“العرق المصري”: هل يمكن “حماية” هوية مصر من العرب والأفارقة؟

“العرق المصري”: هل يمكن “حماية” هوية مصر من العرب والأفارقة؟

يبدو أن سؤال الهوية العرقية القومية في مصر يأخذ حيزا متصاعدا من النقاش والجديّة، بدعوى الدفاع عن تاريخ الأجداد وحاضر الأحفاد. ويتم إعادة طرح مفهوم “الأمة”، بوصفها هوية عرقية حصرية لمكوّن واحد، ممتد عبر تاريخ مشترك ومستمر، وتحتوي على عناصر التفرّد، التي تعطي للأمة أصالتها وتفوقها. وقد بلغت أهمية سؤال الهوية في مصر حاليا درجة أنه طُرح في جلسات “الحوار الوطني” بين السلطة والمعارضة.

من الناحية الظاهرية، يتزامن طرح مسألة الهوية العرقية المصرية، على نطاق أوسع من المعهود، مع تصاعد “سياسات الهوية” حول العالم، وخاصة في الولايات المتحدة الأميركية. ويتصاعد مع كل “تريند” جديد على وسائل الإعلام ومواقع التواصل. إذ ازداد الحديث مؤخرا عن حركة “الأفروسنترك”، التي تريد “سرقة” التاريخ المصري، بالأخص مع حديث الممثل الأميركي كيفن هارت عن دور السود في الحضارة المصرية، وعرض منصة نيتفليكس لفيلم وثائقي، أظهرت فيه الملكة كليوباترا ببشرة سمراء. ما أثار غضبا لدى قطاع من المصريين، اعتبر أن ما ستقدمه نيتفليكس ليس مجرد ادعاء زائف حول التاريخ، بل مؤامرة غرضها تفتيت الهوية المصرية. تزامن هذا مع عديد من التعليقات العنصرية ضد الأفارقة، مما غذى خطابا يمينيا قوميا، شجب استقبال اللاجئين السودانيين في مصر. يبدو أن الهوية المصرية حاليا تسعى لتمييز نفسها عن دائرتين أساسيتين: الأفارقة والعرب، على أساس وجود عرق مصري، ذي خصائص وسمات مميزة، واستمرارية لم تنقطع منذ أكثر من سبعة آلاف سنة.

باختصار يبدو أن أيديولوجيا “العرق المصري” تتحدد في نطاقين: أولهما فصل الهوية المصرية عن امتدادها الهوياتي المتنوّع، سواء الهوية العربية أو الهوية الأفريقية؛ أما الثاني فهو الحديث عن وجود “جين المصري”، يدفع إلى القول بنقاء عرق المصريين. يظهر هذا مثلا في تصريح عالم الأثار والمصريات زاهي حواس بأن المصريين ليسوا أفارقة، في رده على طروحات الفيلسوف السنغالي انتا ديوب، في كتابه “الأصولُ الزنجية للحضارة المصرية القديمة”، كما أنهم ليسوا من نسل حام وسام، طبقا للرواية التوراتية.

ولكن ألا يبدو استدعاء العرقية لبناء هوية مصرية ادعاءً فات زمانه؟ هل مازالت العرقية، من ناحية أنثربولوجية وبيولوجية وسيسيولوجية، صالحة لتعريف الهوية؟ وكيف تشكّلت الهوية المصرية المعاصرة؟ وما الأسباب السياسية والاجتماعية والأيديولوجية لانتشار الدعاوى العرقية في مصر؟

الجين الكيمتي: على أي علم يقوم “العرق المصري”؟

يجادل البعض، ممن أطلقوا على أنفسهم اسم “الكيميتين”، نسبة لاسم أرض مصر القديمة، بأن المصريين الحاليين يتشاركون عرقا خاصا بهم، إلى حد الإدعاء بوجود نقاء عرقي مصري، متصل بقدماء المصريين مباشرة. أي أن تعريفهم للهوية عرقي أكثر من كونه ثقافيا أو سياسيا، بدلالة متصلة بالبيولوجيا، مع أن هذا التصور قد تجاوزته معظم الدراسات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فضلا عن أن إقامة هوية وطنية/سياسية على أسس “طبيعية” من أكثر الخطابات الأيديولوجية تبسيطا.

