بروميثيوس الأميركي: هل عانى “أوبنهايمر” من السينما النولانية؟

“إنه أهم وأفضل فيلم لهذا القرن، واذا كان يجب مشاهدة فيلم واحد في السينما فهو أوبنهايمر “.
بهذه الكلمات وصف بول شرايدر، الكاتب والمخرج الأميركي المثير للجدل، ومؤلف فيلم “تاكسي درايفر”، العمل الجديد لكريستوفر نولان، الذي يعرض حاليا حول العالم، والذي تفاوت ردود الفعل حوله، بين من اعتبره بالفعل عملا سينمائيا عظيما؛ وبين من يراه فيلما مبالغا في تقديره، يحوي كل سمات ومشاكل أفلام نولان السابقة.
الفيلم يمكن تصنيفه ضمن أفلام “السيرة الذاتية”، يسرد حياة روبيرت أوبنهايمر، الفيزيائي الأميركي، الذي أدار مشروع إنتاج القنبلة النووية. واقتُبس من كتاب “بروميثيوس الأمريكي”، لكاي بيرد ومارتن جيه شيرون. إلا أن البعض رأى أن نولان بالغ، كعادته، في تعقيد الجانب العلمي والتاريخي في فيلمه، علي حساب الحبكة. وهو اتهام لطالما وجهه كثيرون للمخرج الأميركي-البريطاني، عبر مسيرته السينمائية.
إلا أن هنالك اتهامات أخرى لـ”أوبنهايمر”، لا تتعلق فقط بأسلوب نولان، أو منظوره السينمائي البحت، بل تهتم أساسا بالرسالة الأيديولوجية للفيلم، فقد رأى عدد من المتابعين والنقّاد أنه محاولة لتبرئة صانع القنبلة الذرية، ويحوي تعاطفا كبيرا معه، خصوصا وأن الجميع يعرف انتماء نولان لليمين الأميركي، كما أن الفيلم لا يدين، بما فيه الكفاية، استخدام الولايات المتحدة لذلك السلاح المدمّر ضد اليابان، في نهاية الحرب العالمية الثانية.
الأمر لا يقتصر على ذلك، بل إن الناقد الأميركي ريتشاد برودي، في مقاله نشرها في مجلة “نيويوركر” الأميركية، اعتبر أن نولان ابتعد عن إظهار تفاصيل مظلمة في حياة أوبنهايمر، مثل محاولته تسميم إمدادات غذائية، كانت متوجهة إلى ألمانيا، بمادة السترونتيوم. واعتبر بروي الفيلم مبهرا علي مستوي الصورة، ولكنه تعليمي وباهت.
بالتأكيد ستتعدد وجهات النظر حول فيلم بهذه الأهمية والضخامة، يعالج قضية سياسية وتاريخية شديدة الحساسية، إلا أنه يمكننا طرح سؤال مركّز، يختصر كثيرا من الجدالات: هل يعاني فيلم “أوبنهايمر” حقا من “نولانيته”؟ أي منظور مخرجه الفني والسياسي الخاص جدا. أم أنه من المستغرب أصلا أن يُنتقد فيلم، لأن صانعه يملك منظورا؟
في البداية لا بد من الإجابة عن السؤال التالي: هل فيلم “أوينهايمر” يحوي السمات نفسها، التي عرفناها في أفلام نولان السابقة؟ وهل هذا يجعله أسيرا لمنظور جامد أو مكرر؟
ربما كان من البديهي القول إن الفيلم يحوي عناصر أسلوبية واضحة لمخرجه، إلا أنه لا بد من التأكيد أن نولان قد خطا هذه المرة في منطقة مختلفة عن سابق أعماله، التي لم تكن كلها على نمط أو موضوع واحد، لكنها تشترك بسمات وتيمات معيّنة، يمكن وصفها بـ”النولانية”.
في فيلم “فارس الظلام” مثلا أسقط نولان علي شخصيه “الجوكر”، الشهيرة في الثقافة الشعبية، الصبغة الأناركية المتمردة؛ وفي فيلم “إنترستيلار” اهتم كثيرا بنظرية النسبية العامة والخاصة، ونظريات الثقوب السوداء، ولم يقتصر علي ذلك، بل جعل عالمي الفيزياء الشهيرين، ستيفن هوكنغ وكيب ثورن، يشرفان علي التخيّل المرسوم لشكل الثقب الأسود في الفيلم؛ أما في فيلم “دانكريك”، فقد تحدّث بأسلوب مبتكر عن معركة شهيرة في الحرب العالمية الثانية؛ بينما ألقى في فيلم “ذا برستيج” الضوء علي صراع العالمين تيسلا وأديسون، ولكن بلمحه فانتازية دراميه بالطبع. أما هذه المرة فقد اختار أسلوبا أكثر تعقيدا، فعلى الرغم من أن الفيلم يصنّف ضمن نوع السيرة ذاتية، إلا أن نولان ابتعد عن الشكل المألوف لهذه الأفلام.
