“أندية الشعب”: هل يمكن أن تعود المنافسة إلى عالم كرة القدم؟

“أندية الشعب”: هل يمكن أن تعود المنافسة إلى عالم كرة القدم؟

توقّفت عقارب الساعة في نابولي قد منذ أمدٍ بعيد. لعقود علقت القلوب في الماضي، والعقول لم يكن يشغلها سوى الحفاظ على صورة “مارادونا” في جزءٍ حصين في الذاكرة. الفارس الذي أضاء المدينة بلقبي الدوري الوحيدين في تاريخ النادي الأزرق.

خذ جولة في شوارع نابولي، ستجد مارادونا حاضرا في كل مكان. أصبح مارادونا هوية عاصمة الجنوب الإيطالية. صوره على النوافذ وفي قلب الميادين، والأعلام المرفوعة في كل مكان يغلب عليها اللون الأزرق، ويتوسّطها مارادونا.

إلا أن زمن نابولي عاد، وبُعث النادي هذا العام من الموت، محققا لقب الدوري الإيطالي الثالث له في تاريخه. لقبٌ عُد أشبه بمعجزة سماوية في أرجاء العالم، الذي غابت عنه المعجزات منذ زمن طويل.

اعتُبر انتصار “نابولي”، في المخيال الشعبي، عودة للأندية الفقيرة، التي لا تملك مستثمرين وجهات دعم ضخمة، وكأن روح كرة القدم “الحقيقية” قد انبعثت من جديد، بعد عقود من سيطرة النوادي الكبيرة، وهيمنة رأس المال على أحلام الفقراء. ولكن كيف انبعث نادي نابولي فعلا من جديد؟ وهل يمكن لكرة القدم مقاومة رأس المال بالفعل؟ ثم كيف وصلت كرة القدم إلى هذه الوضع، الذي يرى فيه كثير من عشاقها مخالفة لروح اللعبة؟

“لعبة أخطاء”، لكن في الماضي

يُعّرف أسطورة نادي برشلونة، اللاعب الهولندي يوهان كرويف”، كرة القدم بأنها “لُعبة أخطاء”. لطالما كانت كرة القدم رياضة الفقراء، فهي الرياضة التي يُمكن لأي شخص ممارستها، وببساطة يمكنه تحقيق الفوز، أو على الأقل تكون له الفرصة في تحقيق ذلك.

تمت ترجمة ذلك عموما إلى نتائج وألقاب، حققتها أندية صغيرة، عبر المثابرة والتمسّك بالحلم. في ألمانيا مثلا هيمن نادي بايرن ميونخ، حوت الأندية الألمانية، على لقب الدوري في كثير من المواسم، إلا أن أندية صغيرة، مثل “كايزرسلاوترن” و”فيردر بريمن” و”فولفسبورج”، استطاعت تحقيق “المعجزة”، وانتزاع لقب الدوري من ميونخ. وكذا الحال في إنجلترا وإسبانيا وإيطاليا وغيرهم. إلا أن هذا بات شبه مستحيل في عصرنا، فإذا لم يكن وراءك مستثمرون و”نموذج أعمال” ناجح، وأحيانا قوة سياسية، فلن تحلم بمنصات التتويج.

من أجل فهم مدى ضخامة التحوّل الذي حدث في كرة القدم، يجب أن نعود إلى الماضي، عندما كانت اللعبة بالكاد تعمل بوصفها مشروعا ربحيّا. في إنجلترا على سبيل المثال، وعندما سيطر فريق ليفربول على الألقاب في حقبة الثمانينات، كان النادي الذي يعطي أعلى أجور للاعبين هو فريق “ويست برومتش ألبيون”، الذي كان ينافس على مراكز الهبوط حينها، ما يعني أن سيطرة فريق ليفربول كانت بسبب مهارات لاعبيه، وروحهم الجماعية، وليس لضخامة رأس مال الفريق.

وبحسب صحيفة Indepdent فإنه في فترة الثمانينات، كان هناك ما يصل إلى ثلاثة  عشر ناديا من أصل عشرين، يمكن أن ينتهي إلى المراكز الأربعة الأولى في الدوري الإنجليزي، وما يصل إلى اثني عشر ناديا في إسبانيا. فيما كان يمكن لفرق مثل “أستون فيلا”، و”ستيوا بوخارست”، و”أيندهوفن”، و”ريد ستار بلغراد”، الفوز بكأس أندية أوروبا.