قد يُقال إن مفهوم الأعراق له وجاهة في تصنيف للأمم البشرية، إلا أن أغلب الأنثروبولوجيين الاجتماعيين اتفقوا على أن التصنيفات الهوياتية تقوم على مستويات رمزية واجتماعية، في سياق سعي الجماعات البشرية لتقليل تعقيد العالم اللامحدود حولها، وتمييز الأنا عن الآخر (1). إلا أن نشأة مفهوم الأعراق الحديث، والممارسة المبنية عليه، لم يكونا متعلّقين بالفئات التصنيفية وتخفيف التعقيد، بقدر ما تعلّقا بإنشاء تدرّجات هرمية سلطوية، في مجتمعات حديثة، متنوّعة عرقيا وثقافيا.

يمكننا أن نفهم سياق مفهوم “العِرق”، الذي يقوم بتصنيف البشر تبعا لعوامل بيولوجية، من خلال تتبع نشأته تاريخيا، إذ نجد أن العالم القديم، رغم وجود التمايز والتنوّع بين شعوبه المختلفة، لم يعرف ذلك المفهوم. ويردّ المؤرخون نشأة المصطلح إلى أواسط القرن الرابع عشر، مع التوسّع الاستعماري، وتصاعد عمليات الهجرة والاستيطان الأوروبي في أرجاء العالم، وتوسّع تجارة العبيد، وصولا إلى الثورة الصناعية.

وطبقا لعالم الاجتماع البريطاني أنتوني غدنيز، بدأت المحاولات النظرية العلمية حول العرق بالظهور أواخر القرن الثامن عشر، وكانت بجملتها محاولة لتبرير النظام الاجتماعي القائم، بعد هيمنة الاستعمار الأوروبي على العالم. وهكذا قسّم الكونت جوزيف آرثر غوبينو” (1816-1882) الشعوب إلى ثلاثة أعرق: أبيض قوقازي؛ أصفر منغولي؛ أسود زنجي. ونُسب للعرق الأبيض عادة التفوّق في الذكاء والسمو الحضاري.

استمرت تلك النظريات العرقية سائدة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، ولعبت دورا أيديولوجيا كبيرا في تبرير المجازر الهائلة، التي ارتكبتها النازية والفاشية. اما بعد مآسي الحرب فلم تعد المسألة العرقية تُطرح بجدية، واعتُبرت “علما زائفا”، وبات السائد في النظرة العلمية، بين الأنثربولوجيين والمؤرخين، أن الأعراق اختراع بشري حديث، وليست أكثر من بناء اجماعي/أيديولوجي، ولا تمّثل أي وحدات بيولوجية.

وبما أن التيار “الكيمتي”، الموجود حاليا في مصر، يتبنّى مفهوم الهوية العرقية بالمنظور القديم، فإن العنصرية حاضرة ومتشابكة بطروحاته بالضرورة، خاصة مع سعية لإحياء أسطورة “الأصل المشترك النبيل”، الذي يغذّي الشعور بالتفوّق والعظمة. وذلك يرجع بالأساس إلى غياب المعالم الأساسية للهوية المصرية القديمة عن اللغة والدين والسياسة والاجتماع المصري المعاصر، لذا كان الحديث منحصرا حول سمات لون البشرة والأصل الجيني، لتبرير فصل المصريين عن محيطهم العربي والإفريقي، الأكثر تأثيرا في حاضرهم.

الملفت أن تاريخ مصر القديمة نفسه لم يكن بمعزل عن محيطه، بل تداخلت به كثير من الحضارات الأخرى، عن طريق الغزو والهجرات، بدايةً من الهكسوس، مرورا بالأمازيغ الليبيين والآشوريين والكوشيين السودانيين والفرس واليونانيين والرومان، وصولا للعرب والأتراك والبريطانيين.

