قام سلوان موميكا، العراقي المقيم بالسويد، في الثامن والعشرين من شهر حزيران/يونيو لعام 2023، بحرق نسخة من القرآن علنا، في حدث ليس الأول من نوعه في البلد الشمال أوروبي، الذي تسمح قوانينه بهذا النمط من التعبير تجاه الرموز الدينية. ليست هذه المرة الأولى، التي تُحرق فيها نسخة من القرآن في السويد أو حول العالم، وهي حوادث تؤدي عادةً لكثير من ردود الأفعال الغاضبة، في الدول ذات الأغلبية الإسلامية، إلا أن الظاهرة اللافتة هذه المرة هي رد الفعل في العراق، “البلد الأم” لموميكا، إذ وصل الأمر لاقتحام محتجين، من أتباع رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، السفارة السويدية في بغداد، تحت أنظار قوى الشرطة والأمن، ودون أدنى رد فعل منها، رغم أن من واجباتها القانونية الأساسية حماية البعثات الدبلوماسية على الأرض العراقية. بعدها خرج مقتدى الصدر بتغريده على موقع تويتر، اعتبر فيها أن حادثة الاقتحام هذه “عفوية”، وطالب بتنظيم مظاهرات دائمة أمام السفارة السويدية، وحرق علم السويد، وكذلك علم المثلية الجنسية، دون أن يفهم أحد علاقة المثلية الجنسية بالموضوع. كما دعا إلى طرد السفير السويدي، باعتباره سفير دولة “معادية للإسلام”.
ما يستدعي الانتباه أكثر هو موقف وسائل الإعلام المرتبطة بـ”الإطار التنسيقي”، التكتّل المجابه لمقتدى الصدر، والمستولي على السلطة في العراق الآن، والتي لم تبد اهتماما كبيرا بالقضية، الأمر الذي دفع الصدر لنشر تغريدة أخرى، لام فيها “تخاذل” بقية القوى الشيعية في البلاد: “أما القنوات الميليشياوية والحكومية، لاسيما الشيعية منها، فقد غضّت بصرها عنها، ألا فتعسا لتلك القنوات، التي تغضّ بصرها عن نصرة الدين، ولو أن أسيادها تظاهروا، أو أغلقوا سفارة السويد في بلدانهم، لغطّوها إعلاميا وبكثافة”، ملمّحا بذلك إلى إيران، وعلاقتها مع الأحزاب العراقية الحاكمة، وهو ما حفّز سلوان موميكا لتنظيم وقفة أخرى، في العشرين من تموز/يوليو، أمام السفارة العراقية، ولكنه هذه المرة لم يحرق فقط نسخة من القرآن، بل أيضا صورة لمقتدى الصدر. فردّ أتباع الصدر باقتحام السفارة السويدية للمرة الثانية، وحرقها بشكل كامل، ما وضع الحكومة العراقية بموقف محرج، ودفع السفارة الأميركية في بغداد لاستنكار اقتحام مقار البعثات الدبلوماسية والاعتداء عليها. رد الصدر لم يتأخر، فوجّه هجومه هذه المرة ضد الولايات المتحدة، التي وصفها بـ”دولة الإرهاب والمثليين”. إلا أنه هذه المرة لم يدع لتنظيم مزيد من التظاهرات، ضد السويديين أو الأميركيين.
يمكن القول إن كل هذه الافعال لها أهداف أخرى، غير الاعتراض على حرق القرآن، ومنها تعمّد احراج الحكومة العراقية، التي طلبت، تحت الضغط، من السفير السويدي مغادرة أراضيها، واستدعت القائم بأعمال السفارة العراقية في ستوكهولم، مع التأكيد على رفض اقتحام السفارة السويدية، والتحّرك لاعتقال الفاعلين. لتظهر بعدها عديد من الدعوات للخروج بمظاهرات، تأييدا لقرار الحكومة، من جهات قريبة من “الاطار التنسيقي” والتيارات الموالية لإيران. ومن الملاحظ أن تلك المظاهرات رفعت صور خامنئي وخميني، وأعلام الميليشيات الولائية، وكأن “الاعتداء” حصل ضد المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، وليس ضد القرآن.
