فيلم “بيت الروبي”: هل تنقذنا السينما من السوشال ميديا؟

منذ سنوات طويلة، توقفت الأفلام الكوميدية المصرية، وخاصة التي تُطرح في مواسم الأعياد، عن تقديم أفكار اجتماعية أو قضايا جادة، تستفزّ بها المتفرج، ليفكر في حياته بالتوازي مع القهقهة والتهام الفشار. والأفلام التي قامت بذلك قليلة، وكانت تتمحّك بالقضايا، ولا تناقشها بصدق، معتذرةً بأن الكوميديا لا ينبغي أن تتجاوز التهريج الصافي. لكنّ فيلم “بيت الروبي” جاء ليفعلها، ويكسر تلك القاعدة، بطريقة مازالت مسلّية، وبعيدة عن الوعظ ودروس القراءة.
الفيلم من إخراج بيتر ميمي، ومن تأليف محمد الدباح وريم القماش، اللذين كتبا قصة معاصرة، تفاصيلها شديدة الألفة مع ما نعيشه عالميا في اللحظة الراهنة. عن أسرة مكونة من الأب، الذي يعمل مهندسا زراعيا، واسمه إبراهيم الروبي (كريم عبد العزيز)؛ والأم، وهي طبيبة سابقة، اسمها إيمان (انور اللبنانية)؛ وطفلين، يحاولان تربيتهما وفق معايير صحيّة. اختارت هذه الأسرة العيش في بلدة ساحلية صغيرة في حضن الطبيعة، هاربة من زحام المدن، وما يرتبط بها من مظاهر الحداثة والتكنولوجيا، تأكل من الصيد والزراعة، وتعيش في مكان استغنى عن شبكات الاتصالات والإنترنت، هناك يلعب الأطفال الاستغماية والرياضة، بدلا من مشاهدة مقاطع تيك توك ومراقبة تحديثات فيسبوك. ظلت حياة العائلة مستقرة لسنوات، قبل أن يأتيها زائر، هو إيهاب الروبي، شقيق إبراهيم (كريم محمود عبد العزيز)، ليقترح اصطحابها في رحلة سريعة ومؤقّتة للعاصمة، من أجل تسوية قانونية لميراث والده، لتنقلب بعدها الأمور رأسا على عقب، وتتكشّف أسرار عن ماضي الأسرة، الذي يعود ليطاردها من جديد، فنعلم السبب الحقيقي وراء هروبها من حياة المدينة.
هل سعى “بيت الروبي” لتقديم نقد، بات مألوفا ومكررا، لنمط الحداثة المعاصر، بما فيه من وسائل اتصال وتواصل؟ أم أنه نجح بتصوير أبعاد أكثر تركيبا، على المستويات الاجتماعية والثقافية والنفسية، لحياة الأفراد في الزمن الحالي؟
يبدأ الفيلم ببعض الغموض فيما يخص توجهاته، بداية هادئة حذرة على شواطيء جنوب سيناء المصرية، مناظر جميلة، وموسيقى ناعمة، وأجواء بها بعض الرومانسية، وانسجام محبب بين الأبطال، مع التلميح بوجود عقدة نفسية ما لدى البطل تجاه الهواتف الذكية، دون توضيح السبب.
تماما مثل أفلام الكوارث، التي تبدو فيها الحياة عادية وهادئة، حتى يأتي الإعصار أو البركان أو الطوفان، لم تنقلب وتيرة الفيلم إلا بوصول الأبطال للعاصمة، التي ظهرت بشكل ديستوبي: الفوضى، والزحام، والبيروقراطية، والاستغلال، واللهاث من أجل المال، والصراع على كل شيء. وقد أجاد المخرج في إظهار هذا التباين بين العالمين، بأبسط الأدوات وأصعبها. بعض اللقطات جاءت متأثّرة بفيلم “الإرهاب والكباب” (١٩٩٢)، وتحديدا مشهد الشهر العقاري، الذي يسير فيه المواطنون في صفوف بقوة الدفع، تماما مثلما يحدث في مشاهد مجمع التحرير، في فيلم المخرج شريف عرفة.
المدينة نفسها بكل شرورها، لم تكن العدو في “بيت الروبي”، لكن رمزا للحداثة المتعلقة بالعدو الحقيقي في القصة، وهو منصات التواصل الاجتماعي، وما يلحق بها من ظواهر مؤذية، مثل الهوس والإدمان، وإلغاء الخصوصية، ومنح الشهرة لكل من هب ودب، وثقافة الإلغاء والاغتيال المعنوي والوظيفي، والانسياق وراء القطيع، والتنمّر في التعليقات، الخ. تجعلك أحداث الفيلم تتأكد من إنه أيا كانت طريقة استخدامك لمنصات التواصل الاجتماعي، فسترى نفسك إما في موقع الجاني أو الضحية أو المُنظّر أو المعلّق أو المُحكّم. لكن، ما ينبّهك الفيلم إليه، هو أن كل نقرة في تلك المواقع، سيكون لها توابع لا تعلمها في حياة الآخرين.
