ديربي القاهرة: هل الانقسام بين الأهلي والزمالك مجرّد وهم؟

ديربي القاهرة: هل الانقسام بين الأهلي والزمالك مجرّد وهم؟

المكان هو أحد مقاهي القاهرة القديمة، وقد امتلأ عن بكرة أبيه بمشجعي النادي الأهلي، في انتظار فريقهم، الذي سيخوض نهائي دوري أبطال أفريقيا، أمام فريق الوداد المغربي.

تبدأ المباراة وسط دعوات جمهور الأهلي بحسم اللقاء من قلب القاهرة، قبيل لقاء العودة الصعب في المغرب. وبالفعل يُسجّل الأهلي هدفين متتالين، تتعالى معهما صرخات جمهوره الفَرٍحة. إلا أن الوداد يعود ليسجّل هدفا، وهنا تتعالى صرخات أخرى، فَرٍحة بدورها، إلا أنها ليست صادرة من جمهور مغربي، يحضر اللقاء في المقهى القاهري مثلا، وإنما من مشجعي نادي الزمالك، الغريم التقليدي للأهلي.

مشهد متكرّر عبر السنوات، ستشاهده ما أن تطأ قدماك القاهرة، وسيحكي لك آباؤك، وربما أجدادك، كثيرا من الحكايات المماثلة، عن الصراع المتأصّل بين جمهوري الأهلي والزمالك، والذي يبدو أحد أكثر الانقسامات عمقا وعراقة في العاصمة المصرية، ويتخذ أحيانا شكلا شديد العصبية، قد يصل لدرجة العنف اللفظي أو الجسدي.

سيجادل كثيرون بالطبع أنه مجرد “انقسام وهمي”، على قضية “سخيفة” مثل كرة القدم؛ أو ربما بما يخالف “الروح الرياضية” الحقيقية، التي يجب أن تقوم على المنافسة العادلة، واحترام الخصم، وتقبّل الربح والخسارة. إلا أن الانقسامات الكروية تبدو أكثر جديّة بكثير من مجرّد مشاجرات شبّان على هامش المباريات، إذ تعبّر في كثير من الأحيان عن انقسامات سياسية وطبقية وهوياتية، فيصبح تشجيع فريق من الفرق فعلا سياسيا واجتماعيا وثقافيا من الدرجة الأولى؛ كما أنه قد يصبح نمط حياة، وهوية واضحة للمشجعين، أقرب للهوية القومية.  

لكن هل يمثّل “ديربي القاهرة” الشهير، بين الأهلي والزمالك، هذا النوع من الانقسامات؟ أي هل يقوم فعلا على أسس سياسية وطبقية وثقافية بين القاهريين؟ هل للأهلاويين مصالح ورؤى ونمط حياة مخالف للزملكاويين؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا اختفى ذلك الانقسام والصراع في سنوات الثورة المصرية، التي شاهدنا فيها تجمّع روابط ألتراس الفريقين في صفٍ واحد أثناء التظاهرات؟ هل كان الصراع السياسي إبان الثورة أكثر “حقيقية” من الانقسام الحالي بين مشجعي الفريقين؟

الحرب المدينية: في “طبيعية” الانقسام البشري

في كتابه “أساسيات علم السياسة”، يخبرنا ستيفن تانسي، الأستاذ في جامعة بورتموث البريطانية، أن أحد التناقضات الكبرى، التي يهتم بها علم السياسة، هو “العلاقة بين الطبيعة البشرية والسياسة”. إذ رأى الفلاسفة، الذين يحسبون على اليمين، مثل نيتشه وهوبس دي مايستري، أن الصراع سمة أساسية من سمات البشر، مما يستوجب وجود دولة قوية لإحلال الأمن، وهذا جانب من جوهر أية ممارسة سياسية.

أما الفلاسفة المحسوبون على اليسار، فقد رأوا أن هنالك إمكانية للاتفاق والتعاون بين البشر، واعتبروا أن الصراع والانقسام ليس من طبيعتهم، وإنما شيء مكتسب، والسياسة يجب أن تقوم على تطوير عوامل التعاون والتواصل بين الناس، ونزع فتيل الصراعات، وهذا ما أكده كُتّاب كثر مثل تولستوي وتوماس مور.  

إلا أن المؤكّد أن الصراع بين البشر لم يتوقف يوما، وهو من أهم الظواهر في التاريخ الإنساني، إن لم يكن أهمها. عرف الناس ما لا حصر له من الانقسامات، سواء أقاموا في المنطقة نفسها، أو في مناطق متفرّقة. وهو ما يجادل فيه ستيفن تانسي، الذي اعتبر أن الصراع بين الناس في المنطقة الواحدة، وطبيعته وأشكاله، أمر حاسم في تحديد قوة ومدى سيطرة النظام السياسي، الذي يحكم أولئك الناس.

