الصراع على الحسين.. أو كيف أصبحت “كربلاء” واقعة سياسية حداثية؟

الصراع على الحسين.. أو كيف أصبحت “كربلاء” واقعة سياسية حداثية؟

يُعتبر العدل والظلم، الحرية والعبودية، من أبرز المفاهيم التي شغلت البشر عبر التاريخ. كل الثقافات الإنسانية تتحدث عن العدل والحرية، وتدّعي السعي لتحقيقها، والكل متفق لفظيا على نبذ الظلم والعبودية، ولجميع المجتمعات رموز تمثّل هذه القيم.

الثقافة الشيعية العراقية، في عالم المُثل الخاص بها، شبه الأفلاطوني، لديها رمز لتلك القيم، مثل غيرها من الثقافات، وهو الحسين بن علي بن أبي طالب، حفيد النبي محمد، والإمام الثالث عند طائفة الشيعة الإثني عشرية. وفي كل عام، في شهر محرّم الهجري، تبدأ الطقوس والشعائر، إحياءً لذكراه، وذكرى ثورته ضد الحكم الأموي.

لن نتكلّم هنا عن الحقيقة التاريخية لهذه الواقعة ومجرياتها، ولن نغوص في دهاليز المرويات الدينية والطائفية عنها. بل سنحصر كلامنا على ما استقرّ في الثقافة الشيعية، خاصة العراقية، عن هذا الرمز، وتفاعل البشر معه في شهر محرّم، أثناء إحيائهم لطقوسه الدينية. أي، بتعبير فلسفي، سوف نحاول فهم الرمز بشكل “فينومينولوجي”، أي تمظّهره في أذهان الأفراد، وتأثّرهم  به، في سلوكهم وخياراتهم الاجتماعية، بغض النظر عن “الحقيقة”، أو “الشيء بذاته”.

لكي نصل الى فهم أفضل، لابد ان نضع بعين الاعتبار رمزا آخر، مستقرٌ أيضا في الوجدان الشيعي، على المستوى نفسه من رمزية الحسين وواقعة الطف (كربلاء)، وهو “المهدي”، الذي يدعو إلى الصبر وكظم الغيض، والاكتفاء بالتعبّد، إلى حين ظهوره، ليخلّصنا من الظالمين. وهذا قد ينتج عنه، بشكل مباشر، الميل للمحافظة على الوضع الراهن، والتلقين على الرضوخ والاستسلام، وتبرير فساد الواقع، واليأس من إمكانية إصلاحه. لإن كل ما يجري جزء من خطة الهية، قضت بانتشار الفساد، ليأتي المخلّص في اخر الزمان.

بادئ الأمر، يظهر أن هناك تعارضا بين الرمزين، فكيف يجتمع ما يمثّل الثورة، والوقوف في وجه الظلم، وما يمثّل الانتظار والرضوخ لحين ظهور المخلّص؟ تعامل المجتمع الشيعي مع هذا التعارض، إما من خلال تهميش أحد الرمزين، أو إعادة تأويل أحدهما على ضوء الاخر. وحين ننظر إلى الثقافة الشيعية في يومنا هذا، سوف نعرف ما الرمز الذي تم تهميشه، وتفريغه من قيمه، والاكتفاء فقط بطقوس وشعائر تحكي قصته، تذكيرا بمظلمته ومصيبته، وتنظيم اللطميات والبكائيات عليه، في ظاهرة شاملة من تغييب الوعي. إنه الحسين بكل تأكيد.

