عرفت مصر، في العقد الأول من الألفية الحالية، وسائل جديدة لتغطية الأحداث ونشر الأخبار عبر الإنترنت، كان على رأسها المدونات، وبعدها فيسبوك وتويتر. فبات باستطاعة مواطنين، وبينهم حقوقيون ونشطاء، سواء في الملف السياسي أو المجتمعي والنسوي، إعلان آراء ومواقف لم يكن ليُسمح بظهورها في وسائل الإعلام، التي كانت تتبع الأجندة الرسمية للدولة، وأغلبها يُمهّد لتوريث الحكم في عائلة مبارك. كثيرون يرون أن تلك الوسائل الجديدة مهّدت للثورة على النظام المصري، فضلا عن كونها لعبت دورا كبيرا في تغطية أحداث الثورة.
منذ ذلك الحين، أصبحت “الوسائل الجديدة” ذات مصداقية لدى البعض، ومحلّ هجوم لدى البعض الآخر، للسبب نفسه، وهو المساحة التي تُتيحها لمستخدميها لصناعة وبثّ محتوياتهم الخاصة؛ التي يراها المؤيدون حُرّية، ويعتبرها الخصوم فوضى. ورغم مرور الأعوام، وتغيّر الأنظمة السياسية، وكثير من الظروف الاجتماعية في مصر، ما يزال الجدل نفسه مستمرا. ولكن مع فارق مهم: لم يعد “الناشطون” على تويتر والمدونات هم من يثيرون الجدل، فهؤلاء غلبهم التعب واليأس، أو غيّبتهم السجون؛ وفي الصدارة الآن نوع جديد من “صانعي المحتوى”. إنه عصر “التيك توكر”.
وعلى الرغم من أنه يصعب رصد أي نشاط سياسي واضح على تطبيق “تيك توك”، على خلاف ما سبقه من مواقع وتطبيقات، إلا أن مجرّد ذكر اسمه يثير كثيرا من السجال، وربما الرعب، في مصر، وكأنه تهديد للنظام السياسي والاجتماعي القائم.
من المعروف أن التطبيق الصيني، الذي انطلق عام 2016، تلقّى كثيرا من الانتقادات والاتهامات، مثل عدم التزامه بالمعايير الأساسية لحماية البيانات؛ وآثاره السلبية على المراهقين، إلا أن الغضب المصري لا يبدو معنيّا بكل هذا، بل يهتمّ بأمور أكثر “محلية”. ما المشكلة حقا مع “تيك توك”، إذا كان تطبيقا غير مسيّس، والاعتراضات عليه “قضايا عالم أول”؟
بعد بحث طويل في المحتوى المصري الضخم على “تيك توك”، وقراءة في الاعتراضات الكثيرة على التطبيق، يبدو أن ما يزعج المعترضين، ويدفعهم لدقّ ناقوس الخطر، ليس السياسة أو الثورة أو الأمن الرقمي، بل هاجس آخر، يمكن تلخيصه بكلمة واحدة: النساء!
التطبيق سريع النمو والانتشار أتاح للنساء أن يظهرن، يفعلن ويقلن أشياء غير “مباحة” لهن في المجال العام، سواء إن استخدمنه في طرح قضاياهن بصورة خفيفة ساخرة؛ أو حتى لمجرد الظهور وهن يمرحن ويرقصن؛ أو يبدين جنسانية لا تتفق مع “القيم”. وهذه الأفعال البسيطة جعلت اسم “تيك توك” مقترنا بقضايا رأي عام، تدخّلت فيها كل السلطات، المجتمعية والدينية والقضائية، لنرى بالنتيجة عددا من النساء والفتيات مدانات بارتكاب “أفعال فاضحة”، بعد أن أثرن “الغضب المجتمعي”.
بهذا المعنى فإن “تيك توك” سياسي جدا في مصر، مثل أسلافه من التطبيقات الشهيرة، فيس بوك وتويتر والمدونات، إلا أنه لا يمكن فهم “سياسيته” إلا بالتعريف النسوي، أي تقاطع كل السلطات على الجسد الأنثوي، لتصبح كل خصوصية من خصوصيات هذا الجسد، وكل ما هو شخصي فيه، قضية سياسية. فهل بات “تيك توك” المساحة الأخيرة لنساء مصر، وسط ظرف اجتماعي وسياسي شديد القسوة، يعمل على حصارهن؟ وكيف تتبدّى سياسات “تيك توك” بالفعل؟
هروب من الواقع
أظهرت دراسة، صادرة حديثا عن مؤتمر طلّاب جامعة “كيرتن” الاسترالية، بعض أسباب تفاعل المستخدمين مع تيك توك، ليُحقق نموه السريع، كان أبرزها “هروبهم من الملل والحياة الواقعية، غير الراضين عنها، إلى حياة أخرى، يشعرون فيها بالحرية، عبر فيديوهات قصيرة تُحسّن مزاجهم فورا”. وتمثّل النساء، عالميا، أغلبية هذا الجمهور، بنسبة بلغت 57 بالمئة في نهاية عام 2022، مقابل 34 بالمئة من المستخدمين الرجال.
وبعد عام من انطلاق “تيك توك”، أفادت دراسة أخرى، صادرة من جامعة “أم البواقي” الجزائرية، حول النساء ووسائل الإعلام الحديثة، بأن النساء “بوصفهن إحدى الفئات المُهَمّشة، تمكّن من التعبير بكل حرية عن قضاياهن وتطلعاتهن وانشغالاتهن في العالم الافتراضي، وقد صار لديهن قنوات أكثر انتشارا وأقل تكلفة ورقابة وسلطة ذكورية”. وانتهت الدراسة الجزائرية إلى أن العالم الافتراضي “أثبت نجاحه في مناصرة المرأة”.
