razor Film، التي أنتجت أفلاما معروفة على مستوى عالمي، مثل “الجنة الآن” و”رقصة فالس مع بشير”. فقد اضطرت المخرجة لإعطاء التعليمات لفريق التصوير عن طريق الهاتف اللاسلكي، من داخل حافلة معدات التصوير، في الأحياء المحافظة في الرياض. مؤكدة، بعد العرض الأول لفيلمها في فينيسيا: “من المحظور على النساء والرجال في السعودية أن يظهروا معا علانية، وخصوصا إن كانت المرأة تعطي الرجال التعليمات. يحبّ الناس في الغرب أن يسمعوا هذا النوع من الأخبار عن السعودية”.
بالعودة لهاغمان، فهو يكمل حديثه بالقول: “إن منح عديد من الجوائز العالمية لفيلم وجدة، لا يرجع فقط إلى الطابع الريادي للفيلم، بل لأنه أول ما أخرجته هيفاء المنصور”.
قد يغني هذا النوع من التعليقات والتصريحات كثيرين للأسف عن الاهتمام بالفيلم نفسه، وسيقتصر الجدل على ظروف إنتاجه، واستحقاقه فنيا للجوائز الدولية.
قبل السعودية كان للكويت واحدة من أهم وأول إنجازات العرب في فينسيا، وذلك عام 1972، عبر فيلم “بس يا بحر”، وهو الفيلم الروائي الكويتي الطويل الأول، لمخرجه خالد الصديق، وفاز بجائزه “فيبراسي”، وهي جائزة مرموقة في المهرجان، لأنها جائزة النقّاد. ويذكر أن الفيلم أيضا حصل علي المرتبة التاسعة عشر، ضمن افضل مئة فيلم عربي، حسب استفتاء للنقاد السينمائين العرب، في الدورة العاشره لمهرجان دبي عام 2013.
يحكي الفيلم عن حياة صيادي اللؤلؤ في الكويت، من خلال قصة صياد يخوض مغامرة في البحر، لتأمين مهر حبيبته، وعلى الرغم من أن الفيلم لم يثر سنة فوزه بالجائزة تساؤلات حول “مهرجانيته”، لأن تلك التهمة لم تكن مطروحة آنذاك بشكل واسع، إلا أنه اليوم يثير السؤال نفسه: هل كرّمت فينيسيا الفيلم فقط لأنه أول فيلم كويتي؟
أما إذ ذهبنا للسودان، سنجد مثالا أبرز وأكثر دقة، وهو فيلم “ستموت في العشرين” 2019، للمخرج أمجد أبو العلا، وهو أول فيلم سوداني منذ عشرين عاما، والسابع في تاريخ السودان بأكمله، والأول ترشيحا لجائزة فينيسيا، وقد فاز بجائزة ذات اسم لافت: “أسد المستقبل -أفضل عمل أول”، ورشح لجائزة “فيدوريا” لأفضل فيلم، ولكنه لم ينلها.
سينما القضايا: في تعذّر القراء السينمائية
يمكن اعتبار المخرجة اللبنانية رندة الشهال ثاني أكثر اسم عربي حضورا في فينيسيا بعد يوسف شاهين، فقد شاركت فيه للمرة الأولى عام 1999، بفيلمها “المتحضرات”، الذي فاز وقتها بجائزة “اليونسكو”، بالمناصفة مع المخرج الإسرائيلي “غاموس غيتاي”، ما دفع الشهال لرفض الجائزة. لتعود عام 2003 بفيلم “طيارة من ورق”، الذي حصد ثلاث من أصل أربع جوائز، رُشح لها في المهرجان، وهي جائزة “سيني افينتي– سينما من أجل السلام”، وجائزة لجنه التحكيم، وجائزه “لنيترنا ماجيكا”، وكان الفيلم ينافس أيضا علي الجائزة الكبرى (الأسد الذهبي)، ولكنه خسرها.
يذكر أن رنده اختيرت أيضا ضمن لجنه تحكيم مسابقة العمل الأول عام 2007.
في عام 2011، شارك فيلم “الطيب والسيء والسياسي”، في مسابقة “آفاق” ضمن فعاليات “فينيسيا”، للمخرج عمرو سلامه، بمشاركة إيتن أمين وتامر عزت، وموضوعه كان ثورات الربيع العربي، ويمكن توّقع أنه أثار اهتماما كبيرا في المسابقة، وإن لم يفز بجائزتها الكبرى، واكتفى بجائزة “اليونسكو”. كثيرون اعتبروا هذا الفيلم نموذجا لـ”أفلام المهرجات”، التي صُممت، بكل وضوح، لإظهار أنها تعالج “قضايا”.