من حسن حظ الفيلم، أن طرحه يتزامن مع واقعة حقيقية مطابقة لموضوعه، تشغل الإعلام المصري في هذه الأيام، وهي “فتاة الفستان الأزرق”، بطلتها فتاة محجّبة، تسرّب لها مقطع فيديو وهي ترقص في حفل عُرس صديقتها، بطريقة يراها البعض متجاوزة، ولا تتناسب مع ملابسها أو وضعها الاجتماعي، وتحولت الفتاة لـ”تريند”، نال ملايين المشاهدات، وانهالت عليها التعليقات التي تحطّ من شأنها، وتنال من شرفها وشرف أسرتها، أعقب ذلك أخبار صحفية ملفّقة بأن زوجها انفصل عنها بسبب المقطع المسرّب، ثم اتضح أنها ليست متزوجة بالأساس، واللقطة مسرّبة ضد رغبتها. ما يتماس بدقة مع بعض أحداث وأفكار فيلم “بيت الروبي”، الذي يشكّك في مفهوم “الحقيقة”، التي تعرضها منصات التواصل، باعتبارها مجتزأة، ناهيك عن استهدافه لفكرة الانسياق القطيعي، الذي تسببه تلك المنصات، التي يعلو فيها الصوت المتشنّج، ويخفت صوت المنطق.
إلا أن فضيلة الفيلم الأكبر ليست في أنه يقدم نقدا للهاتف الذكي، ذلك الجهاز الصغير، الذي يستعبدنا داخل واقعه الافتراضي، بل في تقديم ذلك النقد وفق حبكة درامية مقنعة، أبطالها من الناس العاديين، الذين يسهل التآلف مع معاناتهم، مع وجود بعض المبالغات التي تتطلبها أية قصة، لتكون قصة لا واقعا، وقد نبعت من تلك المبالغات كوميديا موقف جيدة، دون استظراف أو افتعال أو افيهات مقحمة.
ست شخصيات رئيسية تخوض الرحلة، خمس منها لديها صراعات مختلفة مع منصات التواصل الاجتماعي: الأب الذي تحوّل لبطل شعبي بالصدفة؛ والزوجة التي فقدت وظيفتها وسمعتها بالباطل؛ والأخ الذي يتأثّر مشروعه زئبقيا بدعاية التريند، مع فشله في التحكّم فيه؛ وزوجة الأخ التي فقدت متابعي صفحتها، فتأثّر عملها؛ والابن الذي أنتُهكت مشاعره بواسطة مخادعين على أحد تطبيقات المواعدة. أي أن الجميع تأثّر باستثناء الطفلة الصغيرة، التي تنجو من مفرقعات السوشال ميديا تلقائيا، والسبب أن والدها صمّم ألّا تقتني هاتفا ذكيا مهما حدث.
تمتد قوة النص في “بيت الروبي”، لتتجاوز المؤثرات المرئية والمادية لمنصات التواصل على حياة أبطال الفيلم، وتركّز على دواخلهم، بطرح سؤال: كيف يمكن أن نرى أنفسنا، ونعي حقيقتنا، ونثق في قدراتنا، بعيدا عن وهم الواقع الافتراضي، ومعايير “اللايك” و”الشير” و”الفيو” وعدد المتابعين؟ هذا ما يسميه مُنظّر القصص السينمائية الأشهر سيد فيلد أداة الاحتياج (need)، التي ينبغي أن تتوافر في كل قصة سينمائية ناجحة، وهي باختصار ذلك الشيء الذي تحتاج أن تعرفه الشخصية الدرامية عن نفسها بنهاية القصة، بغض النظر عن نجاحها أو فشلها في تحقيق الهدف المادي المطلوب من الرحلة.
مؤلفا “بيت الروبي” أجادا تماما بتنفيذ هذا العنصر في صياغة شخصيات أبطالهما، وذلك من خلال وضعهم في مواقف تلهمهم بتلبية احتياجهم الذاتي، فمثلا أكثر ما تحتاجه إيمان أن تسترد “الإيمان” بقدراتها مهنيا، بوصفها طبيبة، وبشكل عملي؛ إبراهيم يحتاج لإدراك أن لديه ما يفيد المجتمع، أكثر من دور المصلح الاجتماعي، الذي وضعه فيه جمهور المنصات بالخطأ؛ إيهاب يحتاج أن يتأكد أنه أمهر من يمارس مهنة الحلاقة، حتى لو اضطر لغلق صالون الحلاقة الخاص به، لأسباب فوق طاقته. هكذا ينجو الفيلم بحلول درامية ذكية لشخصياته، كما تنجو الشخصيات نفسها من ألغام منصات التواصل، دون الحاجة للهروب منها تماما، أو الانعزال في الصحراء، فيجد الفيلم طريقة للتعايش مع هذه الوسيلة، التي باتت أمرا واقعا.