انبنت الانقسامات في عالم كرة القدم على كل العوامل المؤسِّسة للانقسام الاجتماعي والسياسي داخل البلد الواحد، ولذلك فإن السلطات السياسية اهتمت دائما بإدارة ذلك الصراع، أو قمعه، وفي أحيان كثيرة الاستفادة منه، وبالتالي فيمكن توقّع أن الانقسام بين الأهلي والزمالك في مصر قد يكون معبّرا عن انقسام عميق اجتماعي بين سكان العاصمة، تعاملت معه السلطات السياسية بأساليب مختلفة. إلا أن هذا يصعب إثباته فعلا، إذ من المتعسّر إيجاد فروق جديّة بين جمهور الناديين، بل كثيرا ما يخترق الانقسام سكّان المنطقة الواحدة، المتشابهين طبقيا وثقافيا، بل حتى أفراد الأسرة الواحدة، الذين قد يكون بعضهم من محبي الأهلي، وآخرون من المتعصبين للزمالك.

ما سر هذا الانقسام المستعصي إذن؟

الغسيل الرياضي: هل تغسل الدولة أخطاءها على المدرجات الفارغة؟

الصيف أفضل أم الشتاء؟ هل محبو مشروب العرقسوس في رمضان مجموعة من منعدمي الذائقة؟

كم مرة سمعت جدالا من هذا النوع في السنوات الأخيرة بين عموم الناس في مصر على منصات التواصل الاجتماعي؟

تظهر عشرات “الترندات” في مصر شهريا، وتصبح محل جدال بين رواد منصات التواصل الاجتماعي، مرة تكون عن أفضلية فصل ما على الآخر؛ وأخرى عن ممثل أو شخصية شهيرة على منصات التواصل؛ ومرات عن الرياضة، وبالتحديد عن كرة القدم.

يبدو أن هذه الانقسامات، التي تتفاوت درجة جديتها وعنفها، هي من آخر القضايا، “الآمنة” نسبيا، للجدل الاجتماعي المسموح به في مصر، بعد إغلاق المجال العام، والتضييق على النقاشات السياسية والثقافية الأكثر إشكالية. ولكن هل الانقسام بين الناديين القاهريين مجرّد محاولة من السلطة لإلهاء الناس؟

توجد بالفعل ظاهرة تُعرف بـ”الغسيل الرياضي”، ليس لها تعريف محدد إلى الآن، إلا أن هناك إجماعا واسع النطاق على عناصرها الأساسية: ظاهرة تٌستخدم فيها الرياضة، من قبل جهة فاعلة حكومية أو غير حكومية، لغسيل سمعة جهة ما.

الطريقة التي يتم بها استغلال الرياضة بهذه الطريقة غير محدودة نظريا، ولكن الأكثر شيوعا أنها تشمل استضافة الأحداث الرياضية، وامتلاك أو رعاية الفرق والمسابقات، لأغراض سياسية وإعلامية. يعمل “الغسيل الرياضي” على تعزيز شرعية بعض الجهات،  وحمايتها من العواقب السلبية لسلوكها، وغالبا ما يجذب قدرا كبيرا من الاهتمام النقدي، مما يثير أسئلة مهمة حول مدى الخطر الذي يمثله.

بدأ هذا المصطلح في الانتشار عام 2015، وتحديدا لوصف دولة أذربيجان، التي تمتلك ثروة بترولية كبيرة، وتاريخا في انتهاك حقوق الإنسان. في ذلك العام علمت أذربيجان على استضافة أحداث رياضية كبرى، لغسيل سمعتها أمام العالم، فسعت لاستضافة “أولمبياد أوروبا الجديدة”، وتنظيم مسابقات الفورمولا 1، إضافة إلى رعاية  نادي أتليتكو مدريد الإسباني، واستضافة نهائي بطولة دوري الأمم الأوروبية عام 2019 في العاصمة باكو، وكان هدفها من ذلك إلى إرسال رسالة للعالم، بأن الأمور فيها ليست سيئة للدرجة التي يتوقعها كثيرون.