الجدير بالانتباه أيضا تباين المواقف وتبدّل الأدوار، فقد كان “الإطار التنسيقي” فيما مضى يدعم الهجمات والتعدي على المؤسسات الدبلوماسية، مثل قصف السفارة الأميركية، في حين كان موقف مقتدى الصدر متحفّظا على تلك الاعتداءات، وداعما للدولة.
عم نتحدث هنا فعلا؟ عن جرح لـ”مشاعر المسلمين”، عابر للحدود؛ أم عن ظاهرة من ظواهر السياسة العراقية، اتخذت هذه المرة أبعادا واسعة، لتصل إلى أقصى شمال أوروبا؟ ثم كيف أصبح “الإطار التنسيقي”، بكل ما يحويه من ميليشيات ورجال دين، “أقل غيرة” على الدين من مقتدى الصدر؟
ربما كان تفسير كل هذه الأحداث يتطلّب فهم التطورات السياسية في العراق، والتناقضات في المجتمع العراقي، أكثر من الحديث عن صراعات “الشرق” و”الغرب”؛ و”العلمانية” و”الإسلام”؛ وغيرها من الصيغ الدارجة والمحفوظة في الإعلام العالمي. قد تكون الأسئلة الأبرز في سياقنا: كيف باتت الصراعات السياسية العراقية قابلة للانتقال إلى بلد بعيد مثل السويد؟ وكيف تُستعمل الرموز الهوياتية، مثل الدين والمقدسات، في الثقافة السياسية العراقية المعاصرة؟ وهل يمكن أن تؤثّر تلك “الثقافة”، بكل أزماتها، على واحدة من أكثر الدول الأوروبية ليبرالية؟
مناورات مقدّسة: كيف عاد الصدر من البوابة السويدية
كان العراق يعيش استقرارا نسبيا، قبل موجة المظاهرات، التي سببتها حوادث حرق القران، وذلك بعد عقدين طويلين من الاضطرابات والانتفاضات والحروب الأهلية والدولية على الأرض العراقية. فقد نجح “الإطار التنسيقي” في إحكام السيطرة على المجال السياسي، من برلمان وحكومة، بعد تغلّبه على أهم خصمين له: انتفاضة تشرين، التي اندلعت في وسط وجنوب العراق عام 2019؛ ومقتدى الصدر، الذي انسحبت كتله النيابية من البرلمان العراقي عام 2022، بعد فشلها في تشكيل الحكومة.
وإذا كانت انتفاضة تشرين قد انحسرت فعليا، فإن الصدر ما يزال الرقم الصعب في السياسة العراقية، رغم كثرة مشاكله، التي لا تقتصر على السياسة بمعناها التقليدي المباشر، بل أيضا السياسة المرتبطة بالمرجعية الدينية، فقد تلقى ضربة شديدة، بعد إعلان المرجع الشيعي كاظم الحائري، الذي كان مقرّبا من والده، محمد صادق الصدر، اعتزاله المرجعية، ما حرم التيار الصدري من أهم رجال الدين المناصرين له. وفي الوقت نفسه انتقد الحائري مقتدى الصدر، باعتباره ليس مجتهدا، ولا يحق له شرعا القيادة، وإصدار التوصيات لاتباعه، ما يوجب عليهم اتباع المرشد الإيراني علي خامنئي، الداعم الأول لقوى “الاطار التنسيقي”. وبعد اضطرابات واشتباكات عديدة، أعلن الصدر اعتزاله السياسة. فبات الجو خاليا لقوى “الإطار”، التي لم يعد لها أي منافس في البرلمان، فسارعت بتشكيل الحكومة، وفرض سياساتها على البلد، يساعدها في ذلك ارتفاع أسعار النفط.
قام رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني، المقرّب من “الإطار”، بإصدار عديد من القرارات، بتغيير مدراء عامين ومستشارين ومسؤولين داخل الدولة، مرتبطين بالصدر، ما أثار حفيظة أتباع التيار الصدري، لإحساسهم بالهزيمة والعزلة. وبعد مرور سنة على هذه الأوضاع، ظهرت مؤشرات على عودة مقتدى الصدر للحياة السياسية، مستغلّا المناسبات الدينية، فظهر منتقدا “الفساد”، وحاثا أتباعه على “الابتعاد عن الفساد والمفسدين”، تلميحا منه للحكومة الحالية، والأحزاب التي تقف ورائها.