فوز “ستيوا بوخاريست” بدوري أبطال أوروبا عام 1986

كرة القدم في الواقع كانت صناعة صغيرة جدا، لا تظهر فيها عدم المساواة الموجودة حاليا. وكان هناك تنوّع أكثر في حملة الألقاب، ومنافسة رياضية أكبر. لكن شيئا حدث في ثمانينات القرن الماضي، غيّر كل هذا.

البداية من إنجلترا كالعادة

ترجع محاولات الاستثمار الرأسمالي الكبير في كرة القدم إلى منتصف ثمانينات القرن الماضي، وتحديدا في إنجلترا. كانت هناك قاعدة في لوائح الأندية، وضعها الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم، وهي القاعدة 34، التي تنصّ على أن أندية كرة القدم مؤسسات اجتماعية، وأعضاء مجالس إدارتها موظفي دولة، يُحظر توزيع الأرباح عليهم.

سعى نادي توتنهام حينها إلى التحايل على هذه القاعدة، من خلال إنشاء شركة قابضة، تعمل بصفة مستثمر داخل النادي، وهو ما لم يعارضه الاتحاد الإنجليزي، ترافق ذلك مع تغيير في توزيع أرباح البطولات المحلية والقارية، فحصلت الأندية على نسب أكبر منها، وبالتأكيد سعت الأندية الكبرى للحصول على نصيب الأسد.

في إيطاليا، كان استيلاء سيلفيو برلسكوني على نادي ميلان عام 1986، بمثابة إعلان لفرض أفكاره على كرة القدم، والتي أحدثت ثورة في استخدام التلفزيون، وغيره من وسائل الترفيه، في الرياضة، فقد رأى برلسكوني أنه من السخف أن لا تجتمع أكبر الأندية بانتظام، في مباريات مربحة، منقولة على وسائل الإعلام الأساسية.

سيلفيو بيرلسكوني

رفض الاتحاد الأوروبي الفكرة، لكنه عاد ووافق عليها، ضمن خطة شملت أول بطولة دوري أبطال أوروبا بنظامها الحديث، في موسم 1992-1993، مع إنشاء العلامة التجارية والنشيد الخاصين بالبطولة، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يتم إطلاق الدوري الإنجليزي الممتاز في الوقت نفسه، متأثرًا بالأفكار نفسها، والحافز نفسه: المال.

ومع سقوط الاتحاد السوفيتي، لم تستطع دول الكتلة الشرقية، مثل بولندا وأوكرانيا، إبقاء اللاعبين النجوم داخل حدودها، مما عنى حينها تفكيك جميع الضمانات واللوائح الاقتصادية السائدة في تلك البلدان، وهو ما كان إيذانا بدخول كرة القدم في مرحلة جديدة، تتحوّل فيها اللعبة بالتدريج إلى صناعة لا هدف لها إلا الربح.

الاستثمار ينهي التنافس

الاستثمارات الهائلة، التي انصبّت على كرة القدم منذ الثمانينيات، خلقت تفاوتا ماليا بين الأندية، يقضي على أي إمكانية فعليّة للتنافس. وجدت دائما فرق قوية، حصدت كثيرا من الألقاب، إلا ان الوضع حاليا بات أشبه بالاحتكار: توجد مجموعة صغيرة من الأندية، لا يمكن لأي لقب مهم أن يخرج من دوائرها، تُسجّل كثيرا من الأهداف، وتحطّم الأرقام القياسية. نعم، استطاعت هذه الأندية زيادة “أرقام اللعبة”، ليس فقط من الناحية المالية، ولكن أيضا من الناحية الرياضية والتكتيكية، إلا أنها أعطتها شكلا جديدا، فيه كل عناصر الترفيه الممكنة، إلا المنافسة الفعلية، و”روح اللعبة” التي يفتقدها كثير من المشجعين المخلصين.

بحسب وكالة الإحصاء (Deloitte) فإنت تحتاج إلى 400 مليون يورو، حدا أدنى في كل موسم، كي تدخل المنافسة الفعلية، وذلك وفق أرقام موسم عام 2020، وهي أرقام تزداد ويتضخّم في كل موسم جديد.  

