تناقضات التنوير: هل يمكن للديمقراطية الليبرالية الصمود أمام عنف الحشود؟

ترصد مؤسسة Freedom House سنويا الأوضاع المُتغيّرة للديموقراطية حول العالم، لتُخبرنا أن العام 2022 يُعدّ العام السادس عشر على التوالي، الذي تشهد به الديموقراطية تراجعا ملحوظا، إذ يُقدّر عدد الدول، التي انخفضت فيها ملامح الديموقراطية، بشكلها القانوني والمؤسسي، إلى 35 دولة، في مقابل 34 دولة مُستقرة، وتُرجع المؤسسة هذا الانخفاض الى أسباب، مثل الانقلابات العسكرية، أو احتكار السُلطة من قبل أحزاب وشخصيات مركزية.
لكن ما يعنينا هُنا هو وضع الدول الديموقراطية المُستقرّة، وخصوصا في أوروبا، التي تشهد اليوم انقساما جُغرافيا وطبقيا وديمغرافيا، ففي شرقها يتم تفكيك الشكل الليبرالي، وفصله عن الديموقراطية، وخصوصا في المجر وبولندا؛ وفي الغرب تنقسم المواقف، ففي البلدان الاسكندنافية تذهب الأصوات للأحزاب الليبرالية والخضراء، وحتى يمين الوسط؛ بينما صوّت الشباب في فرنسا للرئيس الحالي إيمانويل ماكرون عام 2017، ليعود قسم مهم منهم لانتخاب ماري لوبان، ممثلة اليمين، عام 2022؛ وفي جنوب القارة فازت جورجيا ميلوني، ممثلة اليمين المتطرف الإيطالي، برئاسة الوزراء.
تراجع تأييد الحالة الليبرالية في الديموقراطيات الأوروبية، يأتي مترافقا مع مواجهات في الشوارع في عدة بلدان، كان أعنفها في فرنسا، خصوصا مع حركة “السترات الصفراء”، واضطرابات الضواحي الفرنسية مؤخرا، التي اندلعت على وقع مقتل “نائل”، الشاب فرنسي من أصول جزائرية، ما يُنذر بتحولات كبير في المنظومات السياسية الأوروبية، فاعتياد مشهد “الجماهير” الغاضبة في الشوارع، وتطبيع استهدافها من قبل أدوات الدولة العنفيّة، وكذلك تصعيد لهجة الخطاب ضدها من قبل المؤسسات الإعلامية الليبرالية، يُعطينا انطباعا بوجود أزمة عميقة في مشروع الليبرالية الديموقراطية. هذه الأزمة هي ما عبّر عنها المؤرخ والأكاديمي الأميركي تيموثي سنايدر في كتابه “الطريق إلى اللاحرية” بمصطلح “سياسية الحتمية أو اللابديل” Politics of Inevitability، وما يقصده أن المُكتسب البشري، منذ عصور التنوير والحداثة، كان يفترض أن التاريخ موجّه في مسار، وصولا إلى غاية ما، إلا أن ما يحدث اليوم هو سقوط لهذه الفكرة، فالديكتاتوريات الكبرى أصبحت تعادي إمكانيات المُستقبل، وتدمّر أي قابلية للتفكير في بديل لها، والجديد، كما يلاحظ سنايدر، أن الوضع الغربي، وخصوصا الأوروبي، أخذ ينجذب للاتجاه نفسه مؤخّرا
المشروع الديموقراطي الليبرالي ليس قديما بحسب سنايدر، فبنهاية عهد الاتحاد السوفيتي، اتُفق أن يقود الاقتصاد الرأسمالي الديمقراطية الأوروبية، وعملية الإدارة الجديدة في الاتحاد الأوروبي الوليد، لكن ما حدث هو ازدياد في الفروق الطبقية، وانزياح للثروة نحو الأعلى بمعدلات أسرع، مع انتشار وباء كورونا، وارتفاع نسب التضخّم وأزمة الطاقة، ما وضع الطبقة الوسطى تحت ضغط التآكل، وأدى لعدم قدرة المؤسسات القانونية على العمل كما ينبغي، الأمر الذي جعل الاحتجاجات والعنف بديلا ديموقراطيا مباشرا لعدم كفاءة المؤسسات الليبرالية.