يمكن القول إن النظرية العرقية عادت مؤخرا في أيامنا من باب غير متوقّع، وهو التطورات في أبحاث الجينات وعلم الوراثة، التي استغلها عدد من الأيديولوجيين العنصريين، للحديث عن عوامل جينية تميّز الأعراق المختلفة. إلا أن الحديث عن النقاء الجيني محض خرافة لا تمت للعلم بصلة، كما يؤكد كثير من المختصين في علم الجينات، فتبعا لمفهوم “التدفّق الجيني” Gene flow تقوم كل المجموعات البشرية على التشابهات والاختلافات في الصفات والسمات، التي تورّث وتنتقل فيما بينها (3). أما مفهوم “الحوض الجيني” Genetic diversity فلا يتحدث عن خصائص عرقية عامة ومشتركة بين المجموعة العرقية المفترضة، كما يدّعي أنصار العرقية المعاصرون، وإنما عن مجموع المواد الجينية لجماعة من الكائنات الحية، في وقت معين ونطاق جغرافي معين. لذا فإن الرأي العلمي يؤكد أنه لا يوجد أساس للتصنيف الاجتماعي العرقي (5).

وبناءً على الفهم العلمي المشار إليه، فإن الحديث عن “جين مصري” ليس أكثر من خرافة أيديولوجية. أما  القول بالنقاء العرقي المصري، من خلال مقارنة جينات المصريين الحاليين بجينات المومياوات القديمة، فلا معنى له، وفق الدراسة التي نشرتها دورية Nature Communications، الصادرة عن مجلة Nature، وهي من أهم الدوريات العلمية المُحكّمة على مستوى العالم، والتي قامت بفحص جيني لعدد من المومياوات، في فترات من عصر المملكة المصرية الحديثة، وعهد البطالمة، وعهد الرومان، متوصلةً إلى وجود تدفقات بشرية عديدة، عبرت من الشرق وبلاد الشام والجنوب الافريقي إلى مصر، والمفارقة أن المومياوات المدروسة كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بالأوروبيين والأناضوليين القدماء، أكثر من ارتباطها بالمصريين المعاصرين.

من هنا يمكن القول إن كل إدعاءات العرقية القومية، سواء كانت إفريقية أو مصرية، لا تقوم على أي أساس جيني. أما إذا تناولنا مفهوم العرق من الجانب الثقافي أو الاجتماعي، فسنجد إختلافات واسعة بين الأنثروبولوجيين، حول التحديد الثقافي للجماعة العرقية. وما قد يكون ملائما للحالة المصرية هو ترجيح أن التفاعل والتنظيم الاجتماعي، المتراكم عبر عصور مختلفة، أكثر أهمية في تحديد “عرق المصريين” من الجانب الثقافي البحت، وهو الذي يرسم الحدود بين الجماعات المختلفة، بحسب ما يرى الأنثربولوجي النرويجي توماس هايلاند إريكسن، في كتاب “العرقية والقومية”.

ولكن من أين جاء كل هذا الهوس بالتاريخ الفرعوني، بوصفه مؤسسا لـ”هوية مصرية”؟

بعث “كتاب الأموات”: هل كان آباء الهوية الفرعونية “كمتيين”؟

منذ بداية القرن الرابع الميلادي، أي منذ إصدار الإمبراطور البيزنطي ثيودوسيوس مرسوما بإغلاق معابد الديانات المصرية والوثنية، وأيضا مع إجراءات الامبراطور جستينيان في القرن السادس الميلادي، اجتُثت الطقوس والكتابات المصرية القديمة، وظل التاريخ المصري القديم غائبا عن جموع قاطني المحروسة، إلى زمن الحملة الفرنسية، واكتشاف حجر رشيد، ومن ثم نشوء علم المصريات، الذي بعث التاريخ المصري القديم من تحت الركام.

ومع دخول مصر طور الدولة الحديثة، وتنامي الحس القومي للأمة في أوائل القرن العشرين، برزت أيديولوجية مصر الفرعونية، بالتزامن مع اكتشاف قبر توت عنخ آمون عام 1922، الذي أبهر الجميع، فانتشر الحديث حول الهوية الفرعونية لمصر، التي تعزز طموح الأمة المصرية في النهضة والاستقلال. وكان من أول الأحزاب المصرية المتبنّية للهوية الفرعونية حزب “مصر الفتاة”، المتأثر بالأيديولوجيات النازية والفاشية السائدة آنذاك، ومن ثم انتقل للأيديولوجيا الإسلاموية.