بنى نولان سرده على أربعة خطوط زمنيه للسرد، بشكل دائري وغير نمطي، معتمدا على مونتاج مُرهق للغاية، ومُوتّر للمشاهد، إلا أن الفيلم لم يكن معقّدا إلى هذا الحد، ولا يستحق الاتهامات المكررة لنولان، بالتعالي علي الجماهير، فهو لم يتعمّد الإرباك لذاته، بقدر ما فرضه عليه موضوعه. فقد أراد تصوير مرحلة فارقة ومعقّدة من تاريخ أميركا، يصعب احتواؤها في ثلاث ساعة، هي مدة الفيلم.
ينتمي الفيلم إلى أسلوبيه نولان من ناحية تعقيد الحبكة، ويتقاطع مع فيلمين سابقين له، هما “ذا بريستيج” و”انترستيلار”. فمثلا في “ذا برستيج” يتشابه صراع الشخصيتن الرئيسيتين، ألفريد وروبرت، كثيرا مع الصراع بين ستراوس وأوبنهايمر، بطلي فلمه الجديد؛ إلا أن بعض الآراء النقدية ذهبت لتشبيه هذا الصراع بفيلم “أماديوس”، للمخرج ميلوش فورمان، وهو من كلاسيكيات السينما العالمية، والذي يتكلّم عن علاقة الموسيقار الشهير موتسارت بموسيقار أقل شهرة وموهبة، ولكن أكثر نفوذا، وهو سالييري. وهو تشبيه منطقي للغاية، خصوصا أن نولان نفسه اعترف بأن فيلم “أماديوس” من الأفلام المرجعية في بناء شخصيه ستراوس.
نجح نولان إذن بالجمع بين أسلوبه المعقد، المهتم بالخطوط الزمنية المتشابكة، وبين حبكات كلاسيكية، كالتي يحويها فيلم “أماديوس”، ليعبّر عن صراع تاريخي، لا يمكن اختزاله بالصدام الشخصي/النرجسي بين الخير والشر، فالمسألة التاريخية التي يعالجها الفيلم أعقد بمراحل من مثل هذه التصنيفات، التي ربما تتطلبها الدراما، ولكنها لا تنتمي للتاريخ.
استخدم نولان التقنيات السينمائية، التي يراها مناسبة للتعبير عن موضوعه، إذ صوّر فيلمه بشريط “إيماكس 70 مل”، الذي لم يلجأ إليه منذ فيلم “إنترستيلار”، وهو ليس التقنية الأحدث في كاميرات الإيماكس، ولكن له طبيعة خاصة، فهو يعطي عمقا كبيرا للصورة، وملائم لتصوير كادرات واسعة جدا. بالاستعانة بمدير التصورير الموهوب هويت فون هويتما.
نولان قرر ببساطة أن يعكس الآية، بأن يصنع بورتريهات متواصلة لشخصياته، لمدة ثلاث ساعات، بزوايا قريبه جدا، تبرز مشاعرها المعقدة. ثلاث ساعات من الوجوه المقرّبة، والأماكن المغلقة والضيقة، استطاعت أن توضّح لنا ما شعر به أوبنهايمر، بعدما استطاع أن يدرك أنه، وبشكل غير مسبوق، تمكّن من أن يصبح إلها. يغيّر مسارات أكبر حرب في التاريخ، ويتحكّم بحياة وموت البشر.
تلعب الحوارات المتعاقبة، والمباغتة، دورا كبيرا في إيصال تلك المشاعر المعقّدة بشكل مشوّق، وكأننا نشاهد فيلما لألفريد هيتشكوك. إلا أن نولان وضع ثقلا كبيرا على ممثليه، من خلال الإصرار على التركيز على وجوههم، وكأنهم يؤدون فيلما تأمليا للسويدي أنغمار بريغمان. وسط موسيقى تصويرية، ساهمت في تسريع إيقاع الفيلم. هذا التمازج بين التشويقي والتأملي هو من أكثر ما يميّز “أوبنهايمر”. وقرب نهاية الفيلم، رأينا ما يمكن اعتباره أهم مشهد سينمائي لهذه السنة، بل ربما أحد أهم المشاهد في مسيرة نولان كلها، وهو مشهد اختبار القنبلة النووية (ترينتي).