أما في عام 2017، فقد أثار فيلم لبناني يعنوان “القضية رقم 23” كثيرا من الجدل، بعد ترشّحه لجائزتين في فينيسيا، الأولى هي “الأسد الذهبي”، التي لم ينلها؛ والثانية “جائزة فولبي” لأفضل ممثل، وقد فاز بها بالفعل الممثل كامل الباشا. كما أن الفيلم وصل للقائمة النهائية لمهرجان الأوسكار. وكانت الدولة اللبنانية قد منعته، لمناقشته “قضايا شائكة” حول القضية الفلسطينية، والاحتلال الإسرائيلي للبنان، واتهم بتأييد “التطبيع”، كما صدر قرار قضائي بسجن مخرجه زياد دويري، الذي كان خارج لبنان.
بدوره، أثار فيلم “أميرة” 2021، لمحمد دياب، وهو من إنتاج أردني-مصري مشترك، جدلا كبيرا، بسبب تعامله مع قضية تهريب نطاف المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. وفاز بجائزة الجمهور ضمن مسابقة “آفاق” في فينيسيا.
كما يعتبر الفيلم السوري “نزوح” 2022، من إخراج سؤدد كنعان، وبطولة كندة علوش، الفيلم العربي الأول، الذي يفوز بجائزة الجمهور في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا، رفقه جائزة “لينتيرنا ماجيكا”، ويذكر أن الفيلم عُرض عربيا للمرة الأولي بالسعودية، ضمن مهرجان البحر الأحمر.
لا يمكن في أي من الأفلام المذكورة فصل “القضية” عن الحضور الفني للفيلم. ومع كل الجدل التي يثيره هذا النوع من الأفلام، يصبح من الصعب قراءته بشكل سينمائي بحت، وربما هو لم يصمم أصلا لمثل هذا النوع من القراءات.
حالات ثقافية: هل يمكن تجاوز منطق “المهرجان”؟
يمكننا إذن ملاحظة ثلاثة توجهات لـ”فينيسيا” بخصوص السينما العربية: الأول دعم أفلام الـ”آرت هاوس”، المصنوعة بلغة سينمائية، قريبة للغة السينما الأوروبية، كما في حالة يوسف شاهين؛ والتوجه الثاني هو دعم “البدايات”، أي الأفلام الواردة من دول، ما زالت في بداية مشوارها في صناعة السينما، خاصة إذا كان القائمون على هذه الأفلام من فئات لم تنل حقوقها بعد في تلك الدول؛ أما التوجه الثالث فهو تكريم “سينما القضايا”، عبر الاهتمام بالأفلام التي تعالج مسائل شائكة، لا تعالجها السينما العربية التقليدية عادة، ويمكن أن تثير اهتمام الأوروبيين.
في كل تلك الحالات لا يتجه المهرجان للاهتمام بالصناعة السينمائية العربية نفسها، بقدر ما يُعنى بـ”حالات” ثقافية، ذات دلالة واضحة، يمكن تصنيفها تحت عناوين عريضة، وتلفت انتباه المُحكّمين والجمهور. إلا أن هذه قد لا تكون سمة للتعامل مع الأفلام العربية فقط في المهرجان، بل من طبيعته نفسها، فهو بالنهاية حدث فني، بالمعنى الأوسع لكلمة “فن”، والذي يشمل أيضا الأهمية السياسية والأيديولوجية، ومكان الفيلم في مجتمعه وزمانه.
لا يمكننا القبول بسهولة بتهمة أن المشاركين في مثل هذه الأحداث الفنية من العرب، قد صنعوا أفلامهم خصيصا للمهرجانات، فلكل فيلم من الأفلام المذكورة أعلاه ظروفه وطريقته الفنية، والأسباب التي جعلته مثيرا لاهتمام نقّاد السينما ومحكّميها. وربما كان التحدي الأساسي ليس الوصول إلى “فينيسيا”، أو غيره من المهرجات، بل كيف يمكن إنتاج أشكال من “الفنية”، تفاجئ، وتتجاوز التصنيفات الاعتيادية، التي تعوّد القائمون على ذلك النوع من الأحداث السينمائية العمل على أساسها، وهو التحدي الفني الذي يواجه أي مبدع، سواء كان عربيا أو غير عربي.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.