بكل الأحوال مثّلت فترة سقوط الخلافة العثمانية، والنضال من أجل الاستقلال الوطني، سياقا مناسبا في بناء سردية عن الهوية الفرعونية، التي اعتبرت أن أهل مصر المعاصرون هم الورثة الشرعيون للسكان الأصليين القدامى، فكان البحث عن التواصل مع الماضي ضرورةً في تحديد الهوية الأساسية للأمة، الساعية للاستقلال والبناء. ولم تكن الأزمة حينها في وجود الهوية العربية والافريقية، إذ غلب على دعوة الفرعونية محاولة معرفة التاريخ، والايمان بالقدرة على صناعة الحاضر. وذلك ما عبّر عنه طه حسين: “تفخر بما يدعو منه إلى الفخر، وتألم بما يدعو منه إلى الألم، وتعتبر بما يثير منه العبرة، وتنتفع بما يمكن أن يكون مصدرا للنفع”.

حمل مثقفو ذاك العصر الهوية الفرعونية، بدون أن تكون متعارضة بالضرورة مع الهوية الإسلامية والعربية، وخاض آباؤها الروحيون، مثل طه حسين وسلامة موسى وحسين هيكل وأحمد لطفي السيد، كثيرا من الحوارات والجدالات الثقافية الثرية، التي طبعت الثقافة المصرية الحديثة، لدرجة أن نشأة نجيب محفوظ كانت في رحاب دعوة إحياء الفرعونية، فقد ترجم كتاب “مصر القديمة” لجيمس بيكي وهو طالب في كلية الآداب، وكانت من أوائل أعماله الأدبية ثلاثية “عبث الأقدار” و”رادوبيس” و”كفاح طيبة ” (1939 – 1944)، التي تأثرت بتاريخ مصر القديم وحضارتها. وتُنسب لمحفوظ مقولة “مصر ليست دولة تاريخية. مصر جاءت أولا ثم جاء التاريخ”، التي أصبحت قولا مأثورا لدى الدولة المصرية.

رغم ذلك كان تأسيس الدولة المصرية المعاصرة على يد جمال عبد الناصر، الذي ارتكز على أن مصر كينونة لها بعد جغرافي وتاريخي، وجزء من دائرتين، تتشارك معهما الثقافة والأمن الجيوسياسي، وهما الدائرتان العربية والإفريقية. لذلك اعتمد عبد الناصر المشروع القومي العربي، ما  جعل هوية الدولة المصرية “فرعونية بالجد، ولكنها عربية بالأب”، بحسب المفكر المصري جمال حمدان، في كتابه “شخصية مصر”.

بعض أفلام تلك الحقبة، مثل فيلم “المومياء” (كتابة وإخراج شادي عبد السلام عام 1969)، عرضت أزمة ضياع الهوية المصرية، وتشتت أبنائها في الحاضر، إذ يبدأ الفيلم بترديد نصوص من كتاب الموتى: “اعطني اسمي في البيت الكبير، واعد إليّ الذاكرة. اسمي يوم أن تحصى السنين… يعيد الميت أن يتذكر اسمه، ضياع الاسم يساوي ضياع الشخصية”.

تلك النصوص الجنائزية هي دليل للميت في العالم الآخر، لكي يتذكّر اسمه وشخصيته. وفي الفيلم يتلو شادي عبد السلام النصوص على الأمة المصرية، ليذكّرها بهويتها المفقودة، التي يجب أن تُبعث من الموت، وتسترجع اسمها. ويقدّم شخصية “ونيس”، التائه والحائر، الذي لا يعرف قيمة الأثار والمقابر الماثلة أمام ديار عشيرته، ولا يرى من فيها سوى موتى مجهولين، إلى أن تقوده الأحداث للبحث عن هويته الضائعة، وإلى اكتشاف اسمه وشخصيته.