إنه مشهد مربك جدا، يحبس للأنفاس، بطله الأول شريط الصوت، الذي قرر نولان أن يجعله صامتا تماما، باستثناء صوت أنفاس أوبنهايمر، وبعض أفراد فريقه، وهم ينظرون بترقّب لما صنعوه بملء إرادتهم: ذلك السلاح المدمر والمفزع، الذي يمكن اعتباره من أهم أبطال الفيلم. إنه مشهد يمكّننا من فهم ما يشعر به نولان فعلا تجاه بطله.
من المعلومات الطريفة عن فيلم “انترستيلار” أن السيناريو المبدئي له، الذي كتبه جوناثان نولان، أخ كريستوفر نولان، كان بالأصل معدّا للمخرج الأميركي ستيفن سبيلبيرغ، ومختلفا تماما عن النسخه التي نعرفها.
ومن النقاط الأساسية في ذلك السيناريو، الذي لم ينفّذ، أن الفضائيين كانوا يلعبون دورا مهما في الفيلم، بوصفهم “الخطر” الذي يهدد الأرض، أما في فيلم نولان فلم نر فضائيين، فما يهدد الأرض ليس قوة خارجية غريبة، بل نحن البشر؛ وفي فيلمي “تينيت” و”ذا برستيج”، تتكرر التيمة نفسها؛ أما في “أوبنهايمر” فالتهديد هو البطل نفسه، المليء بالجنون والعبقرية في الآن ذاته. إنه بشري تماما، ولكنه حوّل مسار الحرب وكأنه إله. الخطر يأتي من صلب صراعات البشر فيما بينهم، وأوبنهايمر بذاته، تجسيد لكل ذلك الصراع.
ويبقي السؤال: هل أدان نولان بطله أم تعاطف معه؟
يقول كيليان ميرفي (أوبنهايمر) في أحد مشاهد الفيلم: “يصعب التفريق بين النجوم الميته والحيه وأحجامها، ولكن كلما كان حجمها أكبر، كان تأثيرها أكبر بكثير”.
يمكن مقارنه هذا بما قاله “كوبر”، بطل فيلم “إنترستيلار”، الذي لعب دوره الممثل ماثيو ماكونهي: “لقد اعتدنا على النظر إلى السماء، والتساؤل حول مكاننا بين النجوم، والآن نحن ننظر فقط إلى الأسفل، ونقلق بشأن مكاننا في التراب”.
اختلاف منظور “النجوم” بين الفيلمين، قد يمكّننا من فهم ما يدور برأس نولان حول بطله أوبنهايمر: يدين المخرج النجوم المرعبة والمميتة، التي قد تسبب عواقب تدميرية هائلة، من خلال تشبيهها ببطله الشغوف، المهووس بعلم الفيزياء النووية، والذي كان أحد من أدخلوا ميكانيكا الكم إلى أميركا، وهي علم كان يصعب فهمه آنذاك. فيما كان “كوبر”، في “إنترستيلار”، نموذجا أكثر رومانسية، اختار انقاذ ابنته، واستطاع النجاة من ثقب أسود، بكل ضخامة مفهوم الثقب الأسود. يقابل نولان بين النظرة الرومانسية من جهة، والبراغماتية النرجسية من جهة أخرى: كوبر استطاع النجاة بفضل الحب؛ فيما هدد أوبنهايمر العالم كله بالدمار، بسبب تفكيره العملي/العلمي شديد التعقيد. يمكن اعتبار فيلمي “انترستيلار” و”أبونهايمر” نقيضين تامين.
منذ صدور فيلم “أوبنهايمر” تصاعد الجدل حول موقف مخرجه الأخلاقي والأيديولوجي. كثيرون رأوا أنه يمثّل خطاب اليمين الأميركي، وأن الفيلم حافل بالتعاطف الخفي مع منتج القنبلة النووية.
ولكن هل نولان مطالب بالاتفاق مع أيديولوجيات مشاهديه المختلفه؟ وهل موقفه السياسي يدينه بوصفه صانع سينما؟ بالتأكيد لا، أحد يقبل التعاطف مع الفاشية، أو تبرير مقتل مئات آلاف البشر في حرب لا طائل لها، ولكن نولان بالتأكيد أكثر ذكاء من أن يقدّم خطابا أحاديا عن تلك القضية، سواء كان قائما على التبرير أو الإدانة.