في جنوب أفريقيا، بذلت حكومة الفصل العنصري مجهودات مماثلة، مثل استضافة سباقات الفورمولا 1 وغيرها، في ثمانينات القرن الماضي، وهو ما أثار حنق الشعب حينها. وهذا يجعل الأحداث الرياضية بمثابة فرصة للأنظمة، التي تمارس قمعا على النقاشات والانقسامات السياسية، سواء كانت بين فئات الشعب، أو حتى مع دول الجوار والقوى العظمى، والسبب هو أنه حين يتم الحديث عن القضايا المثيرة للجدل، خلال الإعداد لحدث رياضي ما، ينتقل التركيز حتما إلى الرياضة والتنظيم الرياضي، ولا يعود أبدا إلى القضايا الجدلية. يمكن ملاحظة ذلك في مونديال قطر الأخير لكرة القدم، ففي البداية كانت كل الأحاديث تدور عن قضايا شائكة، مثل انتهاكات حقوق العمّال، ومسألة رفع أعلام المثليين، وفي النهاية لم يعد أحد يتحدث سوى عن دراما المباريات، ومهارات ميسي، وأحقية الأرجنتين بالفوز باللقب.

الحجم الهائل لصناعة الرياضة، وقوة الأفراد المشاركين في غسيل الألعاب الرياضية، يمكن أن يجعلا المشجّع العادي يشعر بالعجز. ومع ذلك، جادل المختصون مؤخرا بأن نشاط المعجبين والرياضيين له دور مهم في مقاومة تلك الظاهرة.

يشرح المختصون أن فاعلية الغسيل الرياضي تكمن في قدرته على استخدام المشاعر القوية، والهويات المرتبطة بالرياضة، لتشتيت الانتباه عن أخطاء الدولة أو التقليل منها، وفصلها عن الحدث الرياضي، أو الفريق الذي يتم استخدامه من أجل هذا الغرض. إلا أن المشجعين والرياضيين قادرون على عكس ذلك التأثير، من خلال لفت الانتباه الى الانتهاكات، لا سيما من داخل الأجواء المشحونة عاطفيا في الملاعب، وبذلك فهم يقوّضون الفصل بين الحدث الرياضي والسياسات المرتبطة به، ويحدّون من قدرة الحدث على تشتيت الانتباه.

رغم هذا فمن الصعب القول إن الدولة المصرية المعاصرة تقوم بـ”الغسيل الرياضي”، لمداراة أخطاءها وانتهاكاتها، بل تتعامل مع الأحداث الرياضية بحذر شديد، وتسعى إلى إفراغها من مضمونها الجماهيري، عبر إفراغ الملاعب من مشجعيها، وربما يكن سبب ذلك في تجربتها القاسية مع روابط الألترس، إبان ثورة يناير عام 2011

ثورة “أبطال الملاعب”: في العجز عن تسمية العدو

كانت روابط الألتراس المصرية نموذجا مثاليا لمواجهة ظاهرة “الغسيل الرياضي”، فقد شاركت بفعالية في القضايا السياسية والحراك المجتمعي، وتصدّرت مواجهات ثورة يناير الأكثر أهمية.

ساهمت تلك الروابط في انتصار الشعب المصري على طغيان جنود الأمن المركزي، لأول مرة منذ أكثر من ستين عام. بل كانت الفئة المنظمة الوحيدة التي استطاعت فعل ذلك، بعد أن عجزت عنه التنظيمات السياسية بمختلف أيديولوجياتها.

لم تكن الثورة المصرية هي الثورة الوحيدة في المنطقة، التي لعبت فيها روابط الألتراس دورا محوريا، بل سبقتها روابط الألتراس في تونس، وكذلك الحال في ليبيا. وسقط العديد من أعضاء تلك الروابط في المواجهات الدامية مع الأنظمة.

ضحدت جماعات الألتراس، واتحادها بما يتجاوز الحساسيات الكروية إبان ثورة يناير، نظريةَ روجتها الأنظمة المتعاقبة في مصر، وهي أن الصراع بين جمهوري الأهلي والزمالك هو الانقسام الوحيد المتجذّر بين عموم فئات المجتمع. لكن هل يعني ذلك أنه عندما يزداد زخم الأحداث السياسية تختفي الانقسامات بين الشعب المصري، وتصبح المواجهة فقط بين نظام قمعي ومعارضة شعبية؟

بعد اندلاع ثورة يناير، خرجت الحياة السياسية في مصر من حالة الانسداد والجفاف، التي طبعتها طيلة العقود الماضية، وفٌتحت أبواب المشاركة السياسية أمام ملايين المصريين، لتدخل مصر مرحلة التحول الديمقراطي، التي تنتقل بموجبها من النظام السلطوي إلى النظام التعددي، القائم على المشاركة، والمنافسة الديمقراطية، والتداول السلمي للسلطة، عبر الانتخابات الحرة النزيهة.

