بلغ الهوس السياسي، بشأن الحفاظ على “هوية” المجتمع العراقي، ذروته، في جلسة البرلمان المنعقدة بتاريخ 15 آب/ أغسطس 2023، والتي شرّعت بوضوح قتل بعض أفراد الشعب. وجاء ذلك تحديدا في الجلسة رقم 10، من الفصل التشريعي الثاني، للسنة التشريعية الثانية، من الدورة الانتخابية الخامسة للبرلمان العراقي، بعد القراءة الأولى لمقترح التعديل الأول لقانون مكافحة البغاء، رقم 8 لسنة 1988.
في تلك القراءة، وتحديدا في المادة السادسة/ أولا، جاء التالي بحق مثليّي الجنس: “يعاقب بالإعدام أو السجن المؤبد كل من أقام علاقة شذوذ جنسي”. وفي مادة أخرى ورد التالي: “السجن والغرامة على كل عملية تغيير جنس، أو استخدام دواء يؤدي إلى التخنّث”.
يُذكر أن محمد الحلبوسي، رئيس البرلمان العراقي، والسياسي السني المعروف، كان قد رفض، في لقاء متلفز نهاية العام المنصرم، المضي بقانون المثلية، لأنه يعارض القانون الدولي لحقوق الإنسان. والقراءة تمت بمباركة نائبه، محسن علي أكبر المندلاوي، السياسي في “الإطار التنسيقي”، الذي يجمع القوى الشيعية الموالية لإيران.
مشروع القانون هو من الأقسى بحق المثليين على الصعيد العالمي، إذ أنه يعتبر ممارسات البشر الرضائية في الحيز الخاص، جريمة كبرى تستوجب سلب الحياة، ما يثير أسئلة كثيرة عن المفاهيم القانونية والدستورية المؤسِّسة للدولة العراقية الحالية، والتي يفترض أنها دولة قامت على أساس الخلاص من النظام الديكتاتوري للرئيس العراقي الأسبق صدام حسين؛ وكذلك عن الرواية الأيديولوجية حول المجتمع العراقي، التي تحاول السلطات فرضها. خاصة أن المثلية الجنسية لم تكن يوما ظاهرة “مستوردة”، بل لها حضورها التاريخي والتراثي، المدوّن ربما منذ العصر العباسي في العراق. كذلك فإن القانون يتدخّل في المظهر العام والأداء الجندري للمواطنين العراقيين، وكأن هنالك أداء واحدا موحّدا، الدولة وحدها من يحق لها فرضه.
لماذا كل الهوس ضد المثلية؟ وما الخطر الذي تشكله أجساد العراقيين، وتعبيراتهم الجنسية، على الدولة؟
هرم الدونية: لماذا لا تُعاقب النساء المتشبّهات بالرجال؟
حيثيات تعديل القانون وبعض فقراته، وخصوصا تلك المتعلقة بما يندرج تحت مسمى “التخّنث”، أي التشبّه بالإنات، أو العقوبات التي تقع على كل من يضع مساحيق تجميل نسائية، تعيد السؤال المعروف حول الحيّز الجسدي الخاص، والعنف السياسي الممارس عليه من قبل السلطات العربية عموما، والعراقية خصوصا.
لا يهتم السياسيون العراقيون هنا برغبة الإناث بالتحوّل إلى ذكور، بقدر اهتمامهم بعدم تشبّه الرجال بالإناث، فأثناء عرض الفقرات المتعلقة بالعقوبات، لم يذكر النواب أي عقوبة تقع على الأنثى التي تتشبّه بالرجال، أو التي ترتدي ملابسهم.
تعدّ تلك الفقرات ذات دلالة قانونية/ذكورية، مكترثة فقط بالعبور الجندري للرجال، بسبب تلقائية منزلة المرأة الدونية في المجتمع. ففي داخل أطر الدولة، التي تطابقت قوانينها مع الصيغ الأكثر تطرفا للإسلام السياسي، والتقاليد الاجتماعية الأشد تخلفا، يصبح من المعيب أن يتنازل الرجل عن ذكورته، و”يتدنّى” نحو المكانة التي تشغلها المرأة، لذا يستحق أقصى العقاب كل من حاول التشبّه بالأنثى.