هكذا عبّر الفيلم عن الأمة الضائعة، التي تجهل أنفسها وهويتها، وكان دعوة للرجوع للأمجاد، أو معرفة التاريخ الفرعوني، بوصفه الهوية الأصيلة.

تراجعت كل هذه الأفكار مع ما عُرف بـ”الصحوة الإسلامية” في نهاية السبعينات، والتي لم تعترف لمصر إلا بالهوية الإسلامية. إلا أن ثورة يناير عام 2011، والاضطراب الاجتماعي الكبير الذي عرفته البلاد، جعل أسئلة الهوية تعود من جديد، خاصة مع حديث كثيرين عن سقوط “الصحوة” نتيجة الربيع العربي.

موكب المومياوات: هل ستنفعنا التعاويذ المصرية؟

مع انحسار الثورة المصرية، وغلق المجال السياسي والاجتماعي بداية من عام 2013، سقطت كثير من الآمال الثورية الكبرى في التغيير الاجتماعي والسياسي، وانتشرت الثقافة الانهزامية، وتعددت المآلات، إما بالانعزال عن المشهد السياسي برمته، أو بالفرار إلى حصن الهويات الماضوية. تمثّل هذا في خطين أساسيين: الاستقطاب تجاه الحاضنة الاسلاموية بأنواعها، الذي راج بين عديد من الشباب المحافظين وغير المتأدلجين؛ أو الارتماء في أحضان السلطة الجديدة، التي أحيت “الدولة الوطنية” بنظر المتحمسين لها، وكان الفخر بالهوية المصرية القديمة جزءا من هذا “الإحياء”.

ومع سقوط كل مشاريع الإسلام السياسي، داخل مصر وخارجها، ساد فراغ كبير، في ظل غياب الحياة المدنية برمتها، وتعزز القبضة السلطوية. وفي هذا الشرط استمرت بذور هوية الانتماء الفرعوني تنمو وتترعرع داخل سردية “الجمهورية الجديدة”، فنزعت الإدارة السياسية إلى الاحتفاء بمشاريع إحياء الهوية المصرية والاهتمام بالأثار، مثل احتفالية طريق الكباش، وموكب نقل الموميوات.

تبلّور التيار “الكيمتي” في مساحة آمنة تحت رعاية أمنية، ولم يرتبط بحركة اجتماعية أو ثقافية، تحاول إعادة إحياء التراث المصري القديم كي تنهض بالحاضر، كما حدث في النصف الأول من القرن الماضي، بل كان مفرغا من كل بعد سياسي أو اجتماعي، وكأن الحل السحري هو العودة إلى ثقافة مصر القديمة، عبر نبذ كل تعددية، وإنكار كل هوية مغايرة للبلد.

يبدو حضور “الكيمتية” المتخيّلة، في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية الحالية، أشبه بتلفيق أيديولوجيا غير متقنة، في شرط انحدار ثقافي وسياسي عام. إنها “هوية ولاء وانتماء، بدلا من أن تكون هوية إنجاز وبناء”، على حد قول المفكر اللبناني مصطفى حجازي، في كتابه “الانسان المهدور”. 

وفي ظل تصاعد سياسات الهوية عالميا، تشكّل الأيديولوجية الكيميتة بوادر نشأة تيار يميني قومي شعبوي في مصر، يقوم على رفض الهوية العربية والافريقية، من منظور فوقي، مما يؤجج الدعوات العنصرية، مثل التي تصاعدت مع توافد اللاجئين السودانيين. فبعد زوال خطر الإسلاميين، الذين لم يعودوا ينفعون عدوا متخيلا، وشمّاعةً لتعليق الأزمات، بات لا بد من اختراع أعداء جدد لـ”الأمة”: اللاجئون، الأفروسنتريك، الخ.