 من “الأرقام القياسية”، التي سجّلتها اللعبة مؤخرا، بعد الاستثمار المكثّف بها، تحقيق نادي ريال مدريد لقب دوري أبطال أوربا سبع مرات منذ عام 2000؛ وكذلك شهدنا أول موسم محلي في إسبانيا وإيطاليا وإنجلترا، يخرج فيه البطل بمئة نقطة؛ هذا إضافة إلى سيطرة فرق مثل بايرن ميونخ في ألمانيا، وباريس سان جيرمان في فرنسا، ويوفنتوس في إيطاليا، على أكثر من 70 بالمئة من البطولات المحليّة في العقد الحالي.

يقول نيكولا كورتيز، الرئيس التنفيذي السابق لنادي “ساوثامبتون” الإنجليزي: “هذه الأندية الكبيرة أصبحت الآن وحوش أموال ضخمة، نظرا لبنية الرياضة ذاتها، فقد أدت شعبيتها الهائلة إلى تحويل المزيد والمزيد من الموارد إلى مجموعة صغيرة للغاية من الأندية، وهو ما يضرّ باللعبة لا محالة”.

 على سبيل المثال، بلغّ إجمالي حقوق البث التلفزيوني في الدوري الإنجليزي الممتاز، لموسم 2022-2023، 8.4 مليار جنيه إسترليني. ويبلغ إجمالي أموال جائزة دوري أبطال أوروبا الآن 2.04 مليار يورو، بعد أن كانت 583 مليون يورو قبل عشر سنوات فقط. أدى هذا إلى زيادة حجم مبيعات نادٍ مثل مانشستر يونايتد من 117 مليون جنيه إسترليني في بداية الألفية، إلى 627.1 مليون جنيه إسترليني في موسم 2018-2019.

لقد تغيّر حجم اللعبة بالكامل. ديفيد جولدبلات، أستاذ علم اجتماع كرة القدم في جامعة بريستول، أكد في كتابه “عصر كرة القدم” أن الرياضة في أوروبا تحقق الآن إيرادات أكثر من صناعة النشر أو السينما في القارة. ومع ذلك، فإن مزيدا من الأموال يؤدي ببساطة إلى مزيد من التفاوت. وهو التفاوت الذي يجعل من حصول فرق مثل نابولي في إيطاليا، وليستر سيتي في انجلترا، على الدوري المحلي في بلادهم بمثابة معجزة.

فوز ليستر سيتي بالدوري الإنجليزي

 لكن إذا أصبحت الاستثمارات الرأسمالية في كرة القدم هي الأساس، فإن مواسم، مثل التي قدمها ليستر سيتي عام 2016، ونابولي عام 2023، باتت دستور الأندية الفقيرة، أو دعنا نقول بدقة أكبر: الأندية خارج حدود أندية النخبة.

الإجابة في نابولي: فلسفة المتاح

لم يكن تحقيق نابولي لقب الدوري الإيطالي، بعد ثلاثين عاما، من قبيل الصدفة، بل تحقق بفلسفة خاصة، دعنا نطلق عليها اسم “فلسفة المتاح”

 تعلّم الفريق كيفية تحقيق مزيد من الإنجازات بموارد أقل، لأنه لم يكن لديه ما يلعب به تقريبا. فقد خفّض بالفعل مرتبات لاعبيه، مخالفا بذلك الاتجاه السائد في كرة القدم حاليا، والذي يؤكد على أنك إذا أردت تحقيق لقب ما، عليك استقطاب النجوم، بدفع رواتب خيالية لهم.

 تبدأ القصة عندما أنشأ قطب صناعة السينما الإيطالية أوريليو دي لورينتيس، قبل تسعة عشر عاما، شركة جديدة، لانتشال نادي نابولي من الإفلاس، ووعد بالاستقرار المالي، وبعد ذلك بدأ حملة إعادة بناء النادي.

أوريليو دي لورينتيس

يبدو أن مجلس إدارة نابولي، تعلّم درسا من كتاب وفيلم Moneyball (بطولة براد بيت)، وهو استخدام تحليلات البيانات والمغامرة للعثور على لاعبين بأقل من قيمتهم الحقيقية، في الأجزاء التي تم تجاهلها من الكوكب. وهكذا استقطب النادي الكوري الجنوبي كيم مين جاي، والمقدوني إلجيف إلماس، والمكسيكي هيرفينج (تشاكي)، والجورجيين لوزانو وخفيشا كفاراتسخيليا. كما اشترى النادي قبل عاميين فيكتور أوسيمين من نيجيريا، أحد أفضل المهاجمين في العالم حاليا. لم يهتم النادي بالأسماء التي تحقق ربحا، ويسعى إليها مخرجو الإعلانات التجارية، بل بكفاءة اللاعب، حتى لو كان مغمورا.