اختلال العلاقة بين الليبرالية والديمقراطية؛ المؤسسات وحركة الحشود، يبدو تهديدا لعمق المشروع الأوروبي، الذي ربط نفسه عادة بمفاهيم التنوير الأساسية. كيف يمكن الحديث عن “ديمقراطية ليبرالية” مهدّدة دوما من الناس، الذين من المفترض أنها تعبّر عنهم وعن مصالحهم؟ ولماذا تبدو تلك “الديمقراطية”، غير مستقرة ومرتبطة فقط بحركة رأس المال وبنية المنظومة الاقتصادية، وخاضعة لتناقضاتها؟ وكيف تنظر أوروبا حاليا للحشود والحركة السياسية المُباشرة، المُنطلقة من الشارع؟ وهل من بديل؟ وكيف يمكن تأسيسه؟
في كتابه “في العالم الداخلي لرأس المال”، يُلاحظ الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك، أن النظام الرأسمالي العولمي، الممتد منذ القرن السادس عشر، أخذ في رسم جميع ملامح الحياة المُعاصرة. وفي رأيه فإن صورته الأبرز قد تبلّورت مع إنشاء “القصر الزجاجي” في لندن في العام 1851، والذي احتوى في مساحته الداخلية، التي أخذت في التوسّع مرارا وتكرارا، على معرض يحوي عناصر ثقافية لشعوب مختلفة. إنه التبلور الأبرز للعقل الأوروبي التنويري ذي الاتجاه العالمي، لكنه هذه المرة كان قابعا في “الداخل”، ومعزولا عمّا هو خارج المَعرض بجدران زجاجية، في تمييز تاريخي بين الذات والأخر، إذ تنتمي الذات الي ثقافة تعددية عقلانية، ذات نظرة دينية تحررية، ونمط انتاج رأسمالي مُتقدم؛ في مواجهة الأخر غير المعروف، والذي لا ينجح في التأثير على داخل المعرض.
هكذا يتجه العالم الداخلي الأوروبي العقلاني إلى نفسه أكثر فأكثر، مُكتفيا بنمط معيشته اليومية، التي تحتوي تنويعات كثيرة عن الآخر المُتخيّل، لكنها في الحقيقة مجرد “صور” مُنتزعة السياق، وفاقدة لكل ممكنات الفعل العنيف، على عكس “الآخر” الحقيقي.
الآخر العنيف هنا هو الحشود وقدراتها التنظيمية، التي لطالما تحدّت الهيمنة الثقافية الرأسمالية، وهشّمت الصور التمثيلية لدى الذات الأوروبية، وانتزعت منها عديدا من الامتيازات الاقتصادية، منذ التحرّكات العمالية مع الثورة الصناعية، مرورا بحركات التحرر الوطني في المستعمرات، وحتى اليوم.
التراث السينمائي الأبوكاليبسي يحفل بالأعمال الفنية، النخبوية والتجارية، التي تُعطينا صورة لذلك الأخر العنيف، فأفلام “الزومبي”، أو الموتى الأحياء، التي تملأ منصات المشاهدة والسينمات اليوم، تُريد أن تضعنا في قلب تلك المفارقة: العالم الليبرالي (الأميركي أو الأوروبي غالبا) المُتحضّر العقلاني حر الإرادة، يتم تهديده من داخله، على يد حشود هائجة غير بشرية، تُريد أن تُدمر المُنجز الإنساني، خاضعةً لسيطرة رغباتها المتوحّشة، أو لُسلطة مخلوقات أخرى (الفطريات) كما في مسلسل “The Last of Us، الذي بُثّ مؤخرا. إنه الأخر وقد فقد عقله ومدنيّته.
في فيلم “children of men”، من إخراج ألفونسو كوارون، والذي تدور أحداثه المتخيّلة في العام 2027، تصاب البشرية بالعقم، ويمرّ عليها ثمانية عشر عاما على هذه الحال، لكنّ هُنالك مُجتمعا أخيرا مازال يحافظ على فعاليته الاجتماعية، وهو المجتمع الإنجليزي، على العكس من بقية المجتمعات حوال العالم، التي يذكّرنا بها كوارون طوال الوقت، فخارج بريطانيا انهارت المجتمعات وتفكّكت، فيما استمر المجتمع الإنجليزي عن طريق اعتقال الآخر والحجر عليه. كل صور “الأخر” في الفيلم كانت لحشود محتجزة في مُعسكرات أو في أقفاص، يوصف أفرادها بـ”المخربين” و”الخارجين عن القانون”. ثم يستعرض الفيلم المظاهر الثقافية المُتنوّعة على الجزيرة، حيثُ يقف تمثال مايكل انجلو لمرة أخيرة، بعد ان تم إنقاذه من متحف مدريد، قبل دماره بدوره مع لوحة “غارنيكا” لبيكاسو.