لكن شيئا ما تغيّر بعد اندلاع انتفاضة تشرين، في وسط وجنوب العراق، وفي المدن ذات الأغلبية الشيعية على وجه الخصوص، مثل الناصرية، وكربلاء نفسها. بعض المظاهرات خرجت من ضريح الحسين، وحاول المتظاهرون فيها جعله رمزا من رموز انتفاضتهم. في الوقت نفسه، حاولت قوى “الثورة المضادة”، وعلى رأسها “الإطار التنسيقي” و”التيار الصدري”، استخدام الرمز نفسه لقمع المتظاهرين. فهل بات الحسين، مجددا، رمزا أساسيا في الصراع السياسي والثقافي في العراق؟ ومَن نجح في تطويع الرمز لمنظوراته وخطابه؟ هل كان الحسين ثائرا في “تشرين؟ أم أنه كان أداة لقمع طموح التغيير؟

الحسين الحداثي: “الطف” بوصفها ملحمة الشعب الثورية

مع تكوّن الطائفة الشيعية، واستقرارها في الجسد الإسلامي، خلال القرون الهجرية الأولى، كان الفهم الثابت لثورة الحسين، والأحداث التي حصلت معه، فهما لاهوتيا دينيا، لا علاقة له بالأحداث والمجريات الدنيوية. فهو رجل معصوم، يوحى إليه بالأوامر الإلهية، بدون أن يعلم حكمتها بالضرورة. فعندما كان خصوم الشيعة يحاججونهم بالقول: إن مواجهة بضعة أفراد لجيش كامل لهو خلاف الحكمة، ورمي للنفس في التهلكة. كانت الإجابة الشيعية أن الحسين معصوم، يوحى إليه، ولا أحد يحيط بحكمة الله. وعليه، فعلينا الاكتفاء بالأمور التعبديّة، واتباع توصيات الأئمة المعصومين، في إحياء ذكراه وشعائره، لأن في هذا أجرا عظيما، ينفعنا يوم القيامة، وينجينا من عذاب النار.

وهكذا نلاحظ ان الفهم التقليدي للحسين كان مرتبطا بالنزعة المحافظة، المقتصرة على الجانب الديني والتعبّدي، ولا يحتوي على أي جانب ثوري أو تحرري. وهذا ما لاحظه المفكرون وعلماء الدين التحرريون في القرن العشرين، وأشاروا إليه في كتاباتهم ومحاضراتهم. فنرى المفكر علي شريعتي يصنّف كتابا باسم “التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي”، يحاول أن يقدّم فيه فهما دينيا حديثا، متصلا بالواقع، يهاجم الفهم التقليدي للحسين، ويصفه بأنه “فهم أتباع السلاطين”. أما عالم الدين مرتضى مطهري، فألقى عدة محاضرات، باسم “الملحمة الحسينية”، وخصص محاضرة كاملة، باسم “التحريف المعنوي لحادثة كربلاء”، يحاول فيها انتقاد الفهم الطقوسي والجامد لثورة الحسين، وتقديم بديل، مفعم بالروح الثورية والتحررية.

وهكذا تبلورت رمزية جديدة للحسين، يمكن وصفها بـ”الحداثية”، لارتباطها بآليات تفكير الحركات السياسية الحديثة، وما زال لهذه الرمزية ثقلها حتى اليوم، ويعود الفضل الأساسي فيها للتيارات اليسارية، التي نشأت في إيران والعراق ولبنان في القرن الماضي، وما حملته من أفكار ثورية وتحررية، أثّرت بالمفكرين، وحتى علماء الدين الشيعة أنفسهم. إذ يذكر عالم الدين الإيراني، السيد علي البروجردي، في حوار له مع “مؤسسة مباحثات”، في سياق مناقشة موضوع الفقه والاقتصاد، أن الفترة التي بدأ فيها الحديث عمّا يسمى “الاقتصاد الإسلامي”، كانت السيطرة فيها للتيار اليساري، و”حين كان اليساريون يسألوننا: هل تقرّون بحق امتلاك ادوات الإنتاج، كنا نخجل، بسبب سيطرة هذا التوجه على الجو العام والأوساط الثقافية”.