قبل الثورة، ولعقود طويلة، لم يكن هناك مجال للشعب المصري كي يمارس حياة سياسية سليمة، وبالتالي كي تكون انقساماته مبنية على أسس أيديولوجية وسياسية واضحة. إلا أنه بعد الثورة طُرحت كافة القضايا الإشكالية على طاولة البحث، وصار بالإمكان معالجتها بكل جرأة وصراحة. هنا تراجعت بالفعل الانقسامات الكروية، إذ انشغل المشجعون بمواجهة القوى السلطوية، التي تسعى لانتزاع حريتهم الوليدة، وحرية عموم المصريين.

بدا آنذاك أن الأحزاب السياسية، ذات البرامج والأهداف الواضحة، هي من سيلعب الدور الأساسي لإدارة الانقسامات والخلافات بين الشعب المصري. وللأحزاب السياسية جذور عميقة في تاريخ مصر الحديث، إذ نشأت وتطوّرت بتطوّر مفهوم الدولة ذاته، مع نهاية القرن التاسع عشر، ثم برزت وتبلورت بعد ذلك خلال القرن العشرين، والعقد الأول من القرن الحالي، انعكاسا للتفاعلات والأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة. ويكاد يكون هناك إجماع عام، بين الكُتّاب والمحللين السياسيين والمؤرّخين، على أن نشأة الأحزاب السياسية، وتطورها في التاريخ المصري، مرّ عبر مراحل متمايزة، منها مراحل كانت فيها مؤثّرة وفاعلة في المشهد السياسي؛ وأخرى أُلغي فيها النشاط الحزبي من الأساس؛ إلى أن تنفّس الشعب المصري نسيم الحرية، عقب انتفاضته ضد الاستبداد والحكم السلطوي، وأصبح هناك انقسامات واضحة، مثلما يحدث في كل دول العالم الديمقراطية، والتي تتمكن شعوبها من تحديد مصيرها بأنفسها.

لكن هل ينفي ذلك أهمية الرياضة؟ ويدعو إلى اعتبارها مجرد انفعالات وهمية، يجب أقصاؤها من الحياة السياسية الصحية؟

لا بالتأكيد، فكثيرا ما تكون الانقسامات الرياضية تعبيرا عن حالة احتقان ورفض وتمرّد على حالة سياسية مستعصية، لم يعد من الممكن إيجاد أية حلول لها، أو آفاق لتغييرها. ويمكن أن نرصد ذلك حتى في بعض الدول الديمقراطية، التي لم يعد الناخبون فيها يجدون فائدة كبيرة من انتخاب هذا الحزب أو ذاك، فيعبّرون عن غضبهم في المناسبات الأكثر التصاقا بحياتهم اليومية، ومنها المناسبات الكروية، وهم بذلك يحتجّون على أوضاع طبقية أو سياسية أو ثقافية ظالمة، أو غير معبّرة عن طموحاتهم الفعلية.

 في الحالة المصرية لم يعد توجد حياة سياسية، ذات أفق ثوري متفائل، فيما تحاول السلطة قمع كل منافذ التعبير الجانبية، بما فيها الروابط الكروية، وهذا يؤدي إلى احتقان اجتماعي كبير، لا يجد أي أسلوب للتعبير عن نفسه، ولا يمكن توقع اشكال انفجاره المستقبلية. بهذا المعنى فإن الانقسام الحالي بين الأهلي والزمالك؛ محبي الصيف والشتاء؛ شاربي العرقسوس وكارهيه، ليس إلا تعبيرا عن حالة من الكبت، تُنتج تعبيرات غير مفهومة، وشديدة العبثية.

لا يتصارع الأهلاويون والزملكاويون لأنهم من طبقات أو مناطق مختلفة، أو لأنهم يتخذون مواقف سياسية متمايزة، بل لمجرد أنهم غير قادرين على الإشارة إلى ما يثير غضبهم، ويعكّر حياتهم فعلا. لا خصم حقيقي يمكن تسميته، ولا حليف فعلي يمكن الوثوق به، ولا أفق معلوم للتغيير، كما أنه لا مجال لخلق هوية مستقلة، حتى على مدرجات الملاعب. فالأسهل إذن ملاحقة كل “تريند” جديد، ومشاركة “الميمز” و”البوستات”، التي “تحطّ” على من يشبهوننا في خيبتهم، أي أنصار “الفريق الآخر”.   

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.