تحدّث مقتدى الصدر أيضا، في المناسبات الدينية الماضية، عن وجود بعض “المنحرفين” داخل تياره، الذين يدّعون أنه المهدي المنتظر، محذّرا من استغلال خصومه لهذه الظاهرة لتشويه سمعته. فيما بعد حدث عدد من الاضطرابات، مثل حرق مكاتب بعض الجماعات السياسية الموالية لإيران، والمسيطرة على الحكومة، ومنها “حزب الدعوة”، بزعامة رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي.
إلا أن العودة الكبرى للصدر كانت بعد “الحدث السويدي”، إذ برز أنصاره بقوة في الشارع مجددا، للضغط على الحكومة وأحزابها، بحجة تخاذلها عن نصرة الإسلام ومقدساته. ورغم أن الصدر لم يعلن حتى الآن رسميا إنهاء اعتكافه السياسي، إلا أن العراق حاليا على أبواب انتخابات مجالس المحافظات، التي قد تكون البوابة، التي يرجع منها مقتدى الصدر للصدارة، بعد أن أظهر صلابته في مواجهة “أعداء الإسلام وأنصار المثليين”.
يبدو الضغط على أحزاب “الإطار التنسيقي” شديدا اليوم، وهي تخوض نقاشات مستمرة حول موقفها من الانتخابات القادمة: هل تشارك بها أم تسعى لتأجيلها؟ في مواجهة الموقف غير الواضح لخصمها الأساسي، والذي عُرف عنه دائما اتباع أسلوب المناورة السياسية.
هكذا فإن قضايا القرآن والمقدسات والمهدي المنتظر وولاية الفقيه والتبعية لإيران والموقف من أميركا، لا تبدو أكثر من الأحجار المكوّنة للثقافة السياسية الحالية، التي يناور بها الصدر خصومه على الرقعة العراقية.
تعالي الهوية: لماذا يجعلنا “المقدّس” تحت الاشتباه؟
كل هذه الوقائع والمناورات السياسية سيكون لها انعكاسات شديدة السوء على العراق وحيّزه العام، المُفرغ أصلا من كل العناصر الأساسية للسياسة الديمقراطية، مثل البرامج السياسية الواضحة، والجدل العمومي المنفتح، والحد الأدنى من حرية التعبير.
هذه الثقافة السياسية، المليئة بالإقصاء والعنف، والرؤية الاحادية للمجتمع، تعمل على ترسيخ فكرة الهوية الإسلامية، بوصفها هوية متعالية ومركزية في البلد، تطوي تحتها بقية الهويات، التي يجب أن تبقى “هامشية”، تبذل جهدها لاسترضاء “الأغلبية”، وهو ما ظهر واضحا مع الاستنفار الذي حصل بين مسيحيي العراق، أو ما تبقّى منهم، لتبرئة أنفسهم من المسؤولية عن حرق القرآن في السويد، والتأكيد على تبرّؤهم من موميكا، باعتباره كان مسيحيا عراقيا. وهو أمر غريب، فمن البديهي أن ذلك الرجل لا يمثّل إلا نفسه، ولا علاقة لمسيحيي العراق، الذين يعيشون على بعد آلاف الكيلومترات، بتصرفاته وقناعاته. ولكن وسط مجال مفعم بالعنف وإذلال الأقليات، يصبح تصرّف المسيحيين العراقيين منطقيا، لحماية أنفسهم. خاصة أن بعض المؤسسات الاسلامية أصدرت بيانات، وصفت فيه سلوان موميكا بالمسيحي (مع أنه ترك المسيحية منذ زمن)، وطالبت المرجعيات المسيحية بإصدار بيان ترفض فيه أفعاله.
الأمر لا يقتصر على المسيحيين، إذ نالت بقية الأقليات دائما نصيبها من الأذى، وعلى رأسها الأقلية الإيزيدية، التي اتُهمت قبل حادثة موميكا بتدنيس المقدسات أيضا، وانتشرت إشاعة حول إحراق مسجد على يد عدد من أبنائها، مما أدى لازدياد خطاب الكراهية تجاه الإيزيديين، والتشفّي بمعاناتهم، إبان سيطرة تنظيم داعش على مناطقهم. بالطبع ثبُت أن موضوع حرق المسجد مجرد إشاعة، ولكن من يهتم بمصداقية الأخبار في بيئة سياسية يحكمها العنف والكراهية؟!