يمكننا من هذا استنتاج أن الشروط الموضوعية، في زمن تحكّم الشاه الإيراني، وأنظمة الاضطهاد في الدول العربية، ذات الكتلة السكانية الشيعية الكبيرة، أدت لظهور نزعات ثورية، عملت على إعادة قراءة التراث، والبحث عن أي رمز فيه، يمكن التشبث به، واعتباره القدوة للثورة والتحرير. وهكذا بات الحسين من المقدّسات المحرجة للسلطات السياسية والدينية، وبدا أن اليساريين يكادون ينجحون بالاستيلاء على التراث، إلا أن شيئا مهمّا اختلف بعد عام 1979.  

حسين الباسيج: الثائر جزءا من نظام “حماية المقدسات”

بعد أن صار الحسين رمزا سياسيا ثوريا، لا يمكن تجاوزه، بدأ توظيفه بشدة في المجريات السياسية الصعبة، التي شهدتها سبعينيات القرن الماضي. فحين نراجع خطب آية الله الخميني مثلا، نلاحظ استخدامه لرمزية الطقوس الحسينية في كل تحركاته السياسية، معتبرا نشاط أنصاره في الثورة الإيرانية امتدادا لـ”ثورة الدم” (ثورة الحسين). في العراق أيضا، ومع اختلاف الظروف، استخدم قادة القوى السياسية الشيعة الشعائر نفسها، في مواجهتهم للنظام العراقي، مؤكدين أنه حان وقت إحياء العدل، والانتقام من الظالم، لرد شيء من مظلمة الشيعة، الذي عانوا كثيرا في الحقبة السابقة. الأمر نفسه في لبنان، حيث ظهرت حركة “المحرومون”، بقيادة الإمام موسى الصدر، والتي ركزت على الأحوال السيئة للشيعة في البلد، الذين حُرموا من كل شيء.

هنا نفهم أن الطقوس الحسينة، بعدما تم تثويرها، على يد اليساريين أولا، ومن ثم حركات الإسلام السياسي الناشئة، هي التي وُظّفت سياسيا، وأُخذت بعين الاعتبار، على حساب الاعتقاد المهدوي، الذي هُمّش، وأعيد تأويله. ومن إعادة التأويل تلك، ما قام به الخميني على المستوى النظري، فلا انتظار ولا سكوت، وإنما حركة بدعوى الإصلاح ورد المظالم، بقيادة الولي الفقيه، وكيل المهدي في زماننا.

ولكن، حين استتبّ الوضع لقوى الإسلام السياسي فيما بعد، تغيّر كل شيء، ولنأخذ ما حصل للثورة الايرانية على سبيل التبيان، فقد  كانت في بداياتها تلمّ شتات كل القوة لمجابهة لظلم الشاه، ومن بينها الشيوعيون، وليبراليو المدن الكبيرة، وبعد أن وصلت إلى أهدفها، أنتجت منظومات اضطهاد جديدة، ورعت، بقوة الدولة، مراسم حسينية مستحدثة، تُؤدّى بشكل رتيب ومتحجّر. فلا يصبح الحسين ثائرا إلا تحت إشراف أجهزة الدولة الإيرانية “الثورية”، مثل الباسيج وفيلق القدس، وتحقيقا لأهدافها في الصراعات الإقليمية.

هكذا تحوّلت الثورة الإيرانية إلى نظام حكم ذي طابع محافظ، وانتقل “الثوار” من خندق المعارضة الى قصور السلطة. ومن حينها سوف ينظرون إلى أي حركة تجديدية أو تغييرية، سياسية أو ثقافية أو دينية، على أنها مظهر من مظاهر المؤامرة، التي تستهدف تقويض أركان النظام؛ ويلصقون بأنصارها تهمة الخيانة، تمهيدا لإنزال اقصى العقوبات بهم. وبهذا يُفرغ الرمز “الثوري” من محتواه، ويهمّش الحسين من جديد، لحساب المهدي، ويتحوّل الى مجرد طقوس رتيبة، مكررة كل سنة، توظّف لبناء حيّز عام أحادي التوجه، يُخرس المعارضين، على اختلاف توجهاتهم السياسية، وكذلك بقية الطوائف والأديان، باعتبار الحسين واحدا من المقدّسات، التي يجب حمايتها من التدنيس. في كل عام، تظهر في العراق جماعات تستنكر على أبناء المذهب السني عدم تعظيمهم لشهر محرّم،  كما يعظّمه الشيعية، ويكون هذا الاستنكار مقدمة لخطاب تحريضي طائفي، يكرّس الهرمية الطائفية، التي يقوم عليها نظام الحكم الحالي في العراق.