ظهر أوبنهايمر في الفيلم أقرب لشخصيه نرجسية، مريضه بجنون العظمة، تقتبس من الديانه الهندوسية: “أنا الموت، أنا مدمّر العوالم”. إلا أن تلك النرجسية هي ما قاد صاحبها للاكتئاب الحاد، والشعور بذنب لا يغتفر. إحساسه المبالغ به بقدراته، هو ما خلّف لديه كل ذلك الشعور بالمسؤولية الأخلاقية، مع رغبة عارمة بالتطهّر، وصلت ذروتها أثناء المحاكمة، التي تعرّض لها نتيجة مواقفه السياسية (وتلك إدانة غير مباشرة من نولان للحقبة المكارثية في أميركا). إلا أن أوبنهايمر عاش ومات دون أن يصل لذلك التطهّر، وظلّ حاملا لوزر قنبلته، التي قد تدمّر العالم، وكأنه سيزيف، بطل الميثولوجيا الإغريقية، الذي ظل يدحرج صخرته إلى الأبد، دون أن ينال الخلاص.
إضافة لهذا ظهر أوبنهايمر في الفيلم وكأنه دمية تحرّكها الحكومة الأمريكية: استفادت من علمه وقدراته الإدارية، وحين انتهت منه، قررت محاكمته ومعاقبته، ليجد نفسه مجرد أداة عديمة الأهمية للحكومة. يطغي علي شريط الصوت في تلك المشاهد أصوات بكاء الأطفال اليابانيين، وصدى الدمار، الذين خلفته القنبلتان النوويتان، المستخدمتان في اليابان. ذلك ما يحاصر وعي البطل ولا وعيه، في لحظات اكتشافه لموقعه السياسي والأخلاقي.
يقول العالم الشهير ألبرت اينشتاين، واصفا أوبنهايمر، في كتاب “بروميثوس”، الذي اقتُبس عنه الفيلم: “مشكلة أوبنهايمر هي أنه يحب امرأة لا تحبه، تلك المرأة هي حكومة الولايات المتحدة”.
عامل نولان بطله بوصفه شخصية مليئة بالتناقضات والأزمات، وعرّاه أمامنا جميعا، بدلا من أن يدينه أو يمجّده، وربما كان سبب كل اللغط حول “التعاطف” المزعوم للفيلم مع صانع القنبلة النووية، أداء البطل كيليان ميرفي، الذي جسّد شخصيه بهذا التعقيد بكامل الهدوء، وبدون كثير من الانفعالات المباشرة والمبتذلة.
بكل الأحوال لعب نولان لعبته بشكل ذكي للغاية، لدرجة تجعلك تتساءل حتى آخر لحظة: الى أي جانب هو منحاز فعلا؟ وربما هذا ما يميّز الفن الحقيقي عن سينما الأجندات والخطابات الأيديولوجية المكشوفة.
في النهايه، “أوبنهايمر” إنجاز بصري عظيم لمخرجه، وأحد اكثر أفلامه نضجا، مع أداءات عظيمه لنجميه الأبرز، كيليان ميرفي وروبرت داوني جونيور، ويكاد يكون أهم فيلم أدار فيه نولان ممثليه، بعد “فارس الظلام”، وبالتأكيد سيحصد جوائز في التمثيل، إضافة إلى الجوائز المتعلّقة بالتقنيات، التي اعتاد نولان على حصدها. يعيب الفيلم أن اغلب شخصياته النسائية شديدة الضعف، علي مستوي رسم الشخصيات وتطورها، ما جعل أداءات الممثلات تتراوح بين الجيد والمتوسط، ولا تصل لمستوى أداءات الممثلين الرجال.
ثلاث ساعات من الهرج والمرج، واللهاث وراء الإيقاع، مع حوارات مكثّفة جدا، ومونتاج لا يجعلك ترمش، ثم في النهاية يترك نولان السؤال الأخلاقي مفتوحا، والذي ربما يكون اختزاله بالتعاطف أو الإدانة أسخف ما يمكن للمشاهد أن يفعله. أنت “تتورّط” في ذلك السؤال، كما تورّط أوبنهايمر نفسه فيه، وقد يكون هذا أفضل ما يمكن لفيلم سينمائي أن يفعله.