لو أمكن تعميم هذه النتيجة على المستوى العربي، فيمكن القول إن كثيرا من المصريات حاولن خلق محتوى خفيف خاص بهن عبر “تيك توك”، ليتمكّن من التعبير عن أنفسهن. فخلال دقائق يمكن لأي فتاة أن تَظهَر للمشاركة في تريند، تعبّر فيه عن رأيها حول مسودة قانون ستطالها أحكامه؛ أو لانتقاد مبرري جريمة التحرش، أو الافتخار بامرأة مصرية أخرى حققت نجاحا مهنيا.
وبصورة أوسع، استُخدم “تيك توك”، بفيديوهاته القصيرة، بوصفه أداة لمؤسسات حقوقية، تعرض قضايا النساء وتدافع عن حقوقهن، كما في حالة انتقاد منع فنانة من دخول مهرجان سينمائي، وفرض وصاية على ملابسها؛ أو التضامن مع سيدة تُحاكم بتهمة “سب وقذف”، بعد دعمها لضحايا أمام متهم بارتكاب جرائم جنسية.
إلا أنه من الصعب رسم صورة وردية للتطبيق، بوصفه منبرا نسويا. فهو فعليا “منبر” لكل الأصوات، وتتكاثر فيه الفيديوهات المغرقة في ذكوريتها وكراهيتها للنساء. وهذا ما تؤكده دراسة جامعة “أم البواقي”، التي ذكرت أن “العالم الافتراضي لا يختلف كثيرا عن الحقيقي فيما يخصّ الاصطدام بالذكورية ووجهات نظرها”.
وبالتالي فإن “تيك توك”، بوصفه وسيلة للتعبير، لا يختلف كثيرا عن بقية التطبيقات، سواء بما يتيحه من فرصة للنساء، أو بما يؤدي اليه من عواقب ضدهن. وقد لا يكون التعبير عن الرأي هو سبب كل الحملة ضد التطبيق. بل مظاهر أكثر “نسائية”، من وجهة نظر المعترضين.
“دعارة إلكترونية“
حين يتعلّق الأمر في مصر بتهمة “نشر الفسق والفجور”، عبر تطبيق قد يستخدمه أبناؤك، فسترى بالتأكيد كثيرا من الدعوات المطالبة بـ”قبضة من حديد” ضد التطبيق الفاجر.
وجود نساء كثيرات على “تيك توك”، من مختلف الأوساط الاجتماعية، وبأداءات وأساليب تعبير متنوّعة، لا يمكن أن تتفق كلها مع “قيم الأسرة”، أدى لرعب شديد، ووصل الأمر ببعض المحامين حد التطوّع بإقامة دعاوى قضائية ضد مستخدمي تيك توك، خاصة السيدات، تحت مُسمّى “الدعارة الإلكترونية“، في خصومة قضائية مُستندة إلى أن ما يوصف بـ”اعتداء على قيم المجتمع والأسرة المصرية”، وغيرها من الاتهامات.
من وجهة نظر حقوقية فهذه الاتهامات محل انتقاد كبير، باعتبارها “مصطلحات غير محددة، وتخضع الإدانة فيها لرأي المحكمة”، مثلما يتم انتقاد الاتهامات المستندة إلى قانون مكافحة الدعارة، لأنها “لا تراعي التطوّر التكنولوجي”.
كما أن الإجراءات في هذه القضايا قوبلت بتحفّظ حقوقي، باعتبار أن الجهات المسؤولة “خلقت لنفسها دورا جديدا، تخطّت به التحقيق إلى التربية، باستخدام خطاب ذي مسحة أخلاقية دينية؛ لتكون جهة توجيه وإرشاد، لها حق فرض مراقبة جماعية على مستخدمي الإنترنت، بدعوى حماية ما أسمته الحدود السيبرانية”. بحسب تقرير مؤسسة “حرية الفكر والتعبير” المصرية.
وهذه “الحدود” رسّمتها جهة حكومية، مُستحدثة منذ عام 2019، اسمها “إدارة البيان والتوجيه والتواصل الاجتماعي”، والتي قيل إن هدفها “توقّي أسباب الجرائم وتحقيق الأمن والسلم الاجتماعي”. ما يتماشى مع خطاب أمني، غير راض عن “تيك توك”، إلى درجة ظهور اقتراح للحد منه، والدعوة إلى أن تُنتج مصر برامج مماثلة “يمكن التحكّم فيها”، بجانب الاحتفاء بوجود “إدارات في وزارة الداخلية” لرصد الفيديوهات.
باختصار، بات “تيك توك” ميدانا لمعركة جديدة، تتداخل فيها أجهزة الدولة على أعلى المستويات. لتحديد “القيم الصحيحة”. كما أنه بات مجالا لتوزيع شهادات العفّة على النساء. بين مَن نالت رضا السلطات الذكورية، باعتبارها “شريفة”؛ وبين مَن تُحيط بها الشكوك؛ وأخيرا مَن صارت مدانة بـ”الفسق”، بأوراق قضايا رسمية أو عبر مواد إعلامية.
ماذا يعني كل هذا سياسيا؟ ربما كانت الإجابة شديدة الصعوبة، ولكن يمكن الاكتفاء بالقول إن نساء مصر، وربما أيضا نساء الجزائر والمغرب وغيرها من الدول العربية، ما زلن يملكن مساحة يحقّ لهن “الوجود” فيها. كل السلطات تسعى لتقنينها ورقابتها والاستيلاء عليها، لكي تفصل فيها نموذج الشريفة/الخاضعة (التي ربما من الأفضل أن لا تستخدم تيك توك)، عن نموذج العاهرة/ضد الأسرية (ومكانها السجن)، وربما لذلك يجب الالتفات إلى تيك توك وسياساته.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.