 بهذه الطريقة تحوّل الحسين من ثائر يدكّ قصور الظلّام، إلى “مقدسات” بحاجة لسلطة طاغية لحمايتها، أي رمزا سلطويا، يستعمله الإسلام السياسي، الحاكم في أكثر من بلد. إلا أن شيئا سيتغيّر، من جديد، في قرننا الحالي.   

حسين “تشرين”: مخاطر توسيع الدلالات

بينما كانت السلطات، في كل من إيران والعراق، تحاول إفراغ الطقوس الحسينية من كل ما تبقّى فيها من شحنة ثورية، ظهرت ومضات شعبية، عملت على استعادة كل التراث الثقافي الحديث حول الحسين،  فحاولت انتزاعه من السلطة مجددا، وتحويله إلى وسيلة من وسائل الدفاع عن النفس، والكفاح ضد الظلم.

اندلعت في شهر محرم عام 2019، تظاهرات في  مدينة يزد الإيرانية ضد حكم الملالي، على هيئة مسيرات عزاء حسينية، رفعت شعارات مثل “كفاك يا طاغي، فان الدم يغلي”. وهو الأمر الذي امتد إلى مناطق أخرى من البلد. أما في العراق فكانت مظاهرات انتفاضة تشرين أحد أهم أشكال الاستعادة الرمزية الحسين، إذ رفعت صوره، ورددت شعارات، تشير لكذب الساسة، الذين يحيون الطقوس الحسينية. وعلى الرغم من أن قوى متعددة، وعلى رأسها التيار الصدري، رفعت صور الحسين أيضا أثناء قمع المتظاهرين، إلا أن تمسّك المنتفضين بهذا الرمز، ساعدهم على الاتصال بمحيطهم الشعبي، الذي عانى طويلا من ممارسات “أنصار الحسين” السلطويين؛ ومكّنهم من الصمود أمام القمع المتوحّش.

من جعل “الحسين ثائرا” كان وجدانا شعبيا، ملّ اللطم والتباكي، فحاول إعادة تأويل الرموز المترسّخة في البنى الاجتماعية والثقافية القائمة. إذ أنه من الخطأ الظن أن “الرمز” يحمل بذاته معنى تاما أو ثابتا أو جوهريا، وإنما يكون دوما مفتوحا للتأويل، كلما أصبح أكثر عمومية وانتشارا وقوة في الوجدان. وهكذا فإن تعميم السلطة للطقوس الحسينية، قد ينقلب ضدها، وهو ما شهدناه في “مواكب العزاء”، التي نظّمتها الانتفاضة.

انتفاضة تشرين انحسرت اليوم، وربما لم يعد هنالك أي معارض جدي لمنظومة الفساد والقمع الحاكمة، رغم ذلك فلا يمكن القول أبدا إن السلطة وأحزابها قد انتصرا في “معركة الحسين”، إذ أن دلالة التمرّد والغضب، التي علقت بذلك الرمز، بعد عقود من الأحداث السياسية العاصفة، ما زالت حيّة تحت الرماد، ويمكن أن تشتعل من جديد، في وجه أنظمة وقوى “المهدوية” المعاصرة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4.1 8 أصوات
تقييم المقالة
2 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات
دام سين
1 سنة

موضوع ذكي احيي صاحبه واتمنى منه عدم الاستمرار

دام سين
11 شهور
الرد  دام سين

انا صديق الكاتب وكنت امزح معه وهو كاتب مبدع كل الحب