من جديد اتساق الذات الثقافية لا يكون إلا بوجود “أنا” مُتحضّرة في مواجهة الحشود الهمجية.
العُقم المُشار إليه في الفيلم، يضرب في عُمق المجتمع الأوروبي اليوم، وليس فقط على المستوى الحيوي، بل أيضا الرمزي، فانسداد الحالة السياسية، وشيوع روح اللابديل، وغياب المُستقبل الديمقراطي التمثيلي الحقيقي، يبدون واضحين للعيان يوما بعد يوم، في مقابل احتلال الحشود، غير المتحضّرة، للشوارع.
بالتزامن مع انهيار جدار برلين، وتفكّك الاتحاد السوفيتي، كتب الأكاديمي والفيلسوف السياسي الأميركي فرانسيس فوكوياما كتابه الشهير “نهاية التاريخ والانسان الأخير”، ليُعلن فيه أن القرن العشرين، الذي افتُتح بتفاؤل كبير في مدى نجاعة الليبرالية، ومرّ بحربين عالميتين، وحرب باردة ذات خطر نووي، وأيديولوجيات فاشية وشيوعية، يعود الآن مرة أخرى لتفاؤله الليبرالي، اقتصاديا وسياسيا.
ما أعلن فوكوياما انتصاره لم يكن إلا ما يمكن تسميته “جدل التنوير”، بمختلف تياراته وصراعاته، إلا أن ذلك “الانتصار” يبدو اليوم على شفير التداعي تحت تناقضاته.
انقسم المفكرون التنويريون، في القرن الثامن عشر، لشقين مختلفين في تحديد موقف فلسفي مركزي من الوجود، بدءا من الموقف الميتافيزيقي النظري من الدين والكنيسة والرب، وصولا إلى تحديد موقف عملي من السُلطة السياسية والديمقراطية والدولة وحكم الشعب، وبين الموقفين، النظري والعملي، تبلور الموقف من “الآخر” الغريب، الخارج عن سُلطة العقل وفضاءاته.
هاجم ممثلو التنوير المُعتدل، وهو التيار الأشهر، وخصوصا المفكرون الموسوعيون الفرنسيون، الدين لغرض سياسي مُحدد، وهو فك الاشتباك السياسي بين الكنيسة والنخبة الحاكمة، فما أرادوه هو إيمان حر من الضلالات والخرافات والهيمنة المطلقة للكنيسة، لكنّهم في الوقت نفسه لم يرفضوا الإيمان ولا الرب، وأحيانا حاولوا ابتكار بديل أكثر “عقلانية” للدين القائم، هو “الدين طبيعي”، كما في حالة جان جاك روسو مثلا؛ أو حاولوا إنتاج تصوّر مختلف عن الدين، بناء على أسس منهجية وأخلاقية جديد، كما في محاولات ديفيد هيوم والتنوير الأسكتلندي.
الموقف المعتدل والمتسامح مع الدين، الذي اتخذه المصلحون التنويريون، عبّر عنه كارل بيكر في كتابه “المدينة المقدسة لفلاسفة القرن الثامن عشر” بالقول: “لقد تخلّصوا من الخوف من الله، لكنهم احتفظوا بموقف محترم من الإله المعبود”. الموقف المتسامح هذا في الحقيقة كان مُترافقا مع موقف أخر أكثر تشاؤما تجاه الإنسانية.