العلاقة بالجسد في حالتنا تصبح موضوعا سياسيا أساسيا، تتحّرك لأجله أعلى أجهزة السلطة، وكل أدواتها العنفيّة، في محاولة لممارسة الإرهاب السياسي، على الجسد الذي يرغب في التعبير عن وجوده، الذي يعدّ وجودا دونيا، بل و”فضيحة” تهدد المجتمع، إن كان يحمل صفات أنثوية. وهكذا يُجبر الذكور على التماثل مع تصورات المجتمع حول مفهوم “الفحولة”، وهو مفهوم قاتل، كما سنرى فيما بعد.
تشنّ الدولة العراقية بذلك حربا جندرية علنية، قائمة على تثبيت الأدوار الجنسانية، والحفاظ على هرمية واضحة لها، تشغل النساء الموقع الأسفل فيها، أما المتشبهون بهن من الرجال، فهم لا يستحقون حتى الحياة. هل هذا هو الخلاص من الديكتاتورية، الذي بُشّرنا به عام 2003؟
عنف اللغة: كي لا نصبح “ديوثين” و”مخنثين”
اللغة ليست مجرد كلمات أو أشياء تعبّر عن الوجود الإنساني، أو أحد مظاهرهِ، بل هي وعاء الفكر الإنساني، ولا تتعلق فقط بالوجود بصورة مجرّدة، بل تتصل بالهوية والسلوك، وتحدّد نمط تفكيرنا برمتهِ. في كتابه “عبر منظار اللغة”، يؤكد اللغوي غاي دويتشر، أن “اللغة تملك السلطة، في التحكّم بطريقة إدراكنا وسلوكنا وذاكرتنا وتفكيرنا”. فاللغة، التي نستخدمها يوميا، تُصبح مع التكرار، المكوّن الأساسي لاعتقاداتنا، وتتحكّم في كل إنتاجنا الاجتماعي، وتبرمج عقلنا الباطن. ضمن هذا السياق، لا بد من قراءة لغة تعديل “قانون البغاء”، لفهم ما تحاول ترسيخه.
انتقل مجلس النواب العراقي، في توصيف المثليين والعابرين جنسيا، من ذكرهم باسم “مثليّي الجنس” إلى “الشاذين جنسيا”، مع التركيز على كلمة “مخنّث”. جاءت هذه التسمية بناء على فهم الساسة لقوة اللغة، ففي بلد مثل العراق، يعدّ ذلك الوصف أبشع ما يمكن أن يُشتم به الرجل. ويمكن بالتالي إسكات أي مدافع ذكر عن حقوق المواطنين، عبر رميه بهذه التهمة. بالتالي يلتزم كثيرون الصمت، خوفا من مقصلة الأحكام المجتمعية أو القانونية. وهذا مثال واضح جدا عن عنف اللغة، الذي لا يقتصر فقط على الجانب المعنوي، وإنما الجانب المادي أيضا.
لم يكتف البرلمان بذلك، بل أدرج “الشذوذ الجنسي” مع البغاء أو تجارة الجنس، وبذلك ربط مفهوم الممارسة الجنسية الرضائية مع الدعارة. زد على ذلك أنه وضع ممارسة “تبادل الزوجات”، وهي تعتبر أكبر “تابو” في المجتمع العراقي، في الخانة نفسها مع المثلية جنسيا، فإذا ظهر معترض على ذلك القانون، سيُتهم بأنه “ديوث”.
تسمح هذه اللغة بخلق رادع بوليسي لدى المجتمع، محمي من قبل الدولة، يؤدي إلى عنف موجّه نحو كل من لا تنطبق ممارساتهم مع المعيارية المحافظة. لغة القانون لا تجعلك “شاذا” فقط، إذا دافعت عن حقوق مواطنيك، بل أيضا “بغيّا” و”مخنّثا” و”ديوثا”.
مكافئة المغتصبين: العنف الأسري خيرٌ من “الشذوذ”
من المسائل، التي يثيرها ذلك التعديل، سعيه لممارسة الوصاية الأخلاقية على الأفراد، الذين تجاوزوا السن القانوني، وممارسي الجنس بناء على رغباتهم الشخصية، مع تجاهل عديد من القضايا المتعّلقة بانتهاك حقوق المرأة والطفل، مثل الاغتصاب والتحرّش والعنف الأسري، إذ أن البرلمان العراقي رفض إقرار قانون العنف الأسري، الذي صاغته الحكومة عام 2020، رغم أنه لا يحقق الحد الأدنى من حماية النساء والقاصرين من العنف الذكوري.