“بيت الروبي” ينتمي بوضوح لتوجّه سينمائي محدث، بات يستهدف الهاتف الذكي، الذي نربيه في جيوبنا، ولا نستطيع الاستغناء عنه. يمكنك أن تعتبره حلقة سينمائية من حلقات مسلسل Black Mirror الشهير، كما فعلها سابقا فيلم “الأصليين” (2017) للمخرج مروان حامد، الذي تعرّض للفكرة نفسها، ولكن من زاوية الخصوصية. وكثير من الأعمال العالمية، التي صارت مهتمة بهذا الموضوع: الآلة ضد الإنسان، بكل تجليات الصراع، فهي قضيه العصر لا شك. لكن، مع مرور الثلث الأول من “بيت الروبي”، يدور بالذهن تساؤل آخر: هل منصات التواصل باتت مستهدفة من السينما، لمجرد إنها مشكلة من مشكلات الإنسان، مثل كل مشكلة يشتبك معها الفن؟ أم لأنها باتت أيضا منافسا قويا للسينما؟
يعيد هذا التساؤل لما قبل بدء الفيلم بدقيقة واحدة، حين ظهر تنبيه مكتوب على شاشة السينما، بعدم استعمال الهاتف الخلوي أثناء عرض الفيلم، لأن إضاءة الهاتف تكون مزعجة للآخرين. إذن، الهواتف أصبحت وسيلة تشتيت مباشرة داخل قاعات السينما نفسها، فما بالك بأنها وسيلةً إعلاميةً منافسة للسينما، باعتبارها وسيطا للعرض خارج القاعات.
بالعودة للتاريخ، السينما لم تكن يوما على وفاق مع وسائل الإعلام بكافة أنواعها، قبل “السوشال ميديا” كانت الصحافة والتلفزيون، التي لطالما تم تصويرهما على الشاشة الكبيرة بالدرجة نفسها من العداء: العاملون فيهما كذّابون متلاعبون، يدهسون المبادئ ويتاجرون بالقيم، في سبيل سبق صحفي أو زيادة نسب المشاهدة. ما يحيل إلى فيلمين بالتحديد، قد يكون بينهما صلة وتراتب سياقي مع “بيت الروبي”. الفيلم الأول هو “السيد ديدز يذهب للمدينة” (1936) لغاري كوبر، الذي أعيد إنتاجه مرة أخرى في مطلع الألفية، من بطولة آدم سانلدر، عن رجل قروي بسيط، يضطر للسفر إلى المدينة، ليرث خاله المليونير، ويدخل في مشكلات بسبب عدم تأقلمه مع قيم المدينة الحداثية وزيف سكانها، الذين تم تلخيص شرورهم في شخصية الصحفية المخادعة، التي تستغلّ البطل من أجل سبق صحافي؛ والفيلم الثاني هو “الشبكة” (1976) للمخرج سيدني لوميت، عن مذيع تلفزيوني لم يكن يهتم به أحد، حتى باح بغضبه بجرأة، وعلى الهواء مباشرة، ضد كل الظواهر الاجتماعية والسياسية السلبية، فتحوّل لنجم وبطل شعبي، يُعدّ مريدوه بالملايين، وهم رهن إشارة منه، لأنه يُعبّر عن إحباطهم. فتقرّر مديرة القناة استغلال شعبية المذيع، في برامج تبثّها القناة، للتربّح من أوجاع الناس.
إذن، من الصحافة مرورا بالتلفزيون، وصولا للإعلام المجتمعي، أي من “السيد ديدز”، إلى “الشبكة”، إلى “بيت الروبي”. يبدو أن السينما ستظل تقاوم دوما أي وسيط إعلامي، ينازعها الانفراد بعقل المتفرج، وسلطة توجيهه للحقيقة. وعزاؤها أن القصص المؤلّفة غالبا ما تكون أكثر صدقا من الوقائع المجتزأة، التي ترصدها أعين الإعلام الآخر دون معالجة.
يبدو أن “بيت الروبي” نجح في تحقيق غايته تلك، إذ تصدّر شبّاك التذاكر في مصر والسعودية، والأخيرة من أهم أسواق السينما الناشئة في المنطقة، مزيحا فيلم الأبطال الخارقين الأميركي The Flash. وكأنه يقول إن الحكاية الجيدة، التي لا يبرع بتقديمها إلا السينما الحقيقية، قادرة على البقاء، وربما الانتصار، على كل المؤثّرات البرّاقة العابرة.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.