الفضيلة الإنسانية الأصلية، كانت فكرة غير مريحة بالنسبة لمفكري التنوير، فقد انتقدها الشاعر الفرنسي بودلير بالقول: “إنها فكرة غريبة، ازدهرت على الأرض العفنة للرضا الحديث عن الذات”. كان التيار التنويري المُعتدل غير مُقتنع بالكمال الإنساني، والتضامن البشري العالمي، وهو ما وجّهه إلى موقف أقل تخاصماً مع الدين، وغيره من أساسيات الحضارة القائمة، فقد كانت الحضارة العقلانية، بالنسبة لفلاسفة مثل هيوم وهوبز، هشّة، ومُحاصرة بالقوى اللاعقلانية، فإن كانت روما القديمة انهارت على يد البرابرة، فما يمنع أوروبا الحديثة من أن تنهار وتختفي على يد القوى نفسها؟
الموقف المُتشائم من الإنسانية والكمال الإنساني، والمُتسامح تجاه الرب دائما، وتجاه الدين أحيانا، أبقى على الموقف التقليدي، الذي انبنى على فكرة العناية والتصميم الإلهي، فقد كانت المادة والطبيعة بالنسبة إلي نيوتن وحشية وحمقاء، وتعمل فقط بالإرادة الإلهية، أي أن النزعة المادية والإرادة الإلهية تلازما بشكل مثنوي Dualistic، لا يطغى فيه أحدهما على الآخر، وعليه فقد أصبح الرواد الأوائل للعقلانية، مثل ديكارت ونيوتن وليبنتز، أبطالا للكنيسة، ومُمثلين لنظامها الميتافيزيقي.
المُحافظة الميتافيزيقية للتنوير المُعتدل، جعلت توجّه ممثليه في العقل العملي (السياسة) مُتحفّظا أيضاً، ولا يتجاوز حد المُطالبة بالمستبدّ المُستنير، أو مجرد تحويل الملكية المُطلقة إلى ملكية دستورية، كما في بريطانيا. وساهمت الخلفية الاجتماعية، لأغلب مفكري ذلك التيار من التنوير، بجعلهم يتخذون موقفا سياسيا مُحافظا وغير صدامي مع النُخب السياسية، فقد كان مونتسيكيو بارونا، وكونديلاك قسيسا، وفولتير أرستقراطيا، وهلفيتيوس ابن مليونير، وغيبون عضوا في البرلمان وابن مالك أرض. وزاد وضعهم الطبقي، الذي قرّبهم من البلاطات الملكية في الدول الأوروبية، من الهوة بينهم وبين الجماهير، والحركات السياسية العاملة على الأرض. وفي النهاية فإن ما وصل للناس من أفكارهم كان مجرّد شعارات مُجرّدة عن الحرية والعدالة والمُساواة، لكنها لم تكن أكثر من شعارات، فهم لم يؤمنوا بإمكانية تنوير الجماهير، ومنازعة الكنيسة والقصر سُلطتهما على الناس، أي أن المفكرين التنويريين لم يكونوا مناضلين شعبيين، ولم يقفوا على أرضية واحدة مع من لم يشاركونهم الإيمان العقلاني والحرية الدينية، وحتى الموقف الطبقي.
الخلاصة أن العقل النظري والعملي للمُنظرين التنويريين، صاغ صورة ذاتية “أنا” لأوروبا، مُخالفة تماما للأخر، ليس فقط “الآخر” غير الأوروبي، بل كل الفئات والحشود الموجودة في قاع المجتمع، والمعبّرة عن لاعقلانية عميقة.
لقد تلازم ميلاد الأنا الأوروبي الليبرالي، على يد التنوير المُعتدل، مع إدراك أُمية وجهل الأخر (العامة/الحشود) في أوروبا نفسها، فقد رأى فولتير أن العامة سوف يبقون دائما جهلة، ومن المستحيل جعلهم متحضرين، من دون تخريب الدولة، وربما هم لا يستحقون ذلك أصلا. أي أن العقل التنويري لم يُصبح في الحقيقة كونيا، وانما ظل مهجوسا بالشكوك، وحالة التشاؤم من الإنسانية.
وفي كل حدث سياسي أو اضطراب اجتماعي جديد، نرى ذلك العقل المتنوّر يعود ليبدي شكه وتشاؤمه، مضيّقا مساحة التنوّر والديمقراطية في مواجهة “الآخر”. لدرجة أن الديمقراطية الليبرالية في أيامنا باتت أشبه بتحكّم بيروقراطي/تكنوقراطي، فخارج إطار “الخبراء” لا توجد إلا حشود جاهلة، تهدد كل مكتسبات الحضارة.