من أمثلة الكوميديا السوداء في تعديل قانون البغاء، أنه يدّعي حماية الأطفال من “الشذوذ”، إلا أن الدولة العراقية نفسها، تتواطأ مع بعض الأهالي لتزويج القاصرات، ألا يعدّ هذا جرما، أو تسهيلا للبيدوفيليا؟ كذلك فإن الدولة العراقية تسمح بتزويج المغتصبة ممن اغتصبها، مع إلغاء المعاقبة على جرم الاغتصاب في تلك الحالة، ألا يندرج هذا تحت التواطؤ مع المجرم؟
هكذا تتساهل معك السلطات العراقية إذا كنت مغتصبا للأطفال والنساء، بل تكافئك على فعلك في أحيان كثيرة، فيما تسلبك حياتك، إذا قمت بممارسة رضائية مع شريك بالغ.
لماذا لا يتمّ تشريع قانون العنف الأسري لحماية النساء من العنف؟ ولماذا لا تتم حماية الأطفال من معنّفيهم؟ ربما لأن انتهاك أجساد وحياة تلك الفئات هو في عمق السياسات الحيوية للدولة العراقية، فيما تعبيرات الجسد البالغ عن جنسانيته، تُعتبر تهديدا لتلك السياسات، بل تهديدا للسلطة التي تنتهجها، وتفكيكا لها.
فاعل/مفعول به: نظام ثنائيات الإبادة
في السياسات الحيوية المذكورة أعلاه، لا يمكن فهم دور المرأة والرجل إلا ضمن ثنائية نمطية إقصائية، تحوم حول ترميز فاعل/ مفعول به، إذ لطالما كانت المرأة “مفعولا بها”، تقع في أسفل الهرم، وتحصل على فتات الحقوق، وحتى عندما تُمتدح شجاعة الأنثى، في مناسبات نادرة، فهي توصف بالرجولة، أي تُخرج رمزيا من صورة المفعول بها.
بهذا الفهم تكوّنت الهرمية المجتمعية والقانونية. لذا حينما يتحوّل الرجل إلى “مفعول به”، من خلال عبوره جنسيا، أو وضعه لمساحيق التجميل، تٌستثار غيرة السلطات العراقية على فحولة أبنائها، فتسارع بإصدار أحكام قانونية للحفاظ على الرجولة.
تحوّل الدولة، عبر قرارتها تلك، كل من يتصف بـ”الذكورة”، إلى حاكم أخلاقي، بل إلى قاتل. فحين ننطلق من كون الأنوثة وصما اجتماعيا للذكور، فهذا يعني أن استخدام القوة (بجميع أشكالها) ضد النساء، ضرورة لاستقامة الأمور. بمعنى أن هذه القوة هي في أساسها سعي لإعادة إنتاج ثنائية فاعل/مفعول به، على شكل أنظمة وقوانين ولغة، تعطي للذكر فحولته وشرعيته وأهليته في الحكم على غيره، وتمنعها على كل من يتصف بعدم الرجولة.
بالنظر إلى التاريخ الدموي، الذي يمتلكه العراق في التعامل مع المثليين أو العابرين جنسيا، نجد أن قوة هذه الأفكار قامت على دعاوى مختلفة عن “جوهر المجتمع” أو “هويته”، فمرة هي من أجل “الحفاظ على الأسرة العراقية”، ومرة أخرى من أجل “الآداب العامة”، ومرات كثيرة من أجل الدين و المقدسات والعادات والتقاليد، وهكذا فإن المقدس/المدنّس، والأخلاقي/اللاأخلاقي، هما نفسيهما الفاعل/المفعول به، في عرف السلطة.
في كل الحالات أعلاه، استطاعت تلك الثنائيات إنتاج قوة ضغط هائلة على جنسانية الأفراد وسلوكهم، وإثارة خوفهم من التعبير عن أنفسهم، وأدت إلى تحوّلهم لقضاة أخلاقيين وقتلة وحشيين، وربما هذا ما تريده السلطة بالضبط، لأن تلك الثنائيات في النهاية ليست إلا الثنائيات نفسها، التي تقوم عليها “شرعية” النظام الحالي، والتي أدت إلى دمار المجتمع العراقي، مثل ثنائية سنة/شيعة، عرب/كرد، مسلمين/مسيحيين. ووسط نظام التمييز والإبادة الطائفية المشرعنة، ليس من المستغرب أن تُستهدف فئة جديدة من المواطنين بالإبادة، وهي المثليين و”المخنثين”.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
عاشت ايدج اماني
واو احسنتي مقالة غاية الروعة
مقال أقل مايوصف به جريء جدا كسر تابوهات وحواجز كثيرة
فقرة اللغة عجبتني جدا محد ينتبه لهيچ تفاصيل 🙏
شكرا آماني🙏