ومثلما يحدثنا الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني، في كتابه “الهجرة إلى الإنسانية”: “ربما يكون الكره مجرد إعادة تشغيل لانفعالات حزينة عاطلة عن العمل، انفعالات تعاني من نفسها، من سآمة ما وفشل ما”. هكذا تتحول خيبات الهزيمة إلى كره وعصبية، فإذا لم يوجد عدو، فما عليها إلا اختراعه، لتجنّب الأسئلة الأساسية عن أسباب الفشل والأزمات.

عالم بلا مراكز: الحياة في عصر الهويات الهزلية

قد يكون الرد الأبسط على كل هذه الدعوات الأيديولوجية غير المتقنة هو التذكير بأبسط الحقائق المعروفة والموثّقة: جميع الشعوب في العالم تعود إلى أصل مشترك، هو “الإنسان العاقل” Homo Sapiens، وتاريخ الحضارات والمعرفة هو تاريخ تلاقي وتراكم خطّي. تتعدد مراكز الحضارة وتتنقل تبعا لحركة التاريخ، وليس بناء على هويات متفوقة، وأخرى منحطة.

دائما ما ارتبطت العنصرية والعرقية مع سرديات المراكز، إذ قدّمت المركزية الأوروبية، أهم تلك السرديات، إطارا عاما، قام على فكرة المعجزة الاغريقية، التي صاغها المفكر الفرنسي إرنست رينان (1823-1892)، والتي ادعت نسبة كل العلوم والفلسفة إلى العقل الأوروبي، في إقصاء واضح لأصالة علوم الحضارات القديمة، مثل مصر وبابل وفارس وآشور وفينيقيا، وتأثيرها على اليونان. وعلاوة على ذلك، فقد حملت تلك الأيديولوجيا مفهوما عن تفوق العرق الآري.

اليوم يبدو العالم بلا مركز، ولا توجد إلا ادعاءات هوياتية متهافتة وغير متقنة، مثل الأفروسينترك أو الكيمتية، والتي ربما لا يأخذها كثير من أنصارها على محمل الجد،  ولا تعبّر إلا عن أزمات الحاضر على كل المستويات. إلا أن استدعاء هويات محنّطة أو بعد حداثية لا يمكن أن يكون الحل لواقع مأزوم، وربما كان الأجدى الوعي بواقع الاجتماع وحركته، إذ أن ذواتنا الفردية والجماعية تتشّكل عبر التفاعل الاجتماعي مع الاخرين، والأزمات تكمن في هذا التفاعل وتلك الحركة، وليس في العمق الجوهري للهوية.

وإذا كان لا بد من مناقشة الهوية المصرية، فربما كانت أحجية “سفينة ثيسيوس” تدريبا ذهنيا مسليا بهذا الخصوص: إذا تم الاستبدال التدريجي لكل خشبة مكونة للسفينة بخشبة أخرى، فهل تبقى السفينة هي نفسها بالنهاية؟

مصادر:

(1)- الأعراق البشرية: هل نحن حقًّا على هذا القدر من الاختلاف؟، آلان إتش جودمان، جوزيف إل جونز، وويولاندا تي موزِس، مؤسسة هنداوي.

(2)- مفاهيم أساسية في علم الاجتماع، أنتوني غيدنز – فيليب صاتن، المركز العربي للأبحاث.. أنظر أيضا؛ العرقية والقومية (وجهات نظر أنثروبولجية)، هايلاند إريكسن، عالم المعرفة.

(3)- https://www.sciencedirect.com/topics/agricultural-and-biological-sciences/gene-flow?fbclid=IwAR18ERN8rOKFcX8XWvaFCjVkS71Mt6nL-vyQwURQf1TJOqhvqeuhd7hyJ_Q#:~:text=Gene%20flow%20is%20also%20called,transfer%20from%20parent%20to%20offspring


(4)- https://imet.usmd.edu/activities/what-genetic-diversity

(5)- (Zack 2002, 88).، العرق موسوعة استانفورد: https://hekmah.org/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D9%82/

(6) https://www.nature.com/articles/ncomms15694?fbclid=IwAR2BvJGa5rKhluEq6UnjK1h-kVNhW8iZge7APsooqyLc99_ha5kHJFxnuwI  انظر أيضا: https://www.nature.com/articles/546017a