التأسيس الحديث لقيم العقلانية والحرية ونقد الكنيسة لم يأت في خط مُستقيم، إنما جاء نتيجة جدل وصراع بين تيار التنوير المعتدل وتيار آخر، هو التنوير الراديكالي، الذي يقول عنه المؤرخ جوناثان إسرائيل، في كتابه “التنوير متنازعا فيه”: “الفلاسفة، الذين يوصفون بالراديكاليين، هم الذين عارضوا صراحة، قبل عام 1752، ليس الطغيان وعدم التسامح والسذاجة والخرافة والهيمنة الكنسية فقط، مثل كل رجالات التنوير، وانما عارضوا ايضا تيار التنوير الرئيسي المعتدل، الذي تبنّاه لوك ونيوتن وفولتير، متمردين بمعنى ما من جهة اليسار. وبتعبير أخر فإنهم أنكروا بشكل واسع كل المعجزات، والوحي، ورفضوا اللاهوت الطبيعي، وربوية العناية الإلهية، فضلا عن النظام الملكي، وفي معظم الحالات الأرستقراطية، وكل التراتبيات الاجتماعية والعنصرية والجنسية”.
شكّل الراديكاليون تيارا واسعا، وجماعات يسارية شعبوية، تبدأ من سلف مُشترك وهو الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا، مرورا ببوفون وديدرو وهلفيتيوس و روسو، وصولا لدوائر اليسار الهيغلي في ألمانيا. لقد أنطلق هؤلاء الثوريون من تأويلات النصوص السبينوزية في الأخلاق ونقد الكتاب المُقدّس، إلى تأسيس نسق وجودي مختلف، على طريقة سبينوزا، وهو النسق القائل بالجوهر الواحد، أي أن الطبيعة والروح وجهان لعُملة واحدة، وهكذا ربط سبينوزا، ومفسروه التنويريون، بين الله ومخلوقاته في وحدة غير قابلة للفصل، أي انهم عملوا على الضد من التنوير المُعتدل، القائم على المثنوية، فقد آمنوا بالخبرة الإنسانية الأصيلة المشتركة، والحاجة لتنوير جميع الناس. عمل غودوين وكوندروسيه مثلا على المناداة بالتوافق العالمي، وطالبوا بحقوق متساوية لجميع البشر، والدفع في اتجاه الثورة السياسية السلمية والتسامح الديني، والأفق الجمهوري المعادي للملكية والامتيازات.
ساهمت أفكار التنوير الراديكالي في إنتاج تعريف جديدة للمساواة والتسامح، من خلال عملية سياسية، يُمثّل فيها الشعب نفسه، وكان هذا الميلاد الحقيقي لمفهوم الديموقراطية.
وفي المُقابل فقد أعتبر المفكرون التقليديون والكنيسة التيار الراديكالي تيارا شيطانيا وإلحاديا، فقد رأى فولتير مثلا في التيار الراديكالي خطرا فلسفيا، واعتبره خصمه الأول، لأن موقفه يُطيح “بكل مبادئ الأخلاق” برأيه.
وهكذا فقد استمر الصراع على مدار التاريخ الحديث بين التيارين، الراديكالي، الذي تحوّل إلي تيار يساري ثوري، يتوجّه للعامة والجماهير، ويؤمن بقدرة الانسان على تحقيق مصيره؛ في مقابل التيار الليبرالي المُحافظ، الذي وضع مسافةً بينه وبين الجماهير، وطالب بحالة مُعينة من الإصلاح. إلى أن تكلّل التاريخ الحديث بانتصار التيار الأخير، بعد قبوله بالديموقراطية على مضض، ولكنها الديمقراطية التمثيلية غير المباشرة. هكذا لم تجد الديموقراطية الليبرالية المعاصرة نفسها في موقف راسخ، وانما كان من الممكن دائما التأثير عليها واستمالتها لصالح مراكز نفوذ متعددة، مثل الكنيسة ورأس المال وجماعات الضغط، إنها الديموقراطية وقد وُلدت مُبتسرة.
تحمل الديمقراطية الليبرالية الغربية المعاصرة سمات أزمتها التأسيسية هذه، والتي تهدد بالإطاحة بها مع كل منعطف جديد. ويبدو أن استمرار المواءمة بين الموقف المعتدل والراديكالي لم تعد ممكنة، فإما ديمقراطية وتنوير يتسع للحشود، ولـ”الآخر” على اختلافه؛ وإما أن ينسحب الليبراليون إلى معازل مسوّرة، تحمي نفسها من الحشود الهمجية، مع محاولة نفيها أو اعتقالها في معسكرات. طبعا مع الاحتفاظ بصور ورموز تزيينيّة عن ثقافات “الآخر”.
ربما لم يعد بإمكان أوروبا، و”الغرب” عموما، العيش داخل “القصر الزجاجي”.