الأهم من هذا وذاك، تسلّح نابولي بهويته العريقة، وجماهيره المخلصة، التي سخرت من دي لورينتس في بداية مشروعه، كونه أراد ضخّ الأموال لمواكبة كرة القدم الحديثة، لكنه اكتسب احترامهم وثقتهم فيما بعد، مع حفاظه على شيء من المنطق أثناء صرفه تلك الأموال، وعدم اقتدائه بنماذج المستثمرين العرب والصينيين، وغيرهم ممن استحوذوا على الأندية، وصرفوا مليارات الدولارات لتحقيق لقب أو اثنين، لم تكن هي المطمع في الأساس، بل غطاءً لأغراض سياسية، باتت معلنة للداني والقاصي الآن.

لذا يمكننا أن نعدّ مشروع نادي نابولي مشروعا كرويا حقيقا، حاول مواكبة العصر، دون أن يُسقط هوية النادي وجماهيره، أو يغرق في غسيل الأموال، وغيرها من السياسات غير “النظيفة”.

على عكس قصة نادي نابولي، سنجد كثيرا من القصص لأندية أسقطت هويتها عمدا، في سباقها للحاق بركب كرة القدم الحديثة.

لم نعد نادي الشعب بعد الآن

إذا صدمتك العبارة الماضية، فدعنا نخبرك أنها تعود للأرجنتيني دييغو سميوني، مدرّب فريق أتليتكو مدريد الإسباني، الفريق الذي عُدّ تاريخيا “فريق الشعب”، في مواجهة فريق السلطة، ونادي العاصمة الآخر ريال مدريد، والذي بُنيت هويته وثقافة مشجعيه على ذلك.

 لكن سميوني، عندما سئل من قبل أحد الصحفيين عام 2019، عما إذا كان ما يزال يعتقد أن أتليتيكو هو نادي الشعب، أجاب بالقول: “لا ، ليس بعد الآن. اليوم لدينا ملعب استثنائي، العام المقبل سنفتتح مدينة رياضية، وهي ذروة ما يستحقه النادي، الآن فقط ينمو النادي بالتوازي مع نمو الفريق. كان نمو الفريق سريعا للغاية، ولم يتمكن النادي من مرافقته في بعض السنوات السابقة. ولكن الآن، مع وجود إدارة جيدة للغاية، هناك ملعب ومرافق رائعة، يمكننا شراء لاعبين، أمثال توماس ليمار أو جواو فيليكس”.

دييغو سيموني

رأى سيميوني أن نهج النادي الحالي، المتمثّل في شراء اللاعبين بمبالغ خيالية، وإنشاء ملعب للفريق وخلافه، أهم من فكرة أن النادي كان لعقود يمثّل البسطاء، والأولوية حاليا مواكبة عجلة الكرة الحديثة.

على غرار أتليتكو، يوجد كثير من الأندية، التي كانت لها هوية معيّنة، تخصّ الناس العاديين، ثم أصبح الاستثمار هو همها الأول والأخير. أقرب مثال ما حدث من استحواذ صندوق الاستثمار السعودي، منذ فترة قصيرة، على أندية جماهيرية في العالم العربي، مثل “الهلال” و”النصر” و”الاتحاد” و”الأهلي”.

.نهايةً، لم تعد كرة القدم لعبة الفقراء كما كانت، لكنّ الإنجاز الذي حققه فريق نابولي أعاد الحماس لكثير من عشاق كرة القدم حول العالم، وليس فقط لجمهور نادي نابولي، لأنه أعطاهم الامل بأن المنافسة ما زالت ممكنة، و”روح” كرة القدم لم تنته تماما. رغم هذا فلا يمكن لأحد التنبّؤ بمصير نادي الجنوب الإيطالي، هل سيكون إنجازه هذا مجرد استثناء، نتج عن “نموذج أعمال” غير متوقّع، وغير قابل للاستمرار؟ أم سيتحوّل بدوره إلى حوت مالي جديد، يدخل إلى نادي الكبار المحتكرين؟ أم ربما سيكون المستقبل للأندية الفقيرة، التي تستطيع تجاوز بلادة العملاقة، واهتماماتهم الاستثمارية، التي غالبا ما تكون اللعبة في ذيل قائمتها، وكذلك فسادهم غير المتناهي؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.