المقدسات التي لا تُمس، لا تعني مجرّد رموز تاريخية ودينية يجب احترامها، بل منظومة متكاملة من الإذلال السياسي والاجتماعي، إذ يتم إخراس أفراد وجماعات بأكملها، لأن كل تصرّف أو وجهة نظر أو اعتراض، يمكن تأويله بوصفه انتهاكا لمقدّس، بل أحيانا يدفع البشر ثمن تصرفات لم يقوموا بها، لأن وجودهم نفسه تحت الاشتباه، فلا مكان في مجتمعات الهوية الإحادية المتعالية إلا للمقدّس وحماته.
بغداد-ستوكهولم: عندما وجد الإسلاميون والمتطرفون اليمينيون جنّتهم
هذا الجو السياسي المبارك للعنف، والمقصي للأقليات، عطّل الثقافة العراقية المعاصرة بأكملها، التي كانت يوما ما من أكثر الثقافات حيوية في المنطقة، فشعور التهديد وعدم الأمان يُخرس المفكرين والمثقفين والمهتمين بالشأن العام، الذين لم يعد كثير منهم يجرؤ على انتقاد القوى السياسية العراقية، كي لا يُتهم بمعاداة الإسلام أو المرجعية الدينية أو طائفة ما من الطوائف. وفي هذا الفضاء تقوم الأحزاب الولائية (لإيران) والاسلامية بإلغاء كل منافسيها المحتملين، من قوى مدنية، سواء كانت ليبرالية أو يسارية، ما أوصل العراق للأسلمة السياسية الشاملة على كل المستويات. وهي أسلمة لم تأت بديهيا من “جوهر الهوية العراقية”، بل نتيجة ممارسات متراكمة، قامت بها قوى سياسية مسلّحة، ومدعومة من دول إقليمية.
الجديد هذه المرة أن كل هذا العنف والأسلمة يبدو الآن قابلا للتصدير عالميا، فقد ظهرت كثير من الأصوات، التي تحضّ العراقيين والمسلمين في السويد على تصفية سلوان موميكا؛ وتعدهم بجائزة مالية على رأسه، بما يتجاوز كل قوانين البلد الأوروبي الذي يعيشون فيه، والتي تضمن حرية الرأي والتعبير. وبهذا يحاول الولائيون والإسلاميون استغلال السويديين والمقيمين في السويد من أصول عراقية، لخلق مزيد من الضجة، التي تساعدهم على تحقيق غاياتهم السياسية، في صراعهم المرير على السلطة في العراق.
كل هذا دفع الحكومة السويدية للتعامل بشكل جدي مع التهديدات، التي تصل اليها من الجماعات الإسلامية، وتقوية قبضتها الأمنية، لدرجة أن بعض النواب في البرلمان السويدي حاليا يضغطون جديا لتغيير بعض القوانين في الدستور السويدي، المتعلّقة بالحريات، لضبط ورقابة تجمعات الإسلاميين في البلد. سوف تستغلّ كثير من التيارات اليمينية ذلك بطبيعة الحال، لتعزيز خطابها المعادي للمسلمين والعرب، ووصمهم بالإرهاب أو العنف، وهكذا يتم نقل الاستقطاب من العراق إلى السويد، ويدفع العراقيون والسويديون، على اختلاف أعراقهم وثقافاتهم، ثمن ذلك.
كان لتجريف الحيز العام العراقي، وتدمير المدن العراقية، بفعل الإسلام السياسي وقواه، آثار كارثية على العالم العربي بأكمله، ويبدو الآن أن عواقب هذه المأساة لن تقف عند هذا الحد، إذ نسمع صداها في ستوكهولم، وغيرها من مدن الشمال. قد يبدو من الصعب الآن تخيّل بدائل عن كل ذلك الخراب، خاصة بعد انحسار انتفاضة تشرين، إذ لا يوجد اليوم إلا معمّمون ومتطرّفون، يغرقون في صراعاتهم العبثية حول “المنطقة الخضراء”، أي التجمع الحكومي-الأمني في بغداد، وسط الفقر والعنف والتصحّر الذي يضرب العراق، ولذلك فإن القضية أكبر من متطرّف يريد حرق القرآن، ومتشددين يريدون حماية “المقدسات”. إنها حكاية بلد وثقافة ضيّعهما العنف والتطرف.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.