أصول المواعدة: لماذا تغدو العلاقات أصعب رغم كل “التسهيلات”؟

توجد كثير من المستجدات، التي يقودنا تجاهها في البدء دافع الإنبهار، لأننا لم نتخيّل يوما أن تصبح متوافرة بهذه السهولة. كثير من المعلومات، عن أي شيء نفكّر به، نستطيع الحصول عليه فقط بكبسة زر؛ أي سلعة نريد شراءها، يمكننا طلبها، ما دمنا نملك حسابا بنكيا معترفا به؛ بل حتى إذا كنّا نبحث عن شريك حياة، ولم يحالفنا الحظ في أماكن الدراسة أو العمل، أو حتى في محيط العائلة، للتعرّف عليه، فيمكننا أن نجده، أو على الأقل نجد “بروفايله”، على التطبيقات ووسائل التواصل الاجتماعي.
لقد بات الأمر بهذه السهولة فعلا، ستجد الآن مئات التطبيقات والمواقع الإلكترونية، التي تقدّم خدمة المواعدة (Dating) لشباب وفتيات، لم يتمكنوا من العثور على الحب، أو إشباع فراغهم العاطفي بالطرق التقليدية. الأهم أن الطرق القديمة باتت مُتجاوزة، وغير مثيرة للاهتمام، مقارنة بما نعاصره من مستحدثات التعارف والمواعدة، وما تثيره من رغبات واهتمامات جديدة. وعلى طريقة ” شُبيك لُبيك ” السحرية. فبمجرد أن تفتح الصفحة الرئيسية لأحد أشهر مواقع المواعدة، تجده يخبرك بأنه لا يهُم ما إذا كنت تريد العثور على الحب، أو الخروج في موعد غرامي، أو مُجرد إجراء محادثة عادية (1). أهلا بك في السوق، هذا ما لا يخبرك به، ولكن بدلا من منتجات وسلع، مدوّن عليها أسعارها وبلد المنشأ وكيفية الاستخدام، نجد في سوق المواعدة، ملايينا من الشباب والفتيات، تنشئ حساباتها، وتدوّن كثيرا عن اهتماماتها ومواهبها. لا يهم مدى حقيقة تلك البيانات، بقدر جاذبيتها للطرف الآخر، أو الزبون المحتمل.
وبرغم أن كل هذا يبدو تسهيلا للعلاقات العاطفية، إلا أنه جلب معه كثيرا من التعقيدات والصراعات المستحدثة، التي أصبحت سمة الحديث مؤخرا عن العلاقات ومشاريع الارتباط والزواج المحتملة، والتي تؤججها أكثر ساحات مواقع التواصل الاجتماعي، فتحوّل الأمر من كونه بحثا عن الشريك، وتحديد صفاته المرغوب فيها، والنقاش حولها، والتوافق على ما يمكن أن يُنجح العلاقات، إلى ما يشبه حرب الرجال ضد النساء، والعكس.
على مدار تاريخنا سمعنا دوما أن الرغبة في الارتباط هي سعي للاستقرار، ولكن ما يفصح عنه عالم اليوم بصدد العلاقات، ومفهومه عن الآخر، يدفعنا للتساؤل عن الكيفية التي كانت تجري بها العلاقات ومشاريع الزواج قبل اختراع الحب، ثم الوصول لعالم “تندر” وتطبيقات المواعدة؟ وكيف أصبح اختيار شريك الحياة معضلة؟ ولماذا لم يعد الحب كافيا لنجاح العلاقات؟
تُعرَض على موقع يوتيوب تسجيلات مصرية، مأخوذة من برنامج أميركي بعنوان “The blind date show”، تجمع شابا وفتاة، قرر كل منهما الجلوس معا، وبينهما “حجاب”، وهو حائط حقيقي، يُمكّنهما من سماع بعضهما فقط، ليدور بينهما عدد من الأحاديث، التي يكون الغرض منها دوما أقصى درجات استعراض الذات. يتبادل الطرفات الأسئلة والإجابات، خلال وصلة من الضحك و”الاستظراف”، فيوضح كل منهما اهتماماته الشخصية، ومفهومه عن “اللايف ستايل”، وأفلامه وأكلاته المفضّلة، وموقفه من الأبراج. فضلا عن لوازم متكررة دائما، فعند تناول الأمور المالية مثلا، يتمّ طرح أسئلة من نوع: عن هل ستشتري لي سيارة أم لا؟ من سيدفع مقابل وجبة عشاء في مطعم؟ كم تدفع لتسعدني بهدية في عيد الحب؟
بجانب هذه الأسئلة تظهر أيضا محاولات كل من الطرفين لإظهار التميّز أمام الآخر، وإعلان انتمائه لشريحة معينة، يروج لها بمحددات وترميزات أخلاقية، عن الشرب والسهر والسفريات واللعب والبحث عن المتعة، كما يستحدث الطرفان مفردات وتعبيرات، تحاول تأكيد التميّز الطبقي، من خلال طريقة حديث، تجمع بين العربية والإنجليزية (غالبا “انجليش” بأكسنت مصطنعة).
ورغم اختلاف الشخصيات في كل حلقة، إلا أن ما يجري التأكيد عليه دوما هو حصر الأفراد في تصوراتهم الشخصية عن أنفسهم، ومدى إيمانهم بقدراتهم، واعتماد هذا الأسلوب بوصفه طريقة فعالة لتسخير كل الظروف وتذليل العقبات. بهذا الشكل يتم عزل الفرد عن محيطه الاجتماعي، ليقدّم صورة متضخّمة عن ذاته. إذ يبدأ حديثه دائما بعبارات مثل: أنا أفضّل، أنا أريد. وينتهي بأحكام مطلقة تجاه الآخر: أنتم بوصفكم رجالا كذا، أو أنتن بوصفكم نساءً كذا.
يبدو أن هذا “العرض”، رغم كل ابتذاله، يؤدي وظيفة أساسية، وهي تكثيف الأسلوب الذي تتم به العلاقات حاليا. “بديهية” هذا الأسلوب تكاد تنسينا كيف كانت العلاقات فيما مضى. هل كنا نتعرّف على بعضنا سابقا من وراء حجاب وسائل التواصل وتفضيلات “اللايف ستايل” والاستهلاك؟
بالرجوع إلى مجتمعات ما قبل التصنيع، نجد أن الأسرة الزراعية مثّلت مركز حياة الفرد، فكان يتعلّم منها، ويعمل لصالحها، ويتزوج وفق مخططاتها، وينجب لإثراء رأسمالها البشري. ومع الثورة الصناعية حدث تغيّر جذري في المجتمع، أضفى بدوره تغيرات كثيرة على مفهوم الأسرة والعائلة، إذ تفكّكت العائلة الممتدة، لتحل محلها العائلة/النواة الصغيرة. فمع تغيّر الأدوار الاقتصادية ودلالتها، وتطوّر الآلات، وتضاؤل الحاجة إلى عدد كبير من الأبناء لتحقيق الكفاية الاقتصادية، وارتفاع تكلفة تربية الأطفال ورعايتهم، أي شروط إنتاج الحياة المباشرة للطفل، صارت العائلة أصغر حجما.
وفي الوقت الذي لم تعد الأسرة الحديثة موحّدة بالعمل المشترك في المزرعة، انزلقت السلطة، بفعل الأوضاع الاقتصادية الجديدة، من الآباء والشيوخ إلى السوق وقوانينه، كما تراجع دور الأسرة في الوظائف المتعلّقة بالتربية والتنشئة، والتي كانت من مهامها الأصيلة، وتنامت مؤسسات اجتماعية جديدة، مثل دور الحضانة، ومؤسسات رعاية الأطفال وكبار السن، فضلا عن وسائل الإعلام والجامعات، كل هذا أدى لاستيلاء الوكالات الخارجية، المنبثقة من العلاقات الجديدة للمجتمع، على المهام الحصرية للأسرة الزراعية، وتحوّلت الوظيفة الاقتصادية للأسرة من كونها وحدة إنتاجية، إلى وحدة استهلاكية صرفة.
رافق هذا بروز الحق الفردي في تقرير المصير، بناءً على إمكانية الاستقلال الاقتصادي للفرد، واتيحت فرص الاختلاط الحر للجنسين، في الجامعات ومؤسسات العمل. ومن هنا أخذ مفهوم الحب، وهو اختراع حديث، موقعا مركزيا في حياة الأفراد. وهو تغيّر كبير، يعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر. فوفق المؤرخة الأميركية ستيفاني كونتز، كان الزواج قائما على العهود الشفوية بين البنى الأهلية، لأنه كان ربطا تعاقديا للأشخاص، والأملاك، والعائلات(3) فيما بات في العصر الحديث مجالا للرغبات الفردية.
تغيّر القالب الثقافي والاجتماعي بما يتناسب مع محتوى المجتمع الاستهلاكي الجديد. وبالتالي أخذت الصفات القديمة، والأشكال التي كانت سائدة في علاقات الزواج، تتنحى أكثر فأكثر. اليوم خفّت وتيرة تحكّم الوالدين بعملية اختيار الشريك، سواء للابن أو الابنة؛ كما أصبح من الطبيعي والمتعارف عليه أن يكون الزوجان على سابق معرفة، سواء في العمل أو الدراسة؛ كما تراجعت وتقهقرت السلطة المطلقة للأب؛ ولم يعُد هناك رواج لفكرة الزواج المبكر، بل أصبحنا نشهد، في ظل الظروف الجديدة، تأجيلا لمشاريع وخطط الزواج عند الجنسين، ولا سيما الرجال، وإذا تمّ الزواج، فهناك اتجاه عند جيل الشباب لتأجيل الإنجاب، أو الاكتفاء بطفل واحد، بعد أن شهدنا لقرون سيادة فكرة ضرورة إنجاب عدد كبير من الأبناء، بما يلائم نمط الإنتاج سابقا. إضافة لكل هذا تطوّر مفهوم “الخصوصية”، وظهر جيل جديد، يرى في اختيار شريكه أو شريكته حقا خاصا وأصيلا..
تراجع الأسرة عن لعب الأدوار، التي كانت منوطة بها، أفسح بدوره الطريق لأفكار، سرعان ما أصبحت تنتشر في ظل طفرة التواصل الاجتماعي، إذ أصبح المحتوى الموجه لقطاعات الشباب يوجّههم لحماية مساحتهم الخاصة، بالترهيب والتحذير من العلاقة؛ أو يؤجج احتياجهم العاطفي، ويفاقم من ضغط “الأقران” عليهم، والمقصود هنا الأقران، ممن يستطيعون نشر صور برّاقة عن حياتهم وعلاقاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. ما يشكك بحقيقة مفهوم “الخصوصية”، الذي يبدو أنه فقد كثيرا من مضامينه تحت كل تلك الضغوط.
رغم التسهيلات، التي حققتها تطبيقات المواعدة، وتمكينها الأجيال الشابة من تقريب المسافات، وتنويع الاختيارات، واستعراض رغباتها، واستكشاف الطرف الآخر، إلا أن هناك شعورا متزايدا بأنها لم تسهّل العلاقات نفسها، ولم تحقق هدفها بإضفاء التوافق، بقدر ما جعلت فكرة اختيار الشريك ذاتها معضلة صعبة الحل.
الأنماط والأشكال القديمة، التي كانت تستوعب العلاقات ومشاريع الزواج، لم تهتم ربما بالأفراد ورغباتهم الخاصة، لكن الهدف العام منها كان تحقيق المصالح والقيم العليا للجماعة أو الأسرة، بما يضمن لأفرادها الاستقرار المعيشي، والالتزام بالمسؤوليات تجاه الأسرة الجديدة الناشئة عن الزواج، والعيش ضمن إطار من التكافل الاجتماعي، الذي أسهم بدوره في استمرارية العلاقات.
من خلال تطبيقات المواعدة، والأنماط الجديدة التي تتشكّل وفقها العلاقات، لم تتغير الاهتمامات الاجتماعية فقط، بل تم استحداث مجموعة من المصالح والقيم، التي تتمحور حول الفرد ورغباته، فبدلا من البحث عن الاستقرار طويل الأمد، صار الهاجس إيجاد شريك صالح لقضاء اللحظات السعيدة، وقابل لإنتاج صورة برّاقة عن الحياة، يمكن مشاركتها مع الآخرين؛ وعوضا عن الالتزام وتحمّل المسئوليات، أصبح التخفّف والبحث عن العلاقات العابرة الشكل السائد في تصورات الأجيال الجديدة. وذلك على غرار علاقات الاستهلاك، التي ينغمس فيها الأفراد، حين يريدون الاستحواذ على شيء، وبمجرد أن يتملّكوه لفترة، سيتحوّل انتباههم لاقتناء ما هو جديد. يخبرنا الفيلسوف البولندي زيغمونت باومان أنه “بهذا الشكل من العلاقات أيضا، أسهمت العولمة بتعليمنا مفهوم الموضة”. (4)
ربما تساعدنا هذه المفارقة على الإمساك بحالة الهشاشة، التي تطبّعت بها العلاقات مؤخرا، فلا هي تماسكت وفق الشروط القديمة، ولا وجدت ما ترغب به في المواعدة العصرية. وصّف باومان هذه الحالة من الهشاشة بـ”الحب السائل”، واستخدام تعبير “السائل” مناسب جدا لحالة تفتقر إلى الأسس الصلبة والمتينة، التي من الممكن أن تنبني عليها العلاقات بين الأفراد.
إلا أن محاولة العودة لنمط العلاقات القديم ليست حلا، فالحديث عن الزواج باعتباره رابطة مقدّسة في عصرنا، أصبح غطاءً متضخّما لقيّم، لم يعُد هناك أساس مادي لوجودها، وكلما زادت الهشاشة، كلما ضاعت القيمة، وتضخّم المعنى، جرّاء ما تسببه الهشاشة من استنزاف القدرة والطاقة البشرية، بالتالي يفقد الانسان القدرة على الحب والشعور بالراحة، والأخذ بالمسؤولية، وبناء الأسرة وتربية الأطفال. ولأنها في الأساس قيم ومعانٍ متضخّمة، تصبح هي نفسها تعبيرا نهائيا عن فشل العلاقة. فالمسئولية تصبح تسلّطا، وبناء الأسرة يغدو واجبنا روتينيا من التعايش والأداءات؛ وتربية الأطفال تصير نَسخا لتجارب أخرى ليس أكثر؛ والمشاركة العاطفية مجرد عبء وضغوطات، وبالنهاية يكون الفشل الذريع، فيميل الناس للتهرّب من العلاقات منذ بدايتها، أو عيشها على مضض، وسط شكوى مستمرة، غالبا ما تفضي إلى الطلاق.
أما من يميلون إلى التحلّل من كل واجبات ومسؤوليات “العلاقة المقدسة”، فلا يجدون غالبا المتعة والمغامرة و”الخفة”، التي تعوّدوا على رؤيتها في صور علاقات “الأنفلونسرز”، على موقع أنستغرام وأشباهه، وتدريجيا يكتشفون أنه لا بد من مسؤولية وتضحية والتزام ما، أو عليهم القبول بالوحدة التامة، بعد تلاشي كل الشركاء الجذّابين، وهي الظاهرة التي يُطلق عليها، بمصطلحات مواقع التواصل، اسم “الغوستنغ”.
إن جانبا كبيرا من عجز الأفراد المعاصرين عن صياغة تعريف لعلاقاتهم، يرجع للغموض الذي يشوب مفهوم “الحب” المعاصر نفسه، أو بالأحرى الهشاشة والميوعة التي تنهش العلاقات المعاصرة، وتجعلها أشبه باستهلاك الأشياء. هكذا تميل العلاقات إلى الانهيار قبل أن تبدأ. أو بحسب المفكر الألماني إريك فروم: “نميل إلى حب الأشياء أكثر من الناس، واستخدام الناس لمصلحتنا الشخصية، بقدر ما نحن أشياء” (5).
(1) الصفحة الرئيسية لموقع المواعدة الأشهر “تندر“
(2) فريدريك إنجلز: أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة
(3) ستيفاني كونتز: تاريخ الزواج
(4) زيجمونت باومان: الحب السائل
(5) إريك فروم